فقلت للرجل وقد فهمت ما يريد: وما يعنيني يا أخي من حديثك هذا؟ إني امرؤ لا أحب الجواسيس ولا أجد لذة في استماع أخبارهم. - أنا لست من الجواسيس الذين يتسلطون على الناس فيؤذونهم من غير داعية إلى ذلك، ثم إني لا أسترق أحاديث أصحابي ولا أخفي عنهم شيئا من أمر تجسسي، ولكنني أوذي من يبادئني بالشر. هذا أمضى سلاح يحمله العاقل. - يا سيدي، ما بينك وبيني سابقة وداد ولا دالة؟ ما لي أنا ومهنتك وعادتك وسلاحك؟ أنا رجل منفي مبغض إلى السلطان وإلى كل مخلص له، دعني وما أنا فيه والتمس لك غيري. فرحل عني الخبيث حاقدا وأضمر لي الانتقام. وبينا أنا في داري ذات يوم وإذا رسول من الوالي يستقدمني إليه، فأجبت مسرعا وأدخلت عليه ساعة وصولي، فتلقاني بوجه لم آنس إليه واستدناني منه وأمر ألا يدخل علينا ثالث، ثم التفت إلي فقال: ألم أقل لك يا فلان إن في البلدة جواسيس وإن رزقهم موصول بقطع أرزاق الناس؟ - بلى، قال سيدي ذلك. - إذن، فما حملك على أن تجلس إلى برويستاكي تحادثه وتقول له: إن لديك جرائد مصرية تريد أن توزعها على الأحرار الذين بسيواس؟ - لم أقل شيئا من ذلك. - أنا أعلم أنك لم تقل؛ لأن المراقبة على البريد شديدة، ولا تستطيع أن تستجلب عددا من جريدة مصرية إلا ويقع في أيدي المراقبين، ثم أعرف أنك معتزل مطالعة الجرائد وأنك رضيت لنفسك العزلة عن الناس دفعا لشرهم واتقاء لمفترياتهم، فسرني ما عرفت من حالك، ولكن ترجمان الولاية كذب عليك هذه الكذبة وقد صادفت أذنا مصدقة، فكتب إلي بعض المقربين يسألنا عنك ويستخبرني عما زعمه الزاعم. وإني سأدفع عنك كل ريب. غير أني لا أضمن لك النجاة كلما وقعت وقعة، فاحذر بني ولا تقبل زيارة أحد من هؤلاء.
فأثنيت على مروءة هذا الأمير بما استطاع لساني وخرجت من عنده وكل روحي معجبة به، وما بلغت المنزل إلا وفي يد والدتي خطاب تقرؤه، وإلى جانبه آخر أشارت بيدها أن خذه إنه لك. فالتقطت الكتاب وإذا هو من عند شقيقي يوسف حمدي يكن، فأخذت في قراءته فما راعني إلا خطوط سود مدت على سطوره فأخفت كلماتها، فحاولت حل تلك الرموز التي نسجت عليها دار البريد نسجها الأسود، فما استطعت مضيا، فعن لي أن أضع الكتاب على لوح من الزجاج من ألواح الكوى ففعلت. غير أني لم أستخرج إلا كلمات كقوله: بعض الباشاوات، وعصابات مكدونيا، وانهزمت العساكر. فعلمت أن شقيقي أراد إخباري بوقائع جرت في الروملي وأن مراقبة البريد استطلعت ذلك فمحته، فأسفت على ما فاتني من العلم بتلك الوقائع ولكنني كتمت تأسفي وأرسلت كتابا ألوم فيه شقيقي على تعرضه لأمور لا حاجة لي بها.
