ثم أقضي على هذا النحو الأيام التي أنفقتها في نابولي، فإذا تركت هذه المدينة شغلت عن الطبيعة، وعن أبي العلاء بالسفر الطويل الشاق، ولكني لا أكاد أبلغ مدينة ستريزا، وأستقر فيها ساعات حتى تبلغني أحاديث الطبيعة حلوة عذبة بين جبال شاهقة، وأشجار باسقة، وأرجاء عطرة، ورقعة من الماء قد بسطت في هذه البحيرة تريد أن تستقر وتثبت، لولا أن النسيم يداعبها، فيضطرب سطحها لهذه المداعبة اضطرابا خفيفا يصدر عنه خرير فاتر خفيف، ولولا أن الريح تعنف بها فتضطرب لهذا العنف من جميع أقطارها، ويصدر عن هذا الاضطراب هدير صاخب عنيف.
وألم بهذه الجزر الناتئة في هذه الرقعة من الماء، فإذا أنا بين رجلين يدعوني أحدهما إلى زهد شاحب مظلم؛ لأني أشهد لذات الحياة، ولا أكاد أحصلها، ويدعوني أحدهما الآخر إلى حياة كلها حس ومتعة؛ لأن جمال الطبيعة ينفذ إلى نفسي من كل وجه. فأما الأول فهو أبو العلاء، وأما الثاني فهو أندريه جيد.
وإذا الحوار يتصل بيني وبين هذا الرجل أو ذاك، أخلو مرة إلى ذاك فتضيق نفسي بكل شيء، وأخلو مرة أخرى إلى هذا فتتسع نفسي لكل شيء، وينقذني من الرجلين جميعا بين حين وحين حديث زوجي، أو حديث ابني، أو حديث بعض الأصدقاء.
ثم أترك إيطاليا وفي نفسي من أبي العلاء شيء، في نفسي أن أفرغ له، وأن أطيل التحدث إليه والاستماع منه؛ لأتبين أين يكون الحق: أفي سخطه وتشاؤمه، أم في رضاي وتفاؤلي؟ ولكني لم أكن أحدث نفسي بأن هذا الحوار سيخرج إلى كلام ينطلق به اللسان، ويجري به القلم، وتمسكه الصحف.
على أني لم أكد أبلغ فرنسا وأستقر في قرية من قراها حتى أنسيت الحياة ولذاتها، والطبيعة وجمالها، وأبا العلاء وتشاؤمه، وأندريه جيد وتفاؤله، وشغلت عن هذا كله بما لم يكن بد من الفراغ له من القراءة والإملاء. وأنفق في ذلك شهرا ونحو شهر، وإذا أنا أحس جهدا ثقيلا، وألما ممضا، وحاجة إلى الراحة والتسلية عن العمل العقلي. وما أكثر ما بين يدي من الكتب المختلفة، وما أكثر ما يدعوني منها إلى اللذة والراحة، وإلى السلو والنسيان! منها كتب في الأدب العربي المشرق الممتع، ومنها كتب في الأدب الفرنسي، ومنها كتب في الأدب الإنجليزي. والطبيعة من حولي رائعة بارعة، وجميلة مشرقة، وكل ذلك يدعوني ويلح في الدعاء، وكل ذلك يغريني، ويلحف في الإغراء، ولكني لا أسمع لشيء من ذلك، ولا ألتفت إليه، ولا أقف عنده، وإنما أطلب إلى صاحبي أن يقرأ لي في اللزوميات، وأن يقرأ لي فيها من أولها. وصاحبي يفعل وأنا أستمع، وإذا أنا بعد ساعات كأبي العلاء رهين سجون ثلاثة لا سجنين. أليس أبو العلاء يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
وإذا تلك المعاني التي عرضتها عليك في أول هذا الحديث تخطر لي، وتلح علي، وتخادعني، وتضطرني آخر الأمر إلى ما أخذت فيه من إملاء.
Halaman tidak diketahui