Perbincangan Ilmiah dan Sosial
مباحث علمية واجتماعية
Genre-genre
وعزمت على الكتابة في الموضوع؛ لأني قلت في نفسي إن لم يوجه تيار البحث في هذه المسألة الوعرة إلى هذه الجهة، فإنه يستحيل زحزحة الأفكار عن مألوفها بالسرعة اللازمة لتحقيق هذه الأمنية المنشودة، وهي ارتقاء الإنسان في العمران، وإلا فهناك تيار آخر سيله جارف يسير بسرعة البرق، سوف يقضي علينا إذا كنا لا ننهض لمقاومته بسرعة تحاكي سرعته، وبمعدات تحاكي معداته. وأبديت فكري هذا لكثيرين، وأكثرهم استصوبوا رأيي، ولكني رأيت بعضهم يشك في النتيجة، ومنهم رجل ذو علم وأدب وقف مطرقا ولم يتكلم، وكأني قرأت على وجهه أنه غير واثق من عملي؛ لعلمه بما أنا عليه من المبادئ، وما انطوى الجمهور عليه من الانطباع لفهم الأشياء كل على هواه، فيصعب علي أن أخوض لج هذا البحث وأخرج منه سليما من دون أن أمس شعائر أصحاب دين في دينهم، وهناك الطامة الكبرى. ولما أبديت له أن كلامي سيكون على علاقة الدين بالعمران، وهذا لا يستلزم البحث إلا في جوهر الأديان، وأن النزعة العمرانية في هذا الجوهر تكاد تكون واحدة في سائرها حتى الاجتماعية منها، وأن الأحكام الفرعية في كل دين يلزم أن يرجع فيها إلى هذا الجوهر؛ رأيت كأني أقرأ على وجهه أكثر من ذلك، وهو اعتقاده بأن الإسلام ليس في أحكامه المرونة اللازمة لتطبيقها على مصلحة العمران، فتذكرت عند ذلك أثر تلك النشأة، وقلت إذا كان هذا مفعولها في ذي عقل راجح، فما بالك في سواه؟ وما قلت قولي هذا إلا لاعتقادي بأنه ما من دين يجوز أن يقف حائلا في سبيل الارتقاء إذا حكموا العقل في أحكامه المتعلقة بالمعاملات. ومنهم من نصحني بالعدول لئلا أصادف ما لا أحب؛ علما منه بأن الناس يذهبون في تأويل كل أمر مذاهب، ويخرجونه كما يشاءون وكما تشاء أهواؤهم، فلا يبعد أن يرموني بغير ما أقصد، ويدفعوني إلى ما أكره.
أما أنا فآفتي - إذا كان ذلك يعد آفة - أنه متى بدت لي حقيقة تستهويني حتى لا أعود أضبط نفسي عن إبدائها، وعذري في ذلك أن الحقيقة لا يكفي أن تعلم، بل يجب أن تقال أيضا، وإلا بقي الناس في العمى وساءوا مصيرا. وقلت إذا كان الاجتهاد الذي هو ركن من أركان الدين الإسلامي لا يذلل هذه الصعوبات، فالذنب ليس على القرآن، بل على الرؤساء الذين بيدهم الحل والربط في هذه الأحكام، وباب الاجتهاد لا يجوز أن يقفل مهما قال المتقولون من أنصار التقهقر ما دام الدين دينا والعمران عمرانا. ولا بد لي، كيف كان الأمر، من نصر القرآن إعجابا به وبصاحبه وإن كنت خارجا عن دينه؛ فالحقيقة أعم من أن تكون ضالة المؤمن وحده كما يفهمون، ونصرها واجب على كل منصف.
