المقياس الذي به نقيس أعمالنا فنحكم عليها بأنها خير أو شر.
المسألة الأولى: أصل الشعور الأخلاقي؛ أعني كيف نعرف أن عملا من الأعمال أخلاقي وآخر غير أخلاقي؟ كيف يدرك وجدان الإنسان الخير والشر، أو الحق والباطل ويميز بينهما؟ ألسنا نرى العمل الذي يعده بعض الناس خيرا وحقا وأخلاقيا في عصر من العصور أو عند بعض الأمم، قد يعد هو بنفسه في عصر آخر أو عند أمة أخرى شرا وباطلا وغير أخلاقي؟! فما أصل ذلك؟ انقسم الفلاسفة في الإجابة عن هذا إلى قسمين: ففريق يرى أن في كل إنسان قوة غريزية يميز بها بين الحق والباطل، والخير والشر، والأخلاقي وغير الأخلاقي، وقد تختلف هذه القوة اختلافا قليلا باختلاف العصور والبيئات «الأوساط»، ولكنها متأصلة في كل إنسان، فكل يحصل عنده نوع من الإلهام يعرفه قيمة الأشياء؛ خيرها وشرها، وهذا الإلهام يحصل للإنسان بمجرد النظر، ولهذا نشعر - ولو لم نعلم - بأن شيئا خير وشيئا شر، ويسمى هذا المذهب «مذهب اللقانة»،
1
وكان «كارليل» من أتباع هذا المبدأ لقوله: «إن الشعور بالواجب - وهو معنى أبدي - جزء من طبيعتنا، ونقطة المركز في نفوسنا الفانية، ومثل ذلك مثل الأبدية الخالدة؛ فإنها معنى أبدي مظاهره الليل والنهار، والنعيم والشقاء، والموت والحياة، وهي أشياء فانية.» وهذه القوة ليست نتيجة بيئة ولا زمان ولا تربية، بل هي غريزية لا مكتسبة، وهي جزء من طبيعتنا منحناها لنميز بها الخير من الشر، كما منحنا العين لنبصر بها، والأذن لنسمع بها، وكان «بطلر» يعد الوجدان جزءا أساسيا من طبيعتنا، ويعرفه بأنه «قوة بها نستحسن العمل أو نستقبحه»، فهو إذن من أتباع هذا المذهب. وممن ذهب هذا المذهب من الجرمان «فخته» و«كانت» وهو أكبرهم.
وفريق آخر من الفلاسفة خالف الأولين ورأى أن معرفتنا بالخير والشر مثل معرفتنا بأي شيء آخر تعتمد على التجربة، وتنمو بتقدم الزمان وترقي الفكر، ويقول أصحابه: إن الشعور الأخلاقي ليس غريزيا في الإنسان، بل هو نتيجة التجربة، وهي التي علمته الحكم على بعض الأعمال بأنه خير أو حق، وعلى بعضها بأنه شر أو باطل، ويسمى هذا المذهب مذهب التجربة، وأشهر من ذلك تسميته باسم النشوء والارتقاء
Evolution ، وقد أسس هذا المذهب على نظرية النشوء التي وضعها «دارون» و«والاس» القائلة بأن الأجسام الحية العالية «نشأت» وترقت من الأجسام الحية السافلة، وأن عقل الإنسان «نشأ» وترقى من أبسط نوع من الإدراك، فأخذ فلاسفة كثيرون نظرية دارون هذه في النشوء وطبقوا عليها قانون الأخلاق وعلم الأخلاق، وقد كان «كارنري» و«مل» و«بين» وخاصة «هربرت سبنسر» من معلمي هذا المذهب، قال أهل هذا المذهب: كما أن الجسم العضوي نتيجة الوراثة ونتيجة عملية انتخاب ورفض دامت مدة عصور، كذلك عقل الإنسان تدرج في الرقي من أحط الأحوال، وليست القوة الأخلاقية التي نعرف بها الخير والشر إلا التجربة، فمنها نستخرج الحكم على الأشياء بأنها خير أو شر، واستمرار الأمة في التجارب يفضي إلى تعديل الآراء في الأخلاق من وقت لآخر. ويرى هذا المذهب أن ليس عند الإنسان قوة أخلاقية خاصة، ولسنا نحتاج للاهتداء في أعمالنا إلا إلى إعمال عقولنا، وأن أحكامنا على الأعمال تصدر بملاحظة الغاية التي نقصدها من أعمالنا والباعث عليها، لا بملاحظة ملكة فينا أو قوة أخلاقية في نفوسنا، وليس الشعور الأخلاقي إلا نتيجة من خير نتائج «النشوء والارتقاء»، وقد تدرج في الرقي من تخيل المتوحشين إلى آراء المتمدنين المهذبين، ولا يزال إلى الآن يرقى بترقي الأمم.
المسألة الثانية من المسائل التي وجه إليها فلاسفة الأخلاق نظرهم، وذهبوا في الإجابة عنها مذاهب: مسألة الغاية أو الغرض من أعمال الإنسان الأخلاقية؛ إن الأعمال الاختيارية يعملها الإنسان وأمام نظره غاية من أجلها يعمل العمل؛ وذلك أن الإنسان لما كان حيوانا ناطقا (مفكرا) قد منح قوة الفكر - بها يستطيع أن يدرك العلاقة بين الأعمال وبين ما تؤدي إليه من النتائج - لم يكن ملجأ إلى العمل بمجرد الدوافع (كما هو الشأن في الحيوان)، وإنما هو منقاد ومتأثر برغبة في غاية يريد تحصيلها، فالأعمال الأخلاقية أو السلوك الأخلاقي إذن وسيلة يحاول بها الإنسان أن يصل إلى غاية؛ فما هذه الغاية الأخيرة والخير النهائي الذي يشتاق الإنسان للوصول إليه، ويجد في البحث عنه؟
ذهب فلاسفة اليونان الأقدمون كسقراط وأفلاطون إلى أن كل إنسان بطبيعته وبالضرورة إنما يبحث وراء خيره، فالخير الأخير وغاية الغايات هو السعادة أو اللذة، وتسمى هذه النظرية نظرية السعادة. وقد نشر هذه النظرية فلاسفة اليونان، وظهرت في تاريخ البحث الأخلاقي لابسة أثوابا مختلفة، ونظرية السعادة هذه تضاد نظرية اللقانية وتقول: إن الإنسان إنما صار أخلاقيا بعقله وتجاربه وبحثه وراء سعادة يريد تحصيلها، وقد حللها وشرحها في العصور الحديثة جمع من فلاسفة الإنجليز أشهرهم بالي وجرمي بنتام ومل، ويعرف المذهب الآن «بمذهب المنفعة»
2
وإن كان مؤسسا على نظرية السعادة.
Halaman tidak diketahui