109

فقال في حماسة: سأعود إليها، بل سأذهب من أجلها. سأحمل السلاح مع المجاهدين من أجلها. دعني أذهب معك لأسند لك الجرحى على كتفي أو لأخترق صفوف النار لأحملهم إليك. قلت لك إني ذاهب.

فمددت إليه يدي مصافحا وأنا صامت في تأثر شديد من إخلاصه وشهامته الساذجة. وانصرف على موعد ليقوم معي إلى القاهرة في صباح اليوم التالي.

ومن القاهرة بدأنا الرحلة إلى أرض فلسطين بعد أسبوع، وكان حسين محجوب سائق السيارة التي أقلتني مع رفاقي؛ لأنه كان من أمهر سائقي السيارات.

ولا حاجة بي أن أفصل مشاهد الحرب التي خضناها معا في فلسطين، فإنها تذكرني بآلام تدمي القلب وتثير الحقد والحنق، لا لما كان فيها من أعباء ومشقات في الجهاد، بل لسبب آخر يعرفه الجميع. لم نشعر في حرب فلسطين بالأعباء ولا بالمشقات؛ لأننا كنا نجاهد في سبيل خدمة إنسانية يرتاح الإنسان فيها إلى بذل كل تضحية. ولكن الذي يدمي القلوب هو رؤية ضحايا أرض فلسطين الذين جاء إليهم قوم من وراء البحار لينزعوا منهم وطنهم ويطردوهم منه. كنا نرى النساء والأطفال يسيرون في الفضاء بلا مأوى ولا طعام، والخوف يذهلهم عن المأوى والطعام. لم نشعر بألم ولا بمشقة ونحن نجاهد لنرجع هؤلاء المساكين إلى ديارهم التي طردوا منها حتى نزيل عن أهل هذا العصر معرة اعتداء شنيع لم يسبق للعالم أن شهد مثله. لم يسبق لجنكيزخان ولا لتيمورلنك ولا أثيلا أو أي همجي وحشي أن يغزو بجموعه أرضا لكي يطرد منها أهلها حتى يموتوا في العراء. كان الموت نفسه هينا في أنظارنا لو استطعنا أن نضحي بحياتنا في سبيل إعادة الأطفال والنساء المساكين إلى ظل المنازل التي أخرجوا منها وإلى حظائر أسراتهم التي شردت أبدادا.

ولا أريد أن أطيل في وصف مشاهد البطولة التي كانت تتكرر كل يوم في ميادين الجهاد، فقد كانت حرب فلسطين جهاد أبطال بالرغم مما يقوله الثرثارون في سخافاتهم. وحسبي أن أقول إن تلك الحرب كانت نعمة علينا وإن كانت في صورة كارثة، فإن الأمم لا تخلق على مهود السلام، والآلام وحدها هي التي تحفز الأمم لمواجهة الحياة. وقد أظهر حسين محجوب من آيات البطولة ما لا أستطيع وصفه إلا بقولي إن بطولته كانت جديرة بأرض الأنبياء.

ولكن بطولته كلفته ما هو أثمن من الحياة. وعدت من فلسطين وحدي وخلفت صديقي حسين في أرض فلسطين حيث لا أدري، فقد خرج وحده ذات ليلة إلى صفوف القتال ليسعف بعض المجاهدين الذين سقطت بهم طائرة وراء خط النار، ولكنه لم يعد ولم نقدر أن نعثر له على أثر في المكان الذي وقعت فيه الطائرة المحطمة.

ولا أستطيع أن أصف الحزن الذي أصاب القرية ولا أثر تلك الكارثة على قلب مبروكة المسكينة. لقد خلا مكان حسين في القرية وأحس كل فرد من أهلها وحشته، وأما مبروكة فإنها انطوت صامتة على قلبها الدامي، لم تصرخ البائسة ولم تلطم وجهها، بل كانت تئن أنينا متقطعا في صمت، واعتزلت وحدها فكانت لا تكاد تخرج من بيتها إلا لتحمل الطعام إلى أبيها وأخيها بعد الغروب إذا سهرا على الماء لري الزراعة. وحال لون وجهها وذبلت عيناها وفارقتها ابتسامتها، فأصبح وجهها ساهما يزيده كآبة لون ثيابها السود التي استمرت تلبسها.