وكيف لا يحق لي الإعجاب بصاحب هذا الكتاب والناس قد بلغ إعجابهم برجل مثل نابليون إلى أن عدوه من خوارق الطبيعة، ولو قلت عاطفة التقى لألهوه. والظاهر أن الناس لا يعظمون إلا كل فتاك بهم. والفرق بين الاثنين اجتماعيا كالفرق بين الثريا والثرى، وهل يقاس بالمصلح الحقيقي رجل سفاح كنابوليون ضحى لمطامعه كل غاية اجتماعية، وبنى على أنقاض الثورة الفرنساوية الجليلة المبدأ، التي هدمها بيده بعد أن استخدمها لمقاصده، ملكا متداعي البنيان، لا غاية فيه إلا فخر الفتح، وتأييد المطامع الذاتية وحدها؟ وشاد قانونا عده الناس آية في المرامي الاجتماعية، وما هو، كما قلت فيه ولو كبر على مريديه، إلا مجموع شبهات وظنون فيما هو كائن وما يكون، على ما بين ذلك المصلح ونابوليون من التباين العظيم في روح العصر الذي قام كل منهما فيه. وما من أحد يستطيع أن يقدر الضرر الذي أحدثه نابليون قدره بتحويله مبدأ الثورة الفرنساوية إلى خدمة أغراضه، وبضربه على يد العمران بقانون كان له كالغل في عنقه والقيد في رجله، حتى إذا مشى مشى به متثاقلا.
وهل ينكر التمدن فضل دين القرآن عليه، يوم كانت الشعوب المعول عليها في ذلك العهد منغمسة في الترف لاهية به عن العلم، فكان الإسلام محيي رفاته، وناشر لوائه، وحافظ كنوزه. ولولاه لربما كان قد قضي على علوم اليونان وآدابهم وفلسفتهم، ولا أقول إنه هو الذي نقلها كلها، وإنما صانها من أيدي أولئك الذين لو بقوا وشأنهم لعبثوا بها، ولم يدعوا شيئا منها يصل إلينا.
وإعجابي بصاحب الشريعة المحمدية لا يقل عن إعجابي بصاحب الإنجيل، وما في شريعته من الحض على التساهل وحب الإنسان بعضه لبعض، مما لا يمكن أن يصح بدونه عمران، ولا فرق بين الشريعتين في جوهرهما اجتماعيا حتى ولا دينيا. كيف لا وقد قال كلاهما إنهما أتيا لا لينقضا الناموس، بل لإكمال أعمال النبيين قبلهما؟ ولقد عرف الناس لهما هذا الفضل من الوجهة الدينية، فأقاموا لهما المعابد من مساجد وكنائس، آثارا ناطقة بمجدهما، ولو أنصفهما العمرانيون لأقاموا لهما آثارا مدنية (عفوا سادتي لا تكفروني، لكم دينكم ولي دين) تنطق بمآثرهما الاجتماعية، فيعرف جميع الناس على السواء فضلهما، وتزول الحوائل من بينهم، فيندفعون في العمران مرتقين، بدلا من أن يقوموا فيه بعضهم على بعض متخاذلين متقهقرين.
وبعد أن وطنت النفس على ذلك قمت وكتبت مقالتي «القرآن والعمران» متكلا فيها على نفسي، حتى إذا كان هناك تبعة أتحملها وحدي، وقد تخلصت بذلك من تهمتين؛ تهمة التعصب وتهمة التوكل، اللتين يرمي البراهمة بهما أتباع الأديان السامية. فقد ذكر الدكتور «هوج» أن البراهمة قالوا له، منددين بتعصب النصارى لدينهم واضطهادهم لمخالفيهم: «إن هذا التعصب فيهم دليل على ضيق العقل؛ لأن العاقل لا يضطهد أحدا لدينه.» ولما أرادوا المفاخرة قالوا له: «أنتم تجعلون كل اتكالكم على الله، وأما نحن فلا نتكل إلى على أنفسنا، ودينكم مصدره من شعب من أصل سامي، وهذا الأصل أدنى من أصلنا، وليس عنده فكر فلسفي غير مستعار.»
والبراهمة كما في الملل والنحل ينتسبون إلى رجل منهم يقال له «برهام»، قد مهد لهم نفي النبوات أصلا، وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه، منها أنه قال: «إن الذي يأتي به الرسول إما أن يكون معقولا، وإما ألا يكون معقولا؛ فإن كان معقولا فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولا، فلا يكون مقبولا؛ إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية، ودخول في طور البهيمية.»
