Perbincangan Ilmiah dan Sosial
مباحث علمية واجتماعية
Genre-genre
الصدق إن ألقاك تحت العطب
لا خير فيه فاعتصم بالكذب
المقالة الثامنة عشرة
لطمة على خد العالم
1
حكم على دريفوس، فساء فأل قوم وسر آخرون. ولا ندري هل جار القضاة في حكمهم أم عدلوا، والذي ندريه أن الناس كثيرا ما يرون بعيني أهوائهم لا بعيني عقولهم، قضاة كانوا أم حكاما أم من عامة الشعب. وذهب قوم إلى أن الحكم جاء بنتيجته بردا وسلاما على الأمة؛ إذ وقاها من شر ما كان يخشى من القلاقل لو كان على ضد ذلك. واسترسل في القول إلى أن الحكم وإن لم يكن عادلا، فهو حكم سياسي. يريد بذلك أن فيه من الحكمة ما يربى معه النفع على الضرر. وتضحية الأفراد للجماهير تجوزها نواميس العمران، كما هي جائزة في نواميس الطبيعة الصامتة، وزعموا بذلك أن البلاد وقيت شر ما يتأجج في صدور الأمة من نيران الأحقاد والضغائن، وأن الحكومة أمنت على نفسها من القلب، والوزارة من الإبدال. والذين يرون هذا الرأي لم ينظروا إلا إلى الأسباب القريبة، وذهب عنهم أن الأسباب الجوهرية أبعد من ذلك وأعرق في قلب الأمة؛ فالخطر على الحكومة لا يزول بانقضاء قضية دريفوس على أي الوجهين، وقلق الأمة لا يهدأ بذلك؛ فالأمة الفرنساوية لا تزال، كما كانت من عهد مائة سنة، لسان شعوب أوروبا، تنطق عن حاجاتهم، وتمثل عواطفهم. فأوروبا اليوم على وشك وقوع ثورة تمثلها فرنسا، أشبه بالثورة التي كانت من عهد مائة عام، وأسبابها فساد نظام الأحكام، ونقصها عن احتياجات الهيئة الاجتماعية.
هذا هو سبب القلق الحقيقي المستحوذ على أوروبا كافة، والذي نراه اليوم في الغاية القصوى في فرنسا، ومن يقول فرنسا يقول عصب أوروبا الذي تحس به، وعقلها الذي تفتكر به، ولسانها الذي تنطق به، خلافا لأولئك الذين يرون في حوادث فرنسا المتتابعة منذ سنوات ما يطلق لسانهم المعقول، وعقلهم الخامل، ونظرهم القصير، فيجورون عليها في الحكم؛ إذ يرمون رجالها بالطيش وقلة الروية، وعدم التبصر بالعواقب، ولماذا؟ لأن طبائع رجالها المتحركة تخالف طبائعهم الميتة، وعقولهم المتنورة تخالف عقولهم المظلمة، ونفوسهم المتهيجة تخالف نفوسهم المستميتة في الذل والخاضعة للظلم. والغريب أن هؤلاء الذين كان أمثالهم يجورون في الحكم على فرنسا في الثورة الأولى يعترفون جهارة اليوم بأنه لولا تلك الثورة لما ارتقى الإنسان واصطلح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن، ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلها، بل في العالم قاطبة.
