مع أبي العلاء في سجنه
مع أبي العلاء في سجنه
تأليف
طه حسين
إلى الذين لا يعملون، ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس، أهدي هذا الكتاب.
طه حسين
الفصل الأول
لن يكون هذا إلا نحوا من حديث النفس تعرض فيه - كما تريد - ذكرياتي، والآراء المختلفة التي كونتها لنفسي في شخص ممتاز شاذ، فنان عظيم، قاس، قوي الإرادة قبل كل شيء، له ذكاء نادر يقظ دقيق قلق، يخفي من وراء الآراء المطلقة، والأحكام الصارمة - لا أدري أي شك في نفسه، وأي يأس من إرضائها! - شعورا شديد المرارة، عظيم الشرف، كان يثيره في نفسه علمه الدقيق بأساتذة الفن، وتهالكه على ما كان يزعم لهم من أسرار النبوغ، وما كان يحضر ذهنه دائما من ألوان تفوقهم المتناقضة. لم يكن يرى في الفن إلا نوعا من مسائل الرياضة أدق وألطف من الرياضة المألوفة، لم يستطع أحد أن يردها إلى الوضوح، ولا يستطيع إلا قليل جدا من الناس أن يفترضوا وجودها. كان كثيرا ما يتحدث عن الفن العالم، وكان يقول: إن صورة من الصور نتيجة لطائفة من أعمال العقل.
ومع ذلك فإن أصحاب السذاجة يرون أن الأثر الفني إنما هو نتيجة لما يكون من لقاء بين ذكاء بارع، وموضوع من الموضوعات. إن فنانا متعمقا على هذا النحو، بل أشد تعمقا في أكبر الظن مما ينبغي، يؤجل الابتهاج بالفوز، ويخلق لنفسه المصاعب، ويشفق من سلوك أقصر الطرق.
كان ديجاس يرفض السهولة، كما كان يرفض كل ما لم يكن يقصر عليه تفكيره، لم يكن يتمنى إلا أن يرضى عن نفسه، أي أن يرضي أصعب القضاة وأصلبهم، وأبعدهم عن التحيز. لم يحتقر أحدا قط كما احتقر الشهرة والمنافع والثروة، وهذا المجد الذي يستطيع الكاتب أن يسبغه على الفنان في سخاء وخفة. وكان يسخر في عنف من هؤلاء الذين يحكمون في فنهم الرأي العام، أو السلطان المقرر، أو المنافع التجارية؛ كما أن المؤمن حقا لا يحفل إلا بحكم ربه الذي لا يمكن الاستخفاء منه، والاحتيال عليه بالتلفيق أو المفاجأة أو التصنع، أو أي مظهر مهما يكن. كذلك أقام ثابتا مستقرا لا يخضع إلا للفكرة المطلقة التي كونها لنفسه في فنه. لم يكن يريد شيئا إلا ما كان يجد أصعب المشقة وأثقل الجهد في استخلاصه من نفسه.
Halaman tidak diketahui