وفي ليلة نصف شعبان ذهبت إلى القرية لأصلي وأقرأ الدعاء المعتاد في مسجد القرية ترحما على صديقي المسكين وحفظا لذكراه، وسمعت في تلك الليلة قصة عجيبة:

كان القمر يشرق على الفضاء من بين رءوس النخيل الذي يحف بالطريق الذاهب من القرية إلى منحنى الترعة حيث الساقية التي اعتاد حسين أن يجلس إلى جوارها لينشد ألحانه. وكان النسيم يهز أوراق أعواد الذرة التي في الحقول على جانبي الطريق فيسمع لها حفيف كأنها أرواح يوشوش بعضها بعضا. وخرجت مبروكة من القرية تحمل على رأسها طبقا من الخوص تبدو منه أطراف الأرغفة الواسعة التي أعدتها قبل المساء. وسارت تتلفت على الجانبين وحفيف الأوراق يخيل إليها أنها أصوات خافتة تناديها باسمها، وخيل إليها أن تلك الأصوات تشبه صوتا تعرفه عندما كان حسين يناديها وهي تمر من هناك. فأخذت تقرأ آية الكرسي لتثبت قلبها، ولكن الدموع طفرت من عينيها وغاص قلبها في أعماق صدرها. ولما مرت بقرب الساقية خيل إليها أنها تسمع صوت سلاميته تعزف لحنا حزينا كأنه ينبعث من العالم السماوي. وأسرعت مبروكة في خطاها لتصل إلى الحقل، وخيل إليها أنها تسمع صوتا يناديها باسمها مرة أخرى. وأسرعت أنفاسها من الخوف وصاحت تنادي أخاها من بعيد لتشعر بالأنس إذا سمعت صوته يرد عليها. ولكنها سمعت الصوت الذي يناديها يعود مرة أخرى، فالتفتت مذعورة نحو الساقية وخيل إليها أنها ترى شبحا يقترب نحوها في ضوء القمر وهو يتكئ على عكازة. كان بغير شك يشبه صوت حسين ابن خالتها، ولولا أن الشبح كان يتكئ على عكازة تحت إبطه ويقبل نحوها يعرج في مشيته لقالت إنه هو. وسمعت أو خيل إليها أنها تسمع صوته يقول: «أنا حسين يا مبروكة!» فخانها التجلد وانطلقت منها صرخة عالية شقت الليل الساكن كما يشق الشهاب الناري جوف السماء، وألقت الطبق عن رأسها وولت تجري نحو الحقل وهي تكرر صرخاتها وترتعد كورقة في مهب الرياح.

وأسرع الأب والأخ إليها، فأسنداها وهي تترنح حتى أقعداها على جانب المسقاة، واغترف لها أبوها حفنات من الماء لتشرب حتى يزول عنها أثر الذعر. وأخذ يمسح على رأسها ويقرأ اسم الله وسورة الفلق وبعض تعاويذ يحفظها. ولما استطاعت أن تنطق وقصت عليهما ما رأت وما سمعت أخذ الرجلان هراوتيهما وأسرعا بها نحو القرية وهما يقرآن اسم الله في أذنيها. ولما مرا بالساقية لم يكن هناك سوى البقرة تدور مغمضة العينين خاشعة تحت النير الغليظ، وقال الأب لابنته: «ليس هناك شيء يا مبروكة.» فلم تجب، بل سارت مطرقة حتى وصلت إلى القرية فرقدت على فراشها فوق الفرن، والتف حولها النساء يتحدثن عن قصص الأرواح التي تظهر أحيانا بعد الموت للأعزاء. وهل عجب أن يعود روح حسين محجوب من العالم الآخر ليزور معاهد حياته الأولى وينادي الذين تعلق بهم في هذه الدنيا؟ واعتقد الجميع أن تلك آية جديدة على صدق محبة حسين المسكين لابنة خالته مبروكة، وقالوا إنها زيارة قصيرة ثم عاد إلى عالمه السماوي.

Halaman tidak diketahui