وما ينبغي أن تغرك آيات الفن هذه التي نسقت في القصر أحسن تنسيق، ولا صفوف الكتب هذه التي ملأت هذا البهو العريض مما يلي مكتبه؛ فهو لم يكسب من هذه الآيات ولم يجمع من هذه الكتب شيئا، وإنما وجدها في القصر، فلم يحفل بها أول الأمر، ثم جعل يقف عند بعضها من حين إلى حين، ثم فتن بها فتنة مصدرها الغرور أول الأمر، ثم أصبحت جزءا من حياته، لا يستطيع أن يستغني عنها، ولا يتصور أن يعيش دون أن يراها مصبحا وممسيا.
ولم يكد يبلغ أول أطوار الشباب، حتى استجاب لدعاء شهواته وغرائزه، فعبث ما شاء له العبث وأفسد ما شاء له الفساد، وهم أبواه أن يكفاه عن بعض ذلك في تلطف ورفق، فلم يبلغنا منه شيئا، وإنما كان لومهما له إغراء، ونصحهما له دفعا إلى الغلو والإسراف. ثم أتيحت له الغربة، ففارق القصر والربوة إلى ما حولهما، وطوف في الآفاق الغريبة، وأقام في العاصمة فأطال المقام، ثم طوف في الآفاق البعيدة، وزار العواصم الكبرى، وألم بمواطن الجد والهزل، وعاد إلى أبويه فتى كامل الفتوة، قد ردته الحياة إلى شيء من القصد في سيرته ملأ أبويه إعجابا به ورضا عنه، وأتاح له النظر في شئون الأسرة قليلا قليلا، ولم تمض أعوام حتى كان مستقلا بكل شيء، متصرفا في كل شيء، معفيا أباه من كل جهد، ناهضا من دونه بكل عبء.
ولست أعرف شيئا أشد تعقيدا، ولا أكثر اختلاطا، ولا أعسر على الفهم من نفس الإنسان؛ فهي ملتقى المتناقضات وهي غريبة فيما يختلف عليها من الأطوار. لقد كان كل شيء في صبا رءوف يؤذن بأنه سيكون فتى ضائعا، مضيعا، لا يغني عن أسرته شيئا، وإذا هو يعود إليها فتى رشيدا إلى حد ما، قادرا على النهوض بالأعباء، نافذا حين يتصرف في الشئون، بعيد الحيلة حين يحتاج إلى بعد الحيلة، وكان هذا خليقا أن يلقي في روع الذين يعرفونه من قريب أنه الفتى كل الفتى، قد جمع من أخلاق الرجال ما ينأى به عما يعيب، ويرتفع به عن الصغائر، ويهيئه لجلائل الأعمال، وقد كان فيه من هذا كله شيء، ولكنه على ذلك كان ضعيفا أمام غرائزه، متهالكا على لذاته، يسمو إلى الجليل من الأمر، ويعنى مع ذلك بالصغائر وسفاسف الأمور عناية مؤذية، يضبط نفسه أحيانا، فيبلغ من ضبطها ما يريد، ويحملها من عظيم الأمر على ما يحب، ثم يرسل لها العنان فجاءة، فإذا هي تتابع الهوى حتى تجور عن القصد، وتتورط في أعظم الشطط.
وقد التمست الأسرة لابنها الزوج التي تلائم مكانه وجماله وثراءه، فوفقت لما أرادت، وأصهر الفتى إلى أسرة صالحة، وسعد بحياة زوجية ناعمة، ولكن هدوءها لم يتصل؛ فقد كان رءوف صاحب نزوات طالما آذت زوجه، وطالما آذته هو، وطالما أرهقته وأرهقت زوجه من أمرهما عسرا.
ويمكن أن يقال إن نعيما ابنه قد نشأ في بيئة ظاهرها النعمة وباطنها النقمة، كل شيء من حوله ميسر إلا أمر أبويه، فإنه كان عسيرا أشد العسر، ملتويا أعظم الالتواء، وكل قارئ يستطيع أن يصور لنفسه حياة هذه القصور التي يملؤها الترف، ويشيع فيها النعيم، وتفيض من حولها السعادة، ولكنها تشتمل في أعماقها على غرفة أو غرفتين من غرفات الجحيم، لا يرى الذين يأوون إليهما فيهما إلا الشر كل الشر، والنكر كل النكر، والعذاب كل العذاب، ولم يكن قصر رءوف الذي نشأ فيه نعيم إلا واحدا من هذه القصور؛ سعادة ظاهرة وشقاء خفي، أب يلهو ما وجد إلى اللهو سبيلا، وأم تشقى ما استطاعت المرأة أن تحتمل الشقاء، وخصومة وعبوس حين يلتقي الزوجان، ووفاق وابتسام حين يظهران للناس، والصبي بين هذا كله يرى ويسمع ويحس، ويسجل قلبه الصغير كل ما يرى ويسمع ويحس.