وهؤلاء الذين يعترفون بذلك اليوم يؤاخذون شعب فرنسا على عدم رضاه من نظام أحكام كانت تصلح له من مائة عام، ولم تعد تصلح له اليوم؛ لأن الهيئة الاجتماعية المتمدنة ارتقت كثيرا عما كانت عليه من مائة سنة، مع بقاء نظام الأحكام على حاله؛ فجمهورية فرنسا كما هي اليوم، والحكومات الملكية في سائر الممالك ليست بالحكومات التي تصلح اليوم لشعوب أوروبا، ولن تصلح لهم في المستقبل. فاضطراب فرنسا وعدم رضاها من نظام جمهوريتها لا يفيدان، كما يتوهمه قصار النظر، أنها تميل للرجوع إلى الملكية، أو أنه إذا قام فيها ملك حازم يستطيع أن يقبض عليها بيد من حديد، ويسير بها كيف شاء. فهذا حلم يجوز على عقول الأطفال، ولكن لا يجوز على الذين يدركون بعض الشيء من أسرار العمران؛ ففرنسا لن تعود إلى الملكية، كما أن أوروبا ستنتقل إلى الجمهورية، ولكن الجمهورية التي تطلبها فرنسا عن حاجة في النفس مندفعة إليها بالطبع، لا عن إجهاد في قوى العقل. والتي تتوقعها أوروبا هي الجمهورية الحقيقية الديمقراطية التي تصبح فيها الأمة الكل والحكومة لا شيء، بخلاف حكومات أوروبا وجمهورية فرنسا اليوم؛ فإنها كلها متقاربة في نظاماتها، متساوية في نقصها، ولو اختلفت في أسمائها، وكلها مقصرة عما تتطلبه الهيئة الاجتماعية اليوم وفي المستقبل القريب، وأقرب الحكومات الموجودة اليوم إلى الحكومة المطلوبة جمهورية أمريكا، ولو كانت دون المطلوب.
فمسألة دريفوس سواء انقضت أم لم تنقض، فالقلاقل لا تزول من فرنسا؛ لأن أسبابها أعم من أن تقتصر على فرد أو تختص بحزب؛ فالأيام حبالى، ولا بد من أن تلد ثورة لا تذكر معها ثورة القرن الماضي، تشترك في أوروبا، لا كما اشتركت في الماضي بقيام الدول كلها على فرنسا، وانقياد بهائم شعوب تلك الأيام إلى دولهم انقيادا أعمى لنصر الجهل على العلم، والظلم على العدل، والتقييد على الحرية؛ أي لنصر ظالميهم على أنفسهم. فالثورة المستقبلة، والتي تتمخض بها الأيام اليوم، لا تكون لقيام الأمم بعضها على بعض، ونشوب الحرب بين الدول، خلافا لحلم قيصر الروس الطالب نزع السلاح، والانقياد فيها إلى تمويهات مؤتمر لاهاي الطالب تأييد السلام. وإذا أصبحت الحرب بين الدول المتمدنة ممتنعة اليوم، فليس السبب أحلام القياصرة، ولا ضخم ملكهم، ولا مداولات أقطاب السياسة في ذلك المؤتمر السخري، بل السبب الحقيقي في أن الحرب اليوم أصبحت تدميرا وتخريبا على المتحاربين الفائز فيها والمخذول، والمهاجم فيها والمدافع، والمعتدي والمعتدى عليه يمحقان محقا ويسحقان سحقا؛ لكثرة الآلات المهلكة التي استنبطت في الربع الأخير من هذا القرن، وقوتها في التدمير. وأمم أوروبا لم تعد اليوم عمياء البصيرة والبصر حتى تقدم من دون تبصر بإيعاز دولها على هذا القضاء المبرم والفناء المحتم؛ ولذلك يصح أن يقال هنا الحرب أنفى للحرب.
فالثورة المنتظرة، والتي لا بد منها، هي ثورة تنصر الشعوب فيها بعضها بعضا، والأمم بعضها بعضا، ينصرون بعضهم على حكوماتهم ونظاماتهم لقلبها وإبدالها بما يكون أوفق لروح العصر، وأحفظ لمصلحة الجمهور. ولا سيما أن الأسباب الداعية اليوم إلى النفور من نظامات الهيئة الاجتماعية وأحكامها، هي أثقل جدا على عاتق الأمم مما في عصر الثورة الأولى؛ فالثورة الأولى أسبابها الاستئثار بالأعناق والأرزاق لشرف المولد، وقد كان الناس قليلهم يدرك حق المساواة، وأما اليوم فالثورة هي بين العمال وأصحاب المال، أي بين قوى العقل المستنبط واليد العاملة، وبين فساد نظام الأحكام واستئثار رجال المال، حتى أصبحت مستنبطات العقول وأعمال الأيدي خادمة لأولئك، يستفيدون منها هم وقلما يستفيد منها هؤلاء، والناس قل من لا يدرك منهم اليوم هذا الإجحاف.
Halaman tidak diketahui