قال أبو العلاء:
هل مازن وهوازن القبيلتان في ملك الله إلا كمازن النملة، والهوازن من الطير النافرة؟ وكذلك كلاب بن ربيعة، وكلب بن وبرة، إنما هما كلب مفرد، وكلاب مستنبحة. وقضاعة بن مالك كالدابة الخارجة من خضارة، وقريش كذاك، وفرقد السماوة كفرقد السماء، والجرباء ذات النجوم بمنزلة الناقة الجرباء.
7
وفي أثناء هذا اللعب الفني الكثير بالألفاظ والمعاني على اختلافها وتباينها يلقى أبو العلاء هنا أو هناك هذا الفصل أو ذاك، فيضطرك إلى أن تقف حائرا مبهوتا، تسأل ماذا أراد، وإلام قصد، وفيم فكر. ولا تكاد تطيل النظر في هذا الفصل أو ذاك حتى تستكشف أن أبا العلاء قد عرض لمشكلة من أشد المشكلات الفلسفية خطرا، فأمضى فيها رأيه الذي خطر له في اللحظة التي كان يكتب فيها، وأمضاه مسرعا لبقا كأنما يسترقه منك استراقا، أو كأنما يسترق طريقه إلى نفسك، فيلقي فيها هذا الرأي الخطير مسرعا، ثم يمضي في طريقه فيستأنف فصلا من هذه الفصول المألوفة التي يكثر فيها العبث اللفظي، والمعاني القريبة.
ولأضرب لذلك مثلا هذا الفصل الذي تقرأه فتبتسم وقد تضحك، ولكنك لا تكاد تمضي في قراءته حتى يأخذك شيء من الدهش، يعظم قليلا قليلا، فإذا فرغت من قراءة الفصل وقفت حائرا مبهوتا، ثم لا تكاد تفكر حتى ترى أنك بإزاء مشكلة من أخطر المشكلات. فاقرأ هذا الفصل أولا:
يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النير وسنير، حتى يريا كفرسي رهان، وينزل الوعل الرعل من النيق، ومجاوره السوذنيق، حتى يشد فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القدرة يسير. سبحانك ملك الملوك، عظيم العظماء!
8
أترى إلى هذا الإنسان الذي صوره أبو العلاء بخياله هذا الغريب ناظرا بقدميه، ماشيا على رأسه، سامعا بيديه، باكيا بأصابعه، ذائقا بأذنيه ؟! أترى إلى هذين الجبلين قد استقر أحدهما في الشام، والآخر في نجد، وقد جمع بينهما في قرن فهما يستبقان؟ أترى إلى الوحش التي ألفت أعالي الجبال، وقد تغير إلفها، فاطمأنت في السهول المنخفضة؟ أترى على الجملة إلى هذه المفارقات التي تكثر في الفصول والغايات كثرة تثير الدهش حقا؟ ماذا أراد بها أبو العلاء؟ أما ظاهر هذا الفصل فواضح لا غموض فيه، فأبو العلاء ينبئنا بأن قدرة الله شاملة، تسع كل شيء ممكن في رأي العقل، وأن هذا العالم كما هو ليس إلا صورة ممكنة من صور أخرى ممكنة أيضا، وأن الذي أوجد هذه الصورة الممكنة قادر على أن يوجد غيرها من الصور. وهذا كما ترى لون من ألوان التمجيد لله، والإشادة بقدرته الشاملة. ولكن أمن الحق أن أبا العلاء لم يقصد إلا إلى هذا؟ أمن الحق أننا نستطيع أن نكتفي منه بظاهر القول، وهو الذي يقول:
لا تقيد علي لفظي فإني
مثل غيري تكلمي بالمجاز
Halaman tidak diketahui