Abu al-Ala al-Ma'arri Zawbat al-Duhur
أبو العلاء المعري زوبعة الدهور
Genre-genre
في هذه الحقبة الثائرة المضطرمة وبعدها وجد أبو العلاء. جاء وجميع هذه الآراء في طور النضج، ولكنها لم تؤت ثمرا يؤكل ولا يرتكز عليه عقل ذلك الفتى، فحاول أن يخلق منها جميعا شيئا واحدا بعينه.
وكانت ثورات اجتماعية تغذيها فكر دينية؛ فهناك القرامطة يغزون الشعوب المسلمة الآمنة، ويهتكون المحارم باسم دعوتهم، وهناك الفاطميون يدعون هؤلاء القرامطة إلى الثوبان إلى الحق والإخلاد إلى السكينة مبينين لهم صدق الفاطمية، وبطلان قرمطيتهم، كما يتضح مما كتبه المعز إلى زعيم القرامطة الحسن الأعصم يقول:
فما من ناطق نطق، ولا نبي بعث، ولا وصي ظهر إلا وقد أشار إلينا ولوح بنا ودل علينا في كتابه وخطابه، ومنار إعلامه ومرموز كلامه فيما هو موجود غير معدوم، وظاهر وباطن يعلمه من سمع النداء، وشاهد ورأى من الملأ الأعلى. فمن أغفل منكم ونسي، أو ضل أو غوى، فلينظر في الكتب الأولى والصحف المنزلة، وليتأمل في القرآن وما فيه من البيان، وليسأل أهل الذكر إن كان لا يعلم؛ فقد أمر الله عز وجل بالسؤال فقال:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
ومع هذا فما من جزيرة في الأرض ولا إقليم إلا ولنا فيه حجج و«دعاة» يدعون إلينا، ويدلون علينا، ويأخذون تبعتنا، ويذكرون «رجعتنا» وينشرون علمنا، وينذرون بأسنا، ويبشرون بأيامنا بتصاريف اللغات واختلاف الألسن ... فيا أيها الناكث الحانث، ما الذي أرداك وصدك؟ أشيء شككت فيه أم استربت به، أم كنت خليا من «الحكمة» وخارجا عن «الكلمة»؟ ... حتى انقلبت على الأدبار، وتحملت الأوزار، لتقيم «دعوة» قد درست ودولة قد طمست. إنك لمن الغاوين، وإنك لفي ضلال مبين.
وكانت الأقاليم والأمصار تتذبذب بين تلك الدعوات تتحدث عنها - كما نتحدث نحن اليوم عن شئوننا العظمى وحوادث دهرنا الجلى، عن البلشفية والنازية والفاشية، وعن ظهور المسحاء؛ فقلما خلت برهة من معتوهين يدعون أنهم ذاك المنتظر بالمرصاد - وكان الناس عامتهم وخاصتهم للفاطمي المنتظر بالمرصاد، ينتظرونه ويروون عنه الغرائب، كما يرقب الفلكيون مذنب هالي الذي تحدث عنه أبو تمام، فيخافونه ويخافون منه على كرتهم الأرضية ويخوفون الناس به، والأرض ما زالت أرضا، وعقول بنيها هي هي.
وفي ليلة من ليالي الدهر العابس المضطرب كان فريق من أهل المعرة في دار قاضيهم عبد الله بن سليمان - والد أبي العلاء - يتذاكرون أخبار الحوادث وماجرياتها في دولة القاهرة الجديدة، يتحدثون عن عظمة الملك الفاطمي في عهد المعز بالله، وكيف حور الفاطميون وبدلوا حتى في الأذان، فقالوا: «حي على خير العمل» بدلا من «حي على الفلاح»، ثم جرى حديث المهدي، ذلك الإمام المنتظر: «فلا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي على الممالك الإسلامية، ويسمى بالمهدي، ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح على أثره، وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله، ويأتم بالمهدي في صلاته» (مقدمة ابن خلدون: ص311).
فتذكروا عند هذا الحديث فقرة من كتاب المعز لدين الله الفاطمي الفاتح إلى الزعيم القرمطي الثائر عليه الآنف الذكر، فانحرف مولانا القاضي إلى صندوقة كانت إلى يمينه فأخرج منها كراسا ودفعه إلى أحدهم فقرأ ما فيه على الجماعة، وها نحن نورد منه أيضا هنا ما يعني بحثنا هذا: «فإن اعتبر معتبر، وقام وتدبر ما في الأرض وما في الأقطار والآثار وما في النفس من الصور المختلفات، والأعضاء المؤتلفات، والآيات والعلامات والاتفاقات، والاختراعات والأجناس والأنواع، وما في كون الإبداع من الصور البشرية، والآثار العلوية، وما يشهد به حروف المعجم، والحساب المقوم، وما جمعته الفرائض والسنن، وما جمعته السنون من فصل وشهر ويوم، وتصنيف القرآن من تحزيبه، وأسباعه، ومعانيه، وأرباعه، ومواضع الشرائع المتقدمة، والسنن المحكمة، وما جمعته كلمة الإخلاص في تقاطيعها وحروفها وفصولها، وما في الأرض من إقليم وجزيرة وبر وبحر وسهل وحقل وطول وعرض وفوق وتحت، إلى ما اتفق في جميع الحروف من أسماء المدبرات السبعة والأيام السبعة النطقاء، والأوصياء والخلفاء، وما صدرت به الشرائع من فرض وسنة وحدود. وما في الحساب من آحاد وأفراد وأزواج وأعداد، تثاليثه وترابيعه، واثنا عشرينه وتسابيعه، وأبواب العشرات والمئين والألوف، وكيف تجتمع وتشمل على ما اجتمع عليه، وما تقدم من شاهد عدل، وقول صدق، وحكمة حكيم، وترتيب عليم ... وليعلم من الناس من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أنا كلمات الله الأزليات، وأسماؤه التامات، وأنواره الشعشعانيات، وأعلامه النيرات، ومصابيحه البينات، وبدايعه المنشآت، وآياته الباهرات، وأقداره النافذات، لا يخرج منا أمر، ولا يخلو منا عصر، وإنا لكما يقول سبحانه وتعالى:
ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم .
فاستشعروا النظر؛ فقد نقر في الناقور، وفار التنور، وأتى النذير بين يدي عذاب شديد، فمن شاء فلينظر، ومن شاء فليتدبر، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ... وكتبنا هذا من فسطاط مصر، وقد جئناها على قدر مقدور، ووقت مذكور، فلا نرفع قدما ولا نضع قدما إل بعلم موضوع، وحكم مجموع، وأجل معلوم، وأمر قد سبق، وقضاء قد تحقق.»
Halaman tidak diketahui