وهذه المادة المركبة من ذرات وقتية ليست موزعة على الفضاء بنسبة واحدة، بل هي مجتمعة في بعض المواضع دون الأخرى كتلا كتلا من سديم وسحاب وشموس ونجوم وأجرام أخرى سماوية، وكما تختلف المادة من حيث توزعها على الفضاء، كذلك تختلف من حيث الحركة وتركب الجزيئات، فبعض أجزاء المادة في منتهى النشاط وسرعة الحركة، وبعضها بطيء خامد، وقد تقلبت المادة في أطوار متعددة جارية على سنن النشوء والارتقاء حتى تشكلت بشكل أرضنا؛ ذلك الشكل المكثف الجامد المستقل، وكذلك مر الإنسان في أدوار النشوء حتى وصل مخه - وهو عضو التفكير - إلى درجة عالية من الرقي، وعند ذلك نشأت المدنية الحديثة.
أما الموت فقد رأى فيه بخنر ما يأتي، قال: «ذهب كثير من الفلاسفة إلى أن الموت هو السبب الأساسي الذي حمل على الفلسفة، وإذا صح هذا كانت الفلسفة التجريبية (القائلة بأن التجربة أساس العلم بالأشياء) في عهدنا هذا قد حلت أكبر لغز في الفلسفة؛ فقد أبانت منطقيا وتجريبا أن لا موت، وأن الموت - وهو أكبر سر غامض - ليس إلا تغيرا مطردا من حال إلى حال، وأن كل شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول، من أصغر دويبة إلى أكبر جرم سماوي، من حبة رمل أو قطرة ماء إلى أعظم موجود في الخليقة؛ أعني الإنسان وأفكاره. نعم، يتغير شكل الموجود، أما الموجود نفسه فدائم لا يلحقه الفناء، فإذا نحن متنا فليس معنى ذلك أننا فقدنا، وإنما فقدنا شعورنا الشخصي أو شكلنا العارض الذي لبسته حقيقتنا الأبدية وقتا قصيرا، وسنبقى أبدا في العالم وفي جنسنا وفي ذريتنا وأعمالنا وأفكارنا، وعلى الجملة فسنبقى فيما قدمناه من عمل - مادي أو نفسي - وما خلفناه من أثر لبني جنسنا أو للعالم أجمع في الأيام القصيرة التي عاشتها أشخاصنا.» والمادية مع كونها من المذاهب الواحدية إلا أنها بالضرورة مذهب إلحادي؛ لأنه ينكر وجود شيء غير المادة، فلا يعترف بآلهة ولا بأرواح ولا بملائكة ولا بشياطين، قال أحد الكتاب الماديين: «إن الطبيعة تقوم بشئونها ولا شيء فوق الطبيعة، وليست الحوادث التي يسميها بعضهم خوارق للعادة ووراء الطبيعة إلا هراء من القول، وخطأ في الملاحظة منشؤه اختلاط في العقل وإضلال رجال الدين.»
وليس مثل هذه الرسالة المؤلفة للجمهور يسمح لنا بذكر تفاصيل عن مذهب المادة، ولكنا سنذكر لها تاريخا إجماليا يبين أصلها وما وصلت إليه من رقي، قال «لنج» في كتابه (تاريخ المادية): إنها قديمة قدم الفلسفة وليست أقدم منها، فقديما حاول الناس أن يدركوا العالم كأنه شيء واحد، وأن يدركوا خطأ الحواس الشائع ويتغلبوا عليه، وترجع المادية لأول عهد الناس بالفكر والنظر، فتراها في البوذية عند قدماء الهنود، وفي النظم الدينية عند الصينيين، وعند أعظم الأمم القديمة مدنية - أعني المصريين - ونجدها في شكل منظم عند اليونان الأولين؛ فقد كان فلاسفتهم الأقدمون ماديين، بحثوا في أصل المادة التي منها تتكون الأشياء، وقد رقى مذهب المادية علماء الجوهر الفرد؛ أعني ليوسيبس وصاحبه ديقريطس 420ق.م الذي يعد رأس الماديين، وقد وضع ديمقريطس هذا - وهو أحد علماء الطبيعة الأيونيين - نظرية الجوهر الفرد، فقرر أن المادة تتركب من جزيئات صغيرة لا نهاية لها «جواهر فردة» تتجمع وتتفرق فتتكون منها الأجسام، وتلك الجزيئات قد منحت الحركة ولم تستمد حركتها من أية قوة أخرى أو أصل آخر، وإنما ذلك من طبيعتها.
وجاء بعده أبيقور 340ق.م، فرقى نظرية ديمقريطس وقرر أن المادة قوام العالم، وأن النفس والفكر والعقل والشعور أعراض للمادة، وربما عد من أتباع أبيقور: ليوكريتوس كاروس 99ق.م المؤلف الروماني الشهير والفيلسوف الشاعر، وقد أوضح آراءه في كتاب له منظوم لقبه (طبيعة الأشياء)، وهذا الشعور المشهور - كما قال «لنج» - هو الذي جعل لعقيدة أبيقور قوة في العصور الحديثة.
وفي القرون الوسطى كان للمعتقدات الدينية والتصديق الأعمى الغلبة والسلطة على عقل الإنسان، فخضعت المادية للنصرانية الاثنينية؛ أعني القائلة بالروح والمادة، ولم يخل ذلك العصر من أصوات ضعيفة قالت بالمادية، مثل: جسندي الفرنسي، وجيوردانو برونو الإيطالي، ولكن لم تلبث أصواتهم أن أخمدت، وأحرق الأخير برومية في 17 فبراير سنة 1600م. أما في العصور الحديثة فقد انتعشت المادية في إنجلترا بفضل توماس هوبز 1588-1679، وقد ذهب إلى أن كل مظاهر العالم الحقيقية نتيجة الحركة، وأن ليس هناك أرواح غير مجسدة، وفسر الروح بأنها أجسام طبيعية رقيت حتى لم تستطع حواسنا إدراكها.
وقد انتقل مذهب المادية من إنجلترا إلى فرنسا، فظهر لامتريه 1709-1751 وبارون هلبك فأوضحا مذهب المادية، وجاء كاباني أيام الثورة الفرنسية 1757-1808 فأيد مبادئ الماديين.
وفي ألمانيا كان سيل مذهب المثال الذي وضع نظامه (فخته وشلنج وهجل) طاغيا على المادية، ولكن انتعاش العلوم الطبيعية جدد للمادية حياتها، وجاء مولشت فبحث في روح العلوم الوضعية - اليقينية - حتى صار في القرن الماضي ناشر مذهب مادي قوي جديد، وقرر في أحد كتبه مبدأ «أن لا قوة بلا مادة ولا مادة بلا قوة»، وتبعه «كارل فجت» الطبيعي الشهير، فأظهر في كتاب له
2
ميله إلى المادية، وجاء «لدويج بخنر» فتأثر بتعاليم مولشت حتى صار اللسان القوي المبين لمذهب الماديين العصريين، ولقب كتابه (القوة والمادة) بالكتاب المقدس للمادية.
الروحانية
Halaman tidak diketahui