قال الشاعر: وإنك لمسافر منذ اليوم؟ وفيم هذا السفر الذي لم تنبئنا به ولم تهيئنا له، ولم يقدم القصر بين يديه هذه المقدمات التي تعودت أن تسبق سفرك بأيام طوال؟
قال نعيم - وهو يتكلف الضحك ويخفي سخرية مرة: فإنها المأساة يا سيدي! إنها المأساة! لقد زلزلت الأرض وغضبت السماء، وأظلمت الدنيا وفسد في حياة القصر كل شيء، قال الشاعر: وما ذاك؟
قال نعيم: ذاك أن الشيوخ ينسون الشباب، أو قل إنهم يستبقون الشباب لأنفسهم، ويستأثرون بما يتيح لأصحابه من فرصة، وما يبيح لهم من تجاوز الحدود، يرون ذلك سائغا حين يتصل بأشخاصهم، ويرونه حراما حين يتصل بغيرهم من الناس، قال الشاعر: فإني لم أفهم عنك إلى الآن.
قال نعيم: ولكنك قد قدرت من غير شك أن قد حدث في القصر حدث؛ فأنت لم تلق أبي في حديقته هذه الغلباء، وجنته الفيحاء، كما تعودت أن تلقاه في كل يوم قبل أن يرتفع الضحى، متنقلا بين زهره وشجره، ملحا على بستانيه بالأمر والنهي والسؤال والاستقصاء، حتى إذا أجهده سعيه وإلحاحه وحركته وسكونه وتشددت أنت عليه في أن يريح نفسه ويريح بستانيه ويريحك أنت من هذا العناء، أقبلتما معا إلى هذا الجوسق أو إلى غيره من جواسق الحديقة، فأنفقتما سائر الضحى فيما تحبان من الحديث، ولا شك في أنك قد أنكرت تخلف أبي عن موعده، واحتجابه عن أخص الناس به وأكرمهم عليه، ولا شك أنك قد سألت عن ذلك فعرفت من أنبائه أطرافا.
قال الشاعر: لم أعرف إلا أنه محتجب في مكتبه، وأنه طلب أن أوجه إليه متى أقبلت، وقد غاظني أن يحتجب الناس بين الجدران وتحت السقوف حين يصفو الجو ويعذب النسيم، ويدعونا الجمال إلى أن نستمتع به في هذه الحديقة الرائعة النادرة؛ فلم أسع إليه وإنما سعيت إلى النهر، وكنت أريد أن أرقى إليه بعد ساعة تقصر أو تطول.
قال نعيم: فإن استطعت أن ترقى إليه الآن فافعل؛ فهو في حاجة إلى من يؤنس وحدته ويسلي عزلته ويبدد عنه هموما ثقالا، وما أظن إلا أن حالته هذه ستتصل وتتصل، فسأسافر حين يقبل الأصيل، ولكني لن أسافر وحدي اليوم فسيتبعني بعد أيام قوم نبت بهم الدار ولم يبق لهم فيها أرب، إنها المأساة يا سيدي، إنها المأساة! وإن شئت فقل إنه الجنون واختلاط العقل.
ثم سكت لحظة كان يعبث في أثنائها بسلسلة ذهبية قد علق بها جماعة من المفاتيح، ثم قدم إلى الشاعر سيجارة وأشعل لنفسه سيجارة أخرى، ورمى النهر بنظرة فيها كثير من السخط والغضب، وأرسل في الجو تنفسا كان يريد أن يكون عميقا بعيدا، ولكن الفتى تجمل وتحفظ وأبى أن يخرج عن طوره، فاكتفى بتنفس بعيد بعض الشيء، وجعل ينظر إلى الدخان وهو يتلوى تلويا خفيفا في الهواء، ثم قال في صوت هادئ لا يخلو من حنق وسخرية: ومع ذلك فقد كنت أرى أبي إلى الآن مستأنيا حليما.
قال الشاعر: أمفصح أنت لي آخر الأمر عما تريد، ومعرض أنت عن هذه الألغاز؟
قال الفتى في صوت صاخب: تريد أن أفصح لك؟ فاعلم أن أبي قد طردني من القصر، وإن لم يكفك هذا فاعلم أنه لم يطردني وحدي وإنما طرد معي قوما آخرين، أفهمت؟ أرضيت؟
قال الشاعر: لم أفهم شيئا ولم أرض عن شيء، وإنما ازددت جهلا إلى جهل، وحيرة إلى حيرة؛ فكيف أقصاك أبوك عن القصر؟ وفيم كان هذا الإقصاء؟ وكيف تلقيت أمره هذا على أنه جد، مع أنك تعلم أنه يجد الآن ليهزل بعد ساعة، وأنه لا يسخط إلا ليرضى، وأن من العسير حين يستمع إليه خلطاؤه أن يتبينوا أهازل هو أم جاد؟
Halaman tidak diketahui