الذي كان شابا آنذاك، وربما كان معنا أيضا عالم آثار بلجيكي، وقد كنا منسجمين تماما؛ فقد كان الجميع ذوي أمزجة مرحة بالرغم من سفر القطار الطويل المتعب. وكان طه، منذ المساء الأول لوصوله إلى الفندق، محاطا بشبان كان من بينهم سامي الكيالي الذي سنراه مرارا في السنوات التالية. كان كاتبا شابا، وقد تعرف على طه منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها. وأراد في اليوم التالي أن يجمعنا بأخيه الذي كان مفتيا. لم يسبق لي أن رأيت في القاهرة بيتا مسكونا عربيا حقا شأن هذا البيت الذي استقبلنا فيه هذا الإنسان الجليل، فعندما اجتزنا الجدران التي كانت تعزله كليا عن الشارع (وقد وجدت ذلك في غرناطة)، دخلنا الباحة الداخلية، وهناك ... ماذا أرى؟ أشجار الليلك المزهرة! لم أكن قد رأيت مثلها منذ وصولي مصر. لقد كنت دوما سريعة الانفعال إلى حد ما، وها هي عيناي تدمعان. وإذ لاحظوا ذلك، هرعوا لقطف غصن جميل وحملوه إلي، فاحتفظت به حتى وصولنا القدس.
وأتاح لنا سامي فرصة مشاهدة البساتين الشهيرة التي تحيط بحلب، بساتين أشجار الفستق واللوز. ولقد كان يرسل لنا من هذا الفستق اللذيذ بعض العلب في بعض الأحيان.
أما في نظر طه فإن ما اهتم له بطبيعة الحال كان القلعة والذكريات الفريدة التي احتفظت بها هذه المدينة التي، وإن كان طابعها العربي واضحا تماما، لا أدري - ولعله أمر غريب حقا - لم كنت أرى فيها شيئا من الطابع الآسيوي.
وفي بعلبك، يعود ليعيش ثانية بسعادة في الجو الكلاسيكي الذي كان يجد فيه راحته.
دخلنا فلسطين من مدينة حيفا، هذه المدينة القبيحة، لا أدري أي هواء كنا نستنشق فيها، ولعل من العدل أن أقول أي هواء كنا نحاول أن نستنشقه؛ إذ على الرغم من البحر، فقد كان الهواء خانقا، وكنت أشكو فيها دوما ألما في القلب. كان علينا أن نذهب إلى كفر ناحوم مع بقية أعضاء المؤتمر، إلا أن هذه الرحلات الطويلة كانت قد أتعبتني إلى حد أعلن معه طه عن عدوله عن الذهاب إليها وقرر أن نذهب إلى القدس فننتظرهم هناك. وقد طلب إلينا أحد رفاقنا، وهو شاب إنجليزي، أن يشاركنا سيارة الأجرة، وعلى الطريق توقفنا ثلاثتنا عند مسجد نابلس.
القدس ... كان عمي القس قد وضع مشروعا لزيارتها بصحبتنا، إلا أنه لم يجد الوقت لتنفيذه. كنت أدخل هذه المدينة أحمل معي ذكراها وأسفا مؤلما. كان الانفعال الذي توقعته قد هزني، ومع ذلك لم نكن أحرارا، ولم يكن قضاء أيامنا يتوقف على إرادتنا نحن الذين كنا نرغب أن نقضيها بصورة مختلفة. وكانت جلسات المؤتمر والدعوات التي وجهت لنا من قبل المفوض السامي «السير رونالد ستور
Sir Ronald Storr »
116
والجامعة العبرية، وزيارات الناس الذين كانوا يريدون مقابلة طه تمتص معظم وقتنا. كنا نقيم في قلب المدينة القديمة، ولم يكن فندق الملك داود قد بني بعد. وكنا نعود إلى الفندق الذي نزلنا فيه عن طريق السلالم التي تفضي بنا إليه عبر طرقات متعددة، حاملين حقائبنا على ظهورنا، وقد صادفت من فوري حمارا صغيرا يحمل قربة ماء كبيرة؛ كان موزع ماء شجاعا، هذا الماء النادر دوما. ومنذ المساء الأول استأثر الزوار بطه، وبقي أحدهم بصحبته حتى الساعة الثانية صباحا. كنت وحيدة مع طه في هذه الرحلة، ولم أكن أستطيع تركه، وكنت أقاوم النعاس والسأم بشكل يائس.
لم يكن فندقنا بعيدا عن كنيسة القيامة. كان الوقت وقت عيد الفصح والحج. وكان ثمة حاج قبطي، كما كان هناك عائلات قد أقامت على السطح بأكملها وسط رائحة قلي الطعام النفاذة. ولقد كانت عقليتي الغربية تدهش وتصدم، غير أن الأب الدومينيكاني الذي كان يرافقنا وضح لي الأمور، وعلمني أن أكون أكثر تواضعا، وصلينا، كل في قلبه، في مسجد عمر وفي الجثسيماني.
Halaman tidak diketahui