ابتدأت الفلسفة الأخلاقية عند اليونان بقولها: إن هناك خيرا عظيما يجد الإنسان للوصول إليه، ويقصد الحصول عليه لذاته لا لأنه وسيلة إلى شيء غيره، ويمكن تحصيل ذلك الخير بالعمل، ويجب أن تنظم أعمال الإنسان بملاحظة ذلك الخير، وهذا الخير هو السعادة، وهي الغاية القصوى لأعمالنا، وكل غاية غيرها تابعة لها، ولنسم هذه النظرية «نظرية السعادة» وهي تقول: «إن السعادة أعظم خير للإنسان، والغاية الأخلاقية من سلوكه.» وبعد أن سلم بهذه النظرية، أي إن أعظم سعادة للشخص هي أعظم الخير له، تساءل فلاسفة الأخلاق اليونانيون: ما أعظم سعادة للشخص؟ وما خير الوسائل التي عساها توصل إليها؟ على هذين السؤالين أجيبت أجوبة مختلفة: رأى سقراط - ذلك الفيلسوف الذي لم يشأ أن يشغل نفسه بالبحث في أصل العالم وتكوينه، بل وجه عنايته نحو الإنسان وما يتعلق به - أن أعظم سعادة هي معرفة الحق، وأن المعرفة هي الفضيلة، ويمكن أن تكتسب بالبحث، وقرر أن لا أحد يعمل غير الحق بإرادته، أو يختار الباطل إذا هو علم الحق، وعندما يرتكب الإنسان خطأ فإنما يكون ذلك لجهله بالخير له، والحكيم العارف هو وحده السعيد الفاضل، وافق الرأي العام والمأثور والعرف أو خالف؛ لأن المعرفة هي الغاية القصوى للإنسان، وهي بعينها الخير والفضيلة، أما العدل والفضيلة الناشئان عن محض الاعتياد والتربية - إذا لم يعتمدا على المعرفة والنظر - فتلمس في الظلماء قد يؤدي عفوا إلى الحق، ولكن ليس فيه مقنع، وإنما ما فيه المقنع أن تجد في البحث للوصول إلى معرفة الخير وتحديده.
وقد ذكر أفلاطون في كتابيه (جورجياس) و(الجمهورية) أن «كليكليس وترازيماخوس» قالا: إن الخير ما يسرنا، والعدل ما استطعنا الحصول عليه. ولكن أفلاطون - الذي يدعي أنه ليس إلا معيدا لتعاليم سقراط - أنكر رأيهما، وذهب إلى أن الخير والعدل معنيان إلهيان قائمان بأنفسهما مستقلان عن الفكر، وكانت طريقته في البحث الأخلاقي طريقة لا مادية،
5
ومن تعاليمه أن فن السلوك إنما يحصل بالجد في جعل الحياة الخاصة والعامة بحيث يسود فيها الوفاق والجمال والنظام، وهي الصفات الأساسية التي هي من خصائص العالم الأعلى، وفي تقليد الخير المطلق الذي كانت النفس - التي هي جزء من النفس الكبرى للعالم - تنظر إليه وجها لوجه قبل أن تحل في الجسم
6
ويمكن نيل هذا بالمران على فضائل أربع: الشجاعة والعفة، وأهم من هذين: الحكمة والعدل، ويبلغ العدل منتهى الكمال في نظام الحكومة. وقد أوضح أفلاطون المثل الأعلى لهذا النظام على وجه الإجمال في كتابيه: (الجمهورية)، و(القوانين).
أما أرسططاليس - سيد المفكرين على الإطلاق كما لقبه بذلك «أوجست كومت» في أحد كتبه - فابتدأ بحثه في الأخلاق بما ابتدأ به أفلاطون، فبحث في «ما هو أعظم خير للإنسان؟» «وما غايته القصوى وما غرضه؟» وكان من تعاليمه أن الإنسان من بين سائر الموجودات هو الذي جمع إلى قوة الشعور والرغبة قوة العقل، وهو بحسه وإدراكه يشبه الحيوان، وبعقله يشبه الله، وباتحاد تلك القوتين فيه كان كائنا أخلاقيا؛ فإن الأخلاقية هي الاتفاق بين عناصر الحيوان والعقل، واستعمال كل قوى الإنسان تحت سلطة العقل، وليس الذي يخضع لهذه الأخلاقية هو من يعيش في عالم الفكر فحسب، بل الذي يشغل بالعمل ويكون لرغبته وانفعالاته عليه سلطان، ولأجل أن يختار الإنسان طريق الحق وينهج النهج القويم يجب أن يستعمل قوة الحكم عنده قوة عقله، ويستخدم إرادته الحرة.
هذا الاتفاق بين إرادة الإنسان وعقله ينتج الفضائل الأخلاقية أو السعادة أو أعظم خير، وهذا هو غرض الإنسان في الحياة. وبينا سقراط يرى أن الفضيلة نتيجة العقل وحده، وليست نتيجة التربية ولا العادة، وإنما هي ثمرة الحكمة وبعد النظر الأخلاقي، إذ بأرسطو يرى أن التربية والمران والعادة ضرورية أيضا في تكوين الفضيلة، ويحدد الفضيلة بأنها «عادة ثابتة مقررة ينتجها المران ، ويكونها تغلب العقل وهدايته».
خلف من بعد هؤلاء الفلاسفة العظام خلف كان لهم أثر في ترقية ما قرره سلفهم، ولا بد أن نخص بالذكر منهم «الرواقيين» و«الأبيقوريين».
فمذهب الرواقيين أسسه «زينون»، وكان يعلم تلاميذه في رواق منقوش من بناء في «أثينا»، ومن أجل هذا سمي هو وأصحابه بالرواقيين، وقد بنى «زينون» تعاليمه على قول سقراط بعدم الاعتداد بالمأثور والرأي العام، وعلى القول بسلطان العقل على الشهوة، فكان يرى أن الفضيلة فيها الغناء عن كل شيء، وأن الحكيم يقضي حياته في وفاق مع الطبيعة مستقلا حرا، بين جنبيه نفس تعتز عزة ملك وإن التحف ببردة فقير، رأى الحكيم أنه لا يستطيع أن يغير الطبيعة ففضل أن يخضع لها عن رضا، ولم يفعل كما يفعل الأخرق ينازل الطبيعة ويكافحها حتى يفقد قوته ويدركه الإعياء فيخر صريعا. والرواقي مستسلم لا يهيجه شيء؛
Halaman tidak diketahui