يا دار مية بالعلياء فالسند
أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقفت فيها أصيلا لا أسائلها
أعيت جوابا وما بالربع من أحد
2
ربوتنا إذن في إسبانيا، قد أشرفت على نهر من أنهارها، وانحدرت إليه كما قلت في سهولة ويسر، واتخذت لنفسها من الشجر والزهر تاجا رائعا بارع الجمال، واتخذت لتاجها هذا الرائع البارع من ذلك القصر الشامخ الباذخ الأنيق درة نادرة المثال منقطعة النظير، تستطيع أن تلتمس لها اسما بين هذه الدرر الكثيرة التي يأتلف منها كتاب العقد الفريد لذلك الكاتب الشاعر الأندلسي العظيم.
ولكني لم أصف الربوة حق وصفها ولم أصورها كما ينبغي لها أن تصور، فأنت لا تحسن الوصف والتصوير لشيء من الأشياء إلا إذا وصلت به ملحقاته التي تكمله وتعطيه صورته النهائية، إن أتيح لشيء من الأشياء في هذه الحياة أن يظفر بصورته النهائية في يوم من الأيام. ولهذه الربوة ملحق لا يمكن إهماله؛ لأن إهماله يخل بنظام القصة إخلالا خطيرا، فالجمال لا يستقيم إلا إذا جاوره القبح، والنعيم لا يكمل إلا إذا جاوره الجحيم، وما ينبغي أن تحتج علي بنعيم الجنة وجمالها، فنعيم الجنة وجمالها لا يستقيمان إلا إذا كان بإزائهما قبح جهنم وما يصلى الخاطئون فيها من نار الجحيم.
لا بد إذن من أن أتم تصوير الربوة بشيء من الحديث عن هذا الملحق الذي لا يستقيم أمرها بدونه. وهذا الملحق قرية تقوم على السهل المنبسط مما يلي الربوة، وهي بعيدة الأرجاء، مترامية الأطراف قبيحة المنظر إلى أقصى غايات القبح، تقوم فيها دور منخفضة لا تكاد ترتفع في الجو إلا قليلا، لم تتخذ من الحجر ولا من الآجر ولا من اللبن، وإنما اتخذت من الطين قد صنع صناعة غليظة خشنة وأسند بعضه إلى بعض وأقيم بعضه على بعض، فائتلفت منه بيوت كانت تريد أن تكون جحورا تتخذ في باطن الأرض، ولكن أهلها لم يجدوا من القوة ولا من الجهد ولا من المال ما يمكنهم من احتفار الجحور في الأرض، فآثروا أيسر الأمرين واتخذوا دورهم من هذا الطين المهمل الغليظ.
وقد قامت هذه القرية البائسة، في هذا السهل المنبسط، على شاطئ النهر الجميل، وإلى جانب الربوة الرائعة، ليعلم الناس وليعلم النهر أيضا، وليشهد النهار المشرق والليل المظلم، وليسجل التاريخ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها أن الحياة مزاج من الخير والشر، ومن النعيم والبؤس، ومن الجمال والقبح، ومن السعادة والشقاء، وأن تمايز الأشياء وتفاوت الأحياء أصل من أصول الوجود. فلولا الفقر ما كان الغنى، ولولا البؤس ما كان النعيم، ولولا الانخفاض ما كان الارتفاع، ولولا الضيق ما كانت السعة.
ولست في حاجة إلى أن أفصل ما تمتاز به الربوة من جمال، وما تمتاز به القرية من قبح. فقد لا يكون من الخير ولا من الذوق ولا من حسن الرعاية للقراء أن أستأثر وحدي بهذا الوصف؛ فأنا لم أستأثر بالخيال من دون القراء، بل أنا قد أكون أقل الناس حظا من الخيال وقدرة على الوصف وبراعة في الأداء، ولم يخلق الله أديبا يستطيع أن يستأثر وحده بوصف ما يعرض على قرائه من الأشياء والأحياء؛ فهذا الوصف شركة دائما بين الأديب المنتج والقارئ المستهلك.
Halaman tidak diketahui