وواضح ما في البيتين الأخيرين من هجوم شنيع على ما جاءت به الديانات من اقتراب الساعة، وإشراف هذا الدهر على آخره.
وتشنيع أبي العلاء على الديانات أشهر وأظهر وأكثر من أن نقف عنده، أو نطيل فيه، وهو صريح غالبا، وقد يلجأ أبو العلاء إلى التعريض في كثير من الأحيان.
وأكبر الظن أن أبا العلاء كان مخدوعا عن نفسه حين ظن أنه لم يهج أحدا؛ لأنه فهم من الهجاء أو أراد أن يفهم من الهجاء ما ذهب إليه الشعراء من قبله حين عمدوا إلى أشخاص بأعينهم فثلبوهم أقبح الثلب، وتتبعوا ما فيهم من النقائص اليسيرة أو الكثيرة فأظهروها، وغلوا فيها.
ومن الحق أن أبا العلاء لم يهج أحدا بهذا المعنى، كما أنه لم يعب أحدا بهذه العيوب التي تمس شخصه، وتحقره بين مواطنيه، وإنما استقصى عيوب الناس المشتركة بينهم، وتعمق نفوس الناس فأظهر دخائلها في لهجة عنيفة حادة قاسية، وهو مع ذلك متجنب كل التجنب للإقناع وإذاعة الفاحشة. ثم هو لا يريد بهجائه إساءة، ولا انتقاما، ولا تشهيرا، وإنما هو صاحب أخلاق يريد التهذيب والتأديب والإصلاح، وقد تغلبه الحدة أحيانا فتجور به عن القصد، وتخرجه عن طور الفيلسوف إلى طور الشاعر الهجاء، ولكنه حسن النية على كل حال، قاصد إلى الخير والبر.
على أن المهم أن أبا العلاء لم يبتكر هذا الفن من الهجاء الذي يصدر عن سوء الرأي في الناس من جهة، وعن الرغبة في الإصلاح، والعجز عنه من جهة أخرى، وإنما كان له في هذا الفن أستاذ هو أستاذه في كثير من فنون الشعر، وأريد به المتنبي، فقد كان المتنبي أسوأ الشعراء رأيا في الناس، وأكثرهم إظهارا لذلك، وأشدهم تشاؤما به، وهو الذي فتح لأبي العلاء باب النقد الاجتماعي اللاذع العنيف، ومهد له طريق التشاؤم في الشعر، ولكن بين الرجلين فرقا عظيما، فالمتنبي لم ينس قط نفسه الطامعة الطموح العاجزة مع ذلك عن تحقيق مطمع أو بلوغ مطمح، على حين أعرض أبو العلاء إعراضا تاما، طائعا أو كارها عن كل مطمع، أو مطمح، أو منفعة، وأقبل على هذا النقد اللاذع العنيف سليم الصدر من كل غل، بريء القلب من كل حقد، قاصدا إلى الإصلاح عاجزا عنه، يائسا منه شافيا نفسه من ألم هذا العجز ومرارة هذا اليأس.
فإذا قال أبو العلاء: إنه لم يهج أحدا فهو صادق؛ لأنه لم يهج أحدا بعينه إلا ما كان من أمر هذا القارئ الذي تلا بين يديه آيات من القرآن يعرض في تلاوتها بآفته، فهجاه أبو العلاء بهذين البيتين:
هذا أبو القاسم أعجوبة
لكل من يدري ولا يدري
لا ينظم الشعر ولا يقرأ ال
قرآن وهو الشاعر المقري
Halaman tidak diketahui