كلمة في الأناضولي
ما اتخذت حوادث الأيام مستقرا لها مثل الأناضولي. عصفت عليها رياح الشدائد، وفيها انتهت إلى السكون. من عهد رمسيس أو قبله، اشتدت فيها همم الفاتحين وتراخت. ما برحتها خيول الفراعنة إلا أقبلت عليها جياد اليونان، ثم تعاقبتها الدول مثل الأرمن والرومان ومن بعدهم إلى أن قادت إليها المقادير بناة الملك العثماني، فانتشروا في أرجائها ولا يزال ملكهم بها قائما.
أرض ذات جبال وأفلاء وكهوف وأحقاف وبحار وأنهار وعيون متفجرات، مترامية الأطراف، لا يبلغ ذرعها ولا يسبر غورها، إحدى حدائق آسيا، تفرد بالغرابة أنسيها ووحشيها، منبت الغالبين والمغلوبين، مرتقى الحضارة ومهوى البداوة، تجاورت فيها شعوب مختلفات عادات وألسنا، فلا كر الزمان ألف بينها ولا طول العشرة استحدث فيها توادا، بل قطعت العصور متغايرة متنافرة حتى بات كل شعب وكأنه عدو لجاره.
لم يفتحوا كنوز الأرض فيستخرجوا دفائنها ولم يستثمروها بحرث ولا بسقي فيؤتوا أرزاقهم منها. غفلوا عما يجب وانطلقوا يأكل بعضهم بعضا أكلا.
وقد كان من حق فاتحيها أن يعلموا أهلها لسانهم وأن يدخلوهم فيما دخلوا فيه، فلا يأتي زماننا إلا وقد استقر كل في قراره، وأصبحنا بعد ذلك وليس بيننا تنابذ بالدين ولا بالأصل. غير أن الأمر لم يكن كذلك، وليتهم إذ لم يدخلوا الإيلاف بين تلك القبائل على ما ذكرت ألفوهم بتعليمهم أو بوصل الأنساب بينهم، فكانت أواصر القربى أشد من الدين واللسان جذابا، ولكنهم ما فطنوا لهذا الرأي، ولو فطنوا له لقام في وجوههم جفاة المتورعين قومة رجل واحد.
فأما وقد سها الماضون عن هذه الدقائق فكان على أعقابهم أن ينظروا فيها ويحكموا السياسة من وجهة أخرى، ولا أرى تدبيرا يفيد بلادنا مثل عدم المركزية. هذا رأي يفزع أكثر الساسة عند سماعه، ولو أطالوا فيه النظر لبدت لهم محاسنه في أحسن الصور.
سبعمائة عام مضت والأناضولي في ذمة العثمانيين، كل دولة قامت ثم وقعت تركت فيها أثرا، والدولة العثمانية وهي لا تزال قائمة لا أثر لها في بلادها، وما ذاك إلا لأن العز بالسيف عز لا بقاء له، ولأن النجدة لا تسد خلة تحتاج الحكمة، والأسلاب والغنائم كسب المعتدي أو كسب الناهب؛ فهي أقل بقاء من الظل، وإنما يغتبط بها من اتخذ ساعده مشاوره ولم يرض صاحبا إلا قائم السيف، وأشهد اليوم أني من أمة فاتحة ذات بأس ونجدة وليست بذات رأي وسياسة.
لقد بلغت الدولة العثمانية في أيام سليمان القانوني أقصى غايات المجد والسؤدد، ولكنه لم يستكف له طماح، ما وقعت نظرته على بلد في الخريطة إلا واشتهتها نفسه. ما حمله على أن يعبئ تلك الفيالق ويسير على أوروبا. قد كان له سيف ماض وكان من حق ذلك السيف عليه أن لا يصدأ في غمده، وكانت له كتائب تموج بصناديد الرجال وكان من حقهم عليه ألا يتعودوا لين المضاجع، فجعل تاجه علمهم وسار بهم يطأ الخدود ويتخطى الرءوس من معقل إلى معقل ومن ساحة قتال إلى ميدان ظفر، يلعب بالتيجان ويستريح في قصور الملوك حتى انثنى وفي كل شعرة من شعرات جسمه قطرة من دم.
Halaman tidak diketahui