ولكن لم ألف أبو العلاء كتاب الفصول والغايات؟ إنه هو ينبئنا بهذا حين يقول: «علم ربنا ما علم أني ألفت الكلم، آمل رضاه المسلم، وأتقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ به رضاك، من الكلم والمعاني الغراب.»
وأبو العلاء صادق فيما يقول، فهو إنما ألف الكلم يبتغي بها رضا الله، ويتقي سخطه. كتابه إذن نوع من أنواع التقرب إلى الله، ولون من ألوان العبادة له، والإمعان في تسبيحه، والثناء عليه. ولكن أبا العلاء يعبد الله، ويتقرب إليه كما يريد هو ويختار، لا كما يريد الناس ويختارون. فهو يثني على الله ما في ذلك شك، وما أعرف أن أحدا أثنى على الله كما أثنى عليه أبو العلاء، ولكنه يثني عليه ثناء الرجل الحر الذي جمع بين خصلتين متناقضتين؛ هو حر فلا يمنعه شيء من أن يتحدث إلى ربه حديث المؤمن به المطمئن إليه، يصارحه بما فهم، وبما لم يفهم، ويجاهره بما رضي، وبما لم يرض ، ويظهره على ما يعرف وما ينكر، في هدوء واطمئنان وثقة، وفي خوف وفزع، وهلع أيضا. هو مؤمن بالله، ولكنه مؤمن بعقله أيضا، فإيمانه بالله يدفعه إلى الحب والأمن، والثقة حينا، ويدفعه إلى الخوف والإشفاق والقنوط حينا آخر.
وإيمانه بالعقل يدفعه إلى الشك والإنكار مرة، ويدفعه إلى الإيمان واليقين مرة أخرى، وهو إذن متردد في الفصول والغايات كما هو متردد في اللزوميات.
يقطع بشيئين: أحدهما: وجود الله وحكمته، والثاني: انقطاع الصلة بين الله والناس إلا من طريق العقل، ومن طريق العقل وحده. وإذن فهو في حاجة إلى أن يفهم حكمة الله، وهو عاجز عن فهم هذه الحكمة، وإذن فهو غير مطمئن إلى النبوات، وهو محتاط إلى إعلان شكه في النبوات.
وأنت تقرأ هذا الجزء الذي نشر من الفصول والغايات، فترى أنه قد ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
فيه نيفا وعشرين مرة، ولكنه لم يذكره إلا عرضا ليستشهد بكلمة قالها أو قيلت له، أو ليستدل بحديث من الأحاديث استدلالا لغويا ليس غير. وهو إذا ذكر النبي مجده، وصلى عليه، ولكنه لا يزيد على ذلك. وهو ينكر في الفصول والغايات ما أنكر في اللزوميات من أمر الحج، ويثبت في الفصول والغايات ما أثبت في اللزوميات من وجوب الطاعة والتقوى، وإقامة الصلاة والبر بالفقراء، ورياضة النفس، وأخذها بما تكره من الشدائد.
وهنا تعرض مسألة لا بد من التفكير فيها؛ ما عسى أن تكون الصلة بين اللزوميات والفصول والغايات من ناحية الفلسفة العلائية أولا، ومن ناحية الفن اللفظي ثانيا؟ فأما أنا فرأيي في ذلك صريح واضح لا لبس فيه ولا غموض، وهو أن أحد الكتابين صورة صادقة للآخر، صورة تطابق الأصل كل المطابقة، بحيث يجب أن يفسر أحدهما بصاحبه، وأكبر الظن أن الفصول والغايات هو الذي أنشأ اللزوميات من الناحية اللفظية على أقل تقدير.
أكبر الظن أن أبا العلاء تصور كتاب الفصول والغايات أولا، فلما استقامت له طائفة من هذه الفصول خطر له أن ينظمها، أو أن ينظم شيئا قريبا منها، وأن يلتزم في الشعر مثل ما التزم في النثر أو بعض ما التزم في النثر.
وواضح جدا أن الشعر يكلف صاحبه من المشقة أكثر مما يكلفه النثر، ففي النثر حرية لا تستقيم للشاعر، يستطيع الكاتب أن يلتزم هذه القيود أو تلك، فإذا ضاق بها أو سئمها تحول عنها إلى الحرية إن شاء، وإلى قيود أخرى إن أراد، دون أن يفسد ذلك عليه نثره. ولكن الشاعر لا يستطيع أن يمنح نفسه هذه الحرية في الشعر؛ لأنه لا يكاد يعدل عن هذه القيود التي التزمها حتى يضطرب نظام القصيدة، وإذا هو مضطر إلى أن يستأنف قصيدة أخرى يصطنع فيها الحرية أو يلتزم ما شاء فيها من قيد.
Halaman tidak diketahui