وثانيا:
أن الناس مختلفون في درجة الرقي العقلي - وليست الحواس وحدها تكفي في إدراك الجمال، بل لا بد معها من العقل - فالحواس وحدها تستطيع أن تدرك الحركات والأشكال والأصوات والألوان على انفرادها، ولكن لا بد معها من الفكر والشعور ليربطا بعضها ببعض، ويكونا منها مجموعة واحدة متناسقة الأجزاء، وبهذا أيضا يختلف الإنسان عن الحيوان؛ فالحيوان يستطيع أن يدرك ألوان صورة ذات ألوان كصورة العذراء لروفائيل، ويسمع الشعر، ولكن لا يدرك ما يدل عليه ذلك من عشق، ولا يشعر بما يمثل من عواطف.
هذا هو السر في أنك ترى إنسانا يلقف
5
الجمال ويفهمه في الطبيعة والصناعة، وفي تناسق الأصوات والصور، على حين أنك ترى الآخر لا يأبه لكل هذا، هو السر في أنك ترى الشخص مفتونا بالشيء لهجا بذكره، بينا ترى الآخر ضجرا به متبرما منه، ترى جماعة يلذ لهم سماع رواية راقية مهذبة، وترى الآخرين إنما يلذ لهم أن يروا منظرا مضحكا في ملعب، هذا هو السر في ميل السيدة من الأشراف إلى الألوان الخفيفة والقاتمة أو - على الأقل - الألوان المتناسبة، بينا نرى خادمتها السوداء تميل إلى الأحمر والأصفر؛ ذلك لأن إحداهما لها ذوق، والأخرى ليس لها، أو لها ذوق لم يرق بعد.
ولذة الجمال تعلن عن نفسها غالبا بإيجاد عمل من الأعمال، ففي الإنسان رغبة متأصلة في أعماق نفسه تدعوه لأن يوضح ما يشعر به، إما بخط أو صوت أو تصوير، فهو لا بد أن يتكلم ويصور ما في نفسه، ومن لم يستطع أن يتكلم أو يكتب أو يؤلف يحاول أن يفعل، فيفكر ويشعر بأنه في حاجة إلى ذلك، ولكنه لا يجد عنده القوة عليه، أما من استطاع فلا بد أن يستخدم قواه، قال «كارليل»: «لا يمكن أن يوجد ملتن صامت غير مجيد.» ونزيد عليه فنقول: لا يمكن أن يوجد «بيتهوفن» أو «موزارت» صامت لا يطرب، بل ولا يوجد «ميخائيل أنجلو» أو «روفائيل» يرى ولا يصور.
6
والتأثر - طبيعيا كان أو عقليا أو أخلاقيا - إذا شرح بخط أو كلام أو صوت أو تصوير أو حفر أو بناء أو شعر أو موسيقى سمي فنا؛ فالفن ملكة يقتدر بها على إظهار العواطف والشعور في مظهر خارجي؛ لذلك كان الشعور بالجمال الذي هو صفة قابلة عند الإنسان العادي قوة فاعلة عند الفنان؛ فإن القوة إذا زادت حملت على الفعل وكان صداها العمل - والفنان يستطيع بواسطة الأحجار والألوان واللغة والصوت أن يشرح ما لا نراه، فيستطيع أن يشرح لنا المثل الأعلى فيرقي بذلك نفوسنا ويزكيها ويهيج فينا أسمى العواطف، ويستخرج منا خير الأفعال، والفن يخاطب العقل كما يخاطب القلب، وعلى الجملة يخاطب أعماق النفس الباطنة وكل قوة فينا. الفنان يجمع خواص كل عاطفة وفكرة وملامح، ويوضح لنا منها ما لم نكن نفهمه من قبل، وهو يرى ما لا يراه غيره، فيرى المثل الأعلى للشيء ويمثله - وهنا تعرض لنا أسئلة؛ وهي: هل الفن مقلد فقط فيمثل بأمانة المناظر المحسوسة؟ وهل للفن غرض يرمي إليه، أو أن الفن للفن؟ هل هو مستقل عن الحاسة الأخلاقية أو يجب أن يكون على وفاق معها؟ هذه مسائل شغلت عقول الفلاسفة ونشأت منها نظريات مختلفة منها «مذهب الواقع» و«مذهب الكمال».
فمذهب الواقع يرى أن الفن يرمي إلى تقليد الطبيعة كما هي، وعلى الأقل إلى القرب منها جهد المستطاع، ومذهب الكمال يرى أن الفنان إذا أراد أن يقلد الطبيعة يجب ألا يقلدها تقليدا تاما، بل يتصور الكمال فيها ويخرجها إلى الوجود مازجا فيها الواقع بتصوراته وعواطفه، يحاكي الطبيعة ومع ذلك يعدلها، يختار من الأشياء ويوفق بينها ويخرجها للناس مترجما عما في نفسه؛ فهذا المذهب يرى أن عمل الفن أن يمثل المناظر الأصلية أو الأخلاق الفاضلة أو الآراء العظيمة بخير مما هي في الواقع، ويجعلها أعظم تأثيرا في العقول من حقيقتها، يرى أن الفنان تتملكه العاطفة فيحولها إلى قوة عاملة، فيمثل الشيء لا كما هو ولكن كما يدركه.
والموضوع الآخر هو: هل الفن يجب أن يخضع للغرض الذي يرمي إليه علم الأخلاق أو أنه فوق ذلك؟ ذهب قوم ومنهم «رسكن» إلى أن الفن يجب أن يكون أخلاقيا، وأن أهم ما يجب على الفنان أن يشرك الناس معه في عواطفه الشريفة، وليس هناك شيء وراء الأخلاق يصح أن يقصد من الفن، وذهب آخرون إلى أن الفن إنما يبحث عن الجميل لا عن شيء وراءه، إنما يهم الفن جمال الشكل، أما الموضوع فليكن ما يكون؛ ليكن رذيلة أو جريمة، وذهب بعض علماء الجمال إلى أبعد من هذا فقرروا أن «علم الجمال أعلى شأنا من علم الأخلاق»، وأن النظر في الجمال والبحث فيه أرقى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان، وأن ذوق الألوان أهم في رقي الإنسان من الحاسة التي تدرك الخير والشر.
Halaman tidak diketahui