وتبقى هذه الطنافس الأخيرة منها أكثر من الخمسين عاما، تطؤها الأقدام وتستعمل في الخلوات على التراب وغيرها وهي لا تزداد إلا جدة، وكلما تقادم عهدها كثرت قيمتها.
وسجادات سيواس هي من بدائع الصنعة في هذا العصر، عرف ذلك الأجانب وأدركوا رجحانها على سجادات الفرس، فأغلوا أثمانها وتنافسوا في اقتنائها وتسابقوا إلى الإكثار منها، وفي سيواس مصنع اليوتي الشهير وهو شركة بين المسيو آلبراليوتي والمسيو بيكر والمسيو داندريا، وتختلف قيمة ما يصنع من السجادات من عشرة إلى خمسين جنيها ثمنا للسجادة الواحدة.
ولا تقف المنسوجات السيواسية عند هذا القدر، بل هناك أنواع أخر من الصوف والكتان والقطن ، ينالها الفقير ويعجب بها الغني ويتخذها المسافر تحفة وتهاداها الأحباب فيما بينهم، ويوم تمد خطوط الحديد بين سيواس وصامسون يسعد أهلها ويكثر رزقهم وتتجدد فيهم العزائم.
المعارف في الولاية
إذا لم تكن سيواس أكثر ولايات الأناضولي جهالا فهي من أكثرها جهالا؛ ذلك بأن المسلمين طبعوا على حب قديمهم فلا يريدون الجديد منه بديلا، ولا تزال في خزانات بعض المتعصبين كتب طوت معارف هذا العصر لغوها، وينظر أولئك القوم إلى ما كلف به شباب هذا العصر من المعارف، فلا يجدون فيها لذة ويكرهون تداولها بينهم. هذا شأن من في بيوتهم كتب يقرءونها، فما ظنك بمن ليس في بيوتهم إلا المسدسات ولا البنادق! أما المسيحيون فهم فريقان: قليل من الروم وكثير من الأرمن، ففريق الروم لا يفوق المسلمين في حال من الأحوال، ولا مشابهة بينهم وبين من عرفت من روم الآستانة وإزمير وغيرهما، وقل فيهم الغني ومن له جاه أو منزلة تميزه عن غيره. وفريق الأرمن بمثابة من العلم والصناعة والتجارة لا يساميهم فيها أحد ولهم السبق في كل مضمار، ولولا ما دهمتهم به المذابح من نهب أموالهم وقتل سراتهم لبلغوا شأوا تقصر عنه الهمم.
والأرمن قوم أولو جد ونشاط، كلفون بالعلوم لا يستكف لهم شوق ولا تفل لهم عزيمة؛ فهم يتسابقون إلى مدارس اليسوعيين والبروتستانت وإلى مدارسهم الأهلية فيصيبون منها الحظ الأوفر، والمسلمون يصدون عن سبيل تلك المدارس خوفا أن تفسد على أبنائهم دينهم. وإذا خالفهم في رأيهم مخالف لجوا في الوقيعة به وأطالوا اجتنابه. وكم يرى نزيل سيواس في أهل الحرف وأبناء التجار من سكانها الأرمن شبانا إذا تكلموا بالفرنساوية أو بالإنكليزية ما شك أنهم تعلموها في مدارس أوروبا. وليس في أبناء الوجهاء من المسلمين خمسة يكتبون التركية ويؤدونها صحيحة. وليس في مدينة سيواس سوى مدرسة إعدادية واحدة وهي كأحسن ما رأيت من البنايات وأوسعها، وحظها من العلم كحظ الصخرة الصماء من النبت، والكتب التي تقرأ في هذه المدرسة كتب مهجورة لا يعرفها أكثر فضلاء هذا العصر، مثل كتاب المشذب في قواعد اللغة العربية، كل تصريف فعل نصر، فترى صحائفه حواشي وأنماطا بنصر ينصر نصر منصورا منتصرا مستنصرا منصرا متناصرا. واللغات الغربية لا يحسنها الأساتذة والعناية بعلوم الدين بالغة منتهاها.
سألت بعض المتقدمين من تلامذة تلك المدرسة أسئلة فيما يعاني من الفنون فبدا عليه العجز وبهت لا يجد جوابا، ثم سألته عن أركان الصلاة والصوم فانطلق انطلاق الصقر من وكره، فأخذ مني التعجب، فقلت: ما بالك تحسن الجواب في هذه القواعد وإذا بلغت إلى غيرها غلب عليك الوجوم؟ فقال: هذه من أمور الدين، لا يكون المسلم مسلما إلا بمعرفتها، أما تلك فليست من الدين في شيء. فاستشعرت في فؤادي حسرات على تلك الشبيبة وقلت: لقد بلغ بكم السفهاء مبلغا لا يرجى بعده خيركم. وأيقنت أن للبلاد العثمانية أياما باقية من الشقاء لا بد لها أن تستوفيها.
وفي سيواس جوامع عتيقة بها معاهد للعلم يسمونها مدارس، وهم يسمون المدارس مكاتب، وقد نحوت نحوهم في كثير من مواضع هذا الكتاب، وإنما يجاور في تلك الجوامع أناس من أهل البطالة فرارا من الجندية واكتفاء من الرزق بما لا يتجشم له تعب. فإذا أفلح في علومهم أحدهم رأى في نفسه مفرد العلم وخرج في طلب الوظائف أو جلس في المساجد يعظ الناس ويضل عقولهم ويميت نفوسهم بالتعصب. ولا يطهر الله البلاد العثمانية من هؤلاء القوم إلا بعد سنين عديدة أقلها عصر وأكثرها عصران.
ومن تمام البلية أن نظارة المعارف تتخذ أساتذة مدارسها من رجال تشفع فيهم القرابات والوصايات وما يهبون لبعض رجالها من المال، فلا تختار ولا تمتحن. والتلامذة يذهبون إلى مدارسهم ومعهم الأسلحة من مسدسات وخناجر ينازل بعضهم بها بعضا. وقد يكمنون في الطريق لمن يشدد عليهم العقاب من الأساتذة ولمن يخافونه عند الامتحان، فيخرجون عليه متوعدين ولا يفارقونه إلا إذا حلف لهم الأيمان المغلظة أن يراعي جانبهم. وهذه معايب ما أظن أن لها أشباها في سائر أقطار الأرض.
آثار القدماء في سيواس
Halaman tidak diketahui