ولما فرغوا من أداء الفريضة اتجه عبد الله خاشعا إلى السماء وجعل يدعو الله أن يرزقه العافية في أصحابه وأن يجعله فداء لهم إذا قدر لأحد أن يصاب في الغزوة المقبلة. ثم قاموا يستعدون للرحيل من ليلتهم متى اعتدلت الريح في تجاه بر الأناضول.
وسارت السفينة تحمل الكتيبة الصغيرة حتى غاب عنها الشاطئ ومن كان هناك من قواد الجيش الذين أرسلهم معاوية بن أبي سفيان أمير الشام ليشيعوا أول سفينة محاربة. وبعد أيام لاحت للسفينة شواطئ الروم، ووقف عبد الله يقلب بصره في السماء يشكر الله على سلامة أصحابه في تلك الرحلة الأولى. ولكنه رأى عند الأفق نقطة سوداء تلوح من بعيد كأنها سحابة غبار قاتم، ووقع في نفسه أنها من تلك السحب القاتمة التي تنذر باقتراب عاصفة. ولم تمض بعد ذلك إلا لحظات حتى انتشرت النقطة السوداء وارتفعت من حولها سحابات كأنها نفثات هائلة من الدخان تمتد في أنحاء السماء، وبدأ الهواء يضطرب وأخذ وجه الماء يتجعد، فما هي إلا ساعة حتى اشتدت الرياح وجعلت تتقاذف بالسفينة. فنظر عبد الله إلى أصحابه وكانت وجوههم تنطق بما في قلوبهم من الثبات، ولكنها كانت أول مرة يواجهون فيها السماء الغاضبة في لجة الماء. فصاح بهم عبد الله صيحة مرحة، واندفع يعالج القلوع ويديرها بيدين ماهرتين، وبادر أصحابه يساعدونه وهو يشير عليهم بما يفعلون، والسفينة في وسط الأمواج كأنها ريشة في مهب الهواء.
ومضت ساعة طويلة والعاصفة تزأر والمياه تفور من أعلى السفينة وأسفلها وهم يجاهدون الرياح والأمواج حتى بدت ثغرة زرقاء في أفق الشمال، فاستبشر عبد الله إذ دلته تجربته الماضية أن ذلك بدء انجلاء الغمرات. وبعد حين رها الهواء وهدأ الماء وعادت السفينة تطمئن على بقايا الموج، وانقشعت العاصفة كما بدأت فجأة، ولمعت الشمس وضاءة في السماء الصافية كأن لم تكن هناك زوبعة هوجاء كادت تهلك السفينة ومن عليها. ونظر عبد الله إلى أصحابه باسما، وقد أسفرت وجوههم وأقبلوا نحوه مستبشرين بالخروج من الغمرة الشديدة، فحل شملته ولوح بها فوق رأسه في الهواء وصاح بصوت فيه رنين الفوز قائلا: «الغمرات ثم ينجلينا.»
فهتف أصحابه من بعده في حماسة يرددون هتافه، وقام عبد الله فيهم إماما ليصلوا شكرا لله.
ووصلت السفينة إلى الشاطئ عند غبش الفجر، ونزلت الكتيبة إلى الأرض الصلبة التي لا تميد بهم إذا ساروا ولا تغوص بهم إذا اشتد عصف الرياح، وتصايحوا يهنئ بعضهم بعضا بالتجربة الكبرى التي علمتهم أن الغمرات لا بد أن تنجلي إذا ثبت لها من يقتحمها.
وركبوا خيولهم التي أتوا بها معهم فصعدوا في بطن الوادي الذي نزلوا عنده، وأوغلوا في الأرض ليتموا ما جاءوا من أجله، وهو لقاء الروم. ثم دارت معركة.
وكانت الشمس تسطع فوق الوادي عندما انثنى عبد الله برجاله بعد الموقعة الظافرة عائدا إلى الشاطئ، فلما بلغه وقف يتفقد أصحابه ليرى ما أصابهم من المعركة، فلما انتهى إلى آخرهم وعرف أنهم لم يصابوا إلا بجراح يسيرة خر ساجدا لله الذي استجاب إلى دعوته. ولما فرغ الفتيان من تضميد جراحهم أقبل عليهم عبد الله مرة أخرى ولوح بسيفه في الهواء صائحا صيحته: «الغمرات ثم ينجلينا.» وردد الفتيان صيحته في حماسة، ورددتها معهم الأصداء المتكررة بين جوانب التلال.
وذهبوا يقصدون السفينة في المرفأ، فوجدوا هناك جمعا من فقراء أهل القرى المجاورة جاءوا إلى هناك يحسبون القادمين تجارا يلتمسون منهم الإحسان، فلما اقتربوا منهم جفلوا خائفين وكان أكثرهم صبية ونساء. ولكن الفرسان وثبوا عن أفراسهم، وذهبوا إلى الماء يغتسلون ويتوضئون، ثم وقفوا صفا وراء عبد الله بن قيس يؤدون الصلاة.
وتجرأ الصبية فتقدموا نحوهم ينظرون إلى حركتهم في القيام والسجود، وتجرأ من بعدهم النساء، فتقدمن يتصفحن الوجوه ويتأملن ملامحها، وينظرن إلى قامات الفتيان وهيئتهم، ويعجبن من غرابة ملابسهم. فلما انتهت الصلاة تقدم بعض الصبية في تردد حتى وقفوا بين الفتيان وهم يستعدون للرحيل، فأقبل هؤلاء عليهم يمسحون رءوسهم ويبتسمون لهم، ويلقون إليهم بقطع من الفضة والنحاس. وتقدم بعدهم النسوة في أسمالهن حتى وقفن بينهم يتحدثن باسمات ويسألنهم العطاء، فمد الفرسان أيديهم إليهن بالعطاء ثم غضوا الأبصار عن بسماتهن وساروا نحو السفينة وفي أيديهم لجم الخيل، حتى ركبوا جميعا وحلوا القلوع وشقوا رءوس الأمواج.
ومرت بعد ذلك سنة في إثر سنة، وتوالت غزوات الفتيان على سواحل الروم، وزادت جرأتهم على البحر، فكانوا يقتحمونه في الشتاء كما يجوبونه في الصيف، وعرفوا مسالكه في ظلمات الليل، كما عرفوا مساربه بين شعاب الخلجان. وكانوا يعودون من كل غزوة ملتفين حول قائدهم الذي دب الشيب إلى فوديه من صراع تلك السنين المليئة بالأحداث.
Halaman tidak diketahui