وهو يؤثر أمه البائسة بالحب والرحمة والرثاء، ويختص أباه الماجن بكثير من السخط واللوم، ولكنه يخافه أشد الخوف من جهة، ويعجب به أشد الإعجاب من جهة أخرى، يكره سيرته مع أمه ويرضى عن سيرته مع الناس، ويعجب بسيرته مع نفسه، ويتحدث إلى ضميره، بأنه إذا شب فسيكون أبر بزوجه من أبيه، ولكنه سيسير سيرة أبيه في الناس، وسيؤثر نفسه من متاع الحياة بمثل ما يستمتع به أبوه. على أن رءوفا لم ينشئ ابنه كما نشأه أبواه، وإنما أخذه بشيء من الصرامة والحزم، فكان هذا أيضا مصدرا للخصومة بينه وبين زوجه، ومصدرا للتعقيد في نفس الصبي الذي كان يجد من أمه اللين والإسماح، ويجد من أبيه الصرامة والحزم، فيرضى ويسخط، ويحب ويبغض، وتتعقد نفسه على مر الأيام تعقدا شديدا.
12
قد كنت خليقا أن أمضي معك في الحديث عن حياة رءوف في شيء من التفصيل، وعن نشأة نعيم في شيء من الإطناب، لولا أن باب المكتب يفتح ويخرج منه رءوف متضاحكا، يشيع ضيفه إلى سلم القصر، ثم يعود وهو لا يكاد يملك نفسه من ضحك يريد أن يملأ أبهاء القصر، فيصرف الشاعر عن كتابه، ويصرفني أنا عما كنت أقص عليك من حديث، وها هو ذا قد أقبل على الشاعر مغرقا في الضحك، يقول في صوت متقطع: هأنتذا! لقد أطلت انتظارك منذ اليوم، وإني لراض عن اضطرارك إلى أن تنتظرني كما انتظرتك. قال الشاعر وهو ينهض متثاقلا، ويرد الكتاب إلى مكانه من الصف: لست أدري أينا انتظر صاحبه! لقد ذهبت إلى حيث تعودنا أن نلتقي، فأنبئت بأنك تنتظرني في هذا المكتب، ولن أبلغ من الحمق وخطل الرأي أن أترك الجنة النضرة، والسماء الصفو، والجو الصحو، والنهر الجميل، لأحبس نفسي معك في هذا المكتب وإن كان جميلا أنيقا، على أني لم أستطع حتى أن أستمتع بالخلوة إلى هذا الجمال وقتا قصيرا؛ فقد أقبل ابنك نعيم، فنغص علي كل شيء. قال رءوف وهو يغرق في الضحك: ابني نعيم! فهو إذن قد لقيك، وقد ألقى إليك بسخافاته التي لا تنقضي، والتي ليس لها رأس ولا ذيل، ولكن هلم! ما قيامنا في هذا البهو؟! أقبل لأحبسنك في هذا المكتب الذي تكره أن تحبس فيه، أقبل واجتهد في ألا تنحني على العصا إن استطعت؛ فإن نفسي ليست ميالة إلى شعر جرير، أقبل واعدل قامتك إن استطعت إلى ذلك سبيلا، لعلك قد شربت قهوتك على ضفة النهر مستمتعا بالجنة النضرة، والسماء الصفو، والجو الصحو، والنهر الجميل، أم تريد قدحا آخر من القهوة؟ ولكن النهار قد انتصف أو كاد ينتصف، ولم يبق بيننا وبين الغداء إلا ساعة وبعض ساعة، ما تقول في قدح من قهوة أخرى خير من قهوتك تلك التي احتسيتها على ضفة النهر الجميل؟
ثم أغرق في ضحك طويل، والشاعر قائم واجم ينظر إليه ويسمع منه ولا يفهم عنه، فلما سكت عنه الضحك، قال بصوت ضخم مرتفع: الشراب يا غلام. ثم عاد إلى ضحك متقطع، وأخذ بذراع الشاعر وهو يقول: اعتمد على ذراعي إن شئت، أو تعلق بها إن أحببت، ودع عصاك لا تأخذها بيمينك ولا تنحن عليها؛ فقد كان يقال لنا في طور التأديب: إن المهذبين من الناس لا يستصحبون عصيهم إلى حيث يستقبلون، وإنما يتركونها في مواضعها المقسومة لها حين يدخلون الدور أو القصور، هلم! هلم!
ثم مضى يقود الشاعر وكأنه يحمله حملا، ويعلقه في الهواء تعليقا، حتى انتهى إلى مكتبه، فأجلس الشاعر - أو قل - وضع الشاعر وضعا على كرسي عريض وثير، وهم الشاعر أن يتكلم، ولكن رءوفا أومأ إليه أن لا يفعل، وقال في صوت هادئ بعض الشيء: لا تسألني الآن عن شيء ولا تحدثني الآن بشيء، وإنما أرح نفسك وأرحني من الحديث والاستماع، حتى إذا أقبل الشراب وفرغنا من القدح الأول، أخذنا في الحديث فأنبأتني بما عندك، وما أرى أنك ستنبئني بشيء ذي خطر، وتحدثت إليك بما عندي، وما أرى إلا أني سأشغلك بقية يومك، فأسلف نفسك شيئا من الراحة؛ فإنك ستستقبل بعض العناء، ثم انصرف عنه، وجعل يذرع الحجرة ذاهبا جائيا، مغرقا في تفكير عميق .
Halaman tidak diketahui