والظاهر أني نجحت في مقالتي أكثر من نجاح البراهمة بالاتكال على أنفسهم؛ فما انتشرت في المؤيد حتى صادفت استحسان كثيرين من عقلاء الأمتين المحمدية والمسيحية، بعضهم صرح بذلك على صفحات المؤيد، وبعضهم بكتب خصوصية لي، وآخرون مشافهة في حديث معي. ولما آنست ذلك من الذين يهمهم أمر هذا البحث أكثر من سواهم، طلبت منهم أن يؤيدوني بكتاباتهم في الجرائد خدمة لأمتهم فأحجموا، فعلمت أن الحرية فيهم لم تتجاوز حد الفكر، ولم تصل بهم إلى القول، وخصوصا النشر، كأنهم يخشون سطوة الجمهور أكثر من ربهم. واعتذرت عنهم أن ذلك منهم لقلة ثقتهم في هذا الجمهور خوفا من شره، ولشدة طمعهم برحمة الله. ولولا علمي بناموس الأفعال المتجمعة وما يترتب عليه بعد حين من الأفعال العظيمة، لقلت إني أخطأت المرمى، وإن مقالتي جاءت قبل أوانها. على أن أثرها مهما كان اليوم قليلا فسينضج بالاختمار، كما يختمر العجين وتنضج الأثمار، ويصير مع الزمان شيئا عظيما.
ولكن مقالتي لم تعدم منتقدا، وهذا ما كنت أتوقعه؛ لعلمي أن ما من عمل حسنا كان أو رديئا إلا ويجد أنصارا مستحسنين وخصوما مهجنين؛ فالحسناء لا تعدم ذاما، كما أن الفولة المسوسة تجد كيالها الأعمى. فأنا لم أستغرب قيام بعضهم للرد علي، ولا أنا ممن يكرهون الانتقاد أو يدعون العصمة، ولا أنا أجهل قول المثل: «من ألف فقد استهدف.» وإنما الذي استغربته صرف كلامي إلى غير وجهته، وتأويله على غير مفهومه، وهو بالحقيقة اجتهاد هنا إلى حد الشرود عن المقصود. والحق يقال إن أعمال العقل غاية في الغرابة، ولولا ذلك لما اختلف الناس في نظرهم إلى الشيء الواحد، وإلى هذه الغرابة أفضل أن أنسب اختلاف نظر الذين نظروا في كلامي على ما فيه من التعيين الواضح، لا إلى قصد سيئ منهم.
ففريق من النصارى زعم أني عرضت بالدين المسيحي، ونشر أحدهم في جريدة الوطن مقالة أنكر علي فيها استشهادي ببعض آيات الإنجيل ناسبا إلي وضعها في غير موضعها، كأني فهمتها كما يدل عليه ظاهرها غير معتبر المقام الذي وردت فيه. ولو أنصفني لعلم أني ما ذكرتها إلا وأنا في مقام بيان أظهر فيه ما في كتب الدين من كلام الاستعارة والمجاز الذي يتسع فيه مجال التخريج والتأويل؛ حثا على وجوب الاجتهاد في قضايا الدين كلما وجد بينها وبين مصلحة العمران ومصلحة العلم أقل اختلاف؛ لئلا نجني على العمران وعلى الدين نفسه معا إذا استمسكنا بتلك القضايا استمساكا أعمى. وبعضهم ألمع إلى ما يشم منه أني متحيز فيما كتبت لا ناصر حقيقة. وهؤلاء هم الذين يقرءون كل شيء كما هو في باليات قحوفهم. فليعلم الذين لا يدركون معنى ما يكتب أو ما يقال أني حتى اليوم ما تحيزت إلا لما اعتقدته الصواب، فأنا لم أكتب ما كتبت إلا لاعتقادي أنه الحق، ولم أجعل لعاقل سبيلا لأن يرميني بتهمة التحيز لدين من الأديان أو لقوم من الأقوام، وما قصدت بذلك إلا خدمة مصلحة الإنسان في العمران.
Halaman tidak diketahui