ويرحم القبح فيهواه
ولكن الشيء المحقق أن القبح خليق أن يعشق وأن تصبو إليه النفوس، وتقف عنده العقول، ويستقصي دقائقه الكتاب والمفكرون، وما أظن أحدا يجادل في أن نصيب القبح من حياة الناس أعظم من نصيب الجمال، كما أن نصيب البؤس من حياتهم أعظم من نصيب النعيم؛ فالكتاب الذين يعنون بالجمال والنعيم وحدهما، ويعرضون عن القبح والبؤس، إنما يعنون بأيسر الحياة، ويعرضون عن أكثرها؛ فهم يعلمون ويعلمون الناس ظاهرا من الأمر، وهم يجهلون ويجهلون الناس بحقائق الأمور وبواطنها.
وأنا بعد هذا كله لا أريد أن أصرف نفسي وأن أصرف القراء عن جمال الربوة والقصر لأني كلف بالقبح مشغوف بالبؤس، وأريد أن أشرك القراء فيما أجد من كلف وشغف، وإنما هي طبيعة الأشياء ومنطق الفن وضرورة الحياة، كل أولئك يقتضيني أن أدع الربوة وقصرها حينا، وأن أصحب القراء إلى مكان ليس له حظ من جمال، وليس لأهله نصيب من نعيم.
فقد رأينا فيما مضى من هذا الحديث أن هذه الربوة الرائعة لا تقوم وحدها على شاطئ النهر، وإنما تقوم في أسفلها قرية بائسة وضيعة يعيش فيها قوم بائسون متضعون. فهذه القرية لم تنشأ عبثا، ولم تقم في أسفل الربوة بغير غاية، وإنما هي مكملة للربوة، وإن شئت فقل: إن الربوة مكملة لها؛ فقد اختلط الأمر علي حقا، فلست أدري أيهما يتم صاحبه، أيهما الأصل وأيهما الفرع؛ فهذه القرية هي التي تستغل الأرض وتستثمرها، وتستخرج منها هذه الثروة الضخمة التي تتيح لأهل الربوة أن ينعموا وأن يترفوا، وأن يستمتعوا بهذه الحياة الحلوة الفارغة، وتتيح للربوة نفسها أن تزدان بجمالها هذا الرائع الخلاب، فلولا أهل القرية البائسون ما ارتفعت الأشجار في السماء، ولا انبسطت الأزهار فويق الأرض، ولا انتشر العشب على هذه الأرض كأنه البسط من السندس والحرير - كما يقال - ولا أتيحت لأهل الربوة هذه الصغائر التوافه اليومية التي لا تستقيم بدونها حياة للمترفين وغير المترفين. فالقرية إذن هي الأصل، وليست الربوة إلا ثمرة من ثمراتها وأثرا من آثارها، ولكن واقع الأمر الاجتماعي غير هذا كله، فقد استقر في نفوس أهل الربوة، أنهم السادة المالكون، وأن أهل القرية هم العبيد المملكون، كما استقر ذلك في رءوس أهل القرية أنفسهم، وكما استقر ذلك في القوانين المكتوبة والنظم الشائعة؛ فأنا إذن معذور إذا اختلط الأمر علي فلم أدر أتكون الربوة أصلا والقرية فرعا كما يريد النظام وتريد القوانين، أم تكون القرية هي الأصل والربوة هي الفرع كما تريد الحقائق الثابتة التي لا يبلغها جدال أو نزاع، وإذا كان غنى زيد يكون لفقر عمرو، كما يقول أبو العلاء، فقد لا نخطئ إذا عكسنا القضية وقلنا: إن فقر عمرو يكون لغنى زيد.
وسواء أكانت القرية أصلا أم فرعا، فإنها قد وجدت في أسفل الربوة، ولم توجد عبثا، فلا بد من أن نهبط إليها وإن كرهنا ذلك، ولا بد من أن نقيم فيها وإن شق علينا هذا المقام، وأنا أريح القراء من مشقة هذا الهبوط، فلا أسلك بهم تلك الطريق العريضة الطويلة التي تزدحم فيها السيارات مصعدة ومصوبة، ولا أسلك بهم هذه الطريقة الضيقة التي يزدحم فيها الفلاحون على أقدامهم وعلى دوابهم مصعدين ومصوبين، وإنما أبلغ بهم القرية من غير طريق؛ لأني أريد ذلك وأستطيعه ما دام الأمر إلي، لا إلى أهل الربوة، ولا إلى أهل القرية، لا وإلى القراء؛ فالكتاب قديرون على شيء كثير إذا لم يفرضوا على أنفسهم ما يحب النقاد أن يفرضوا عليهم من القواعد والأصول.
نحن إذن في القرية في زقاق ضيق جدا لا يكاد يتسع لسعي اثنين أو ثلاثة إلا أن يتقدم بعضهم بعضا شيئا ما، لتجد أقدامهم موضعها من الطريق، والزقاق قذر أبشع القذارة وأشنعها، ترى العين فيه كل ما تكره، ويشم الأنف فيه كل ما يكره، قد عاش أهله عيشة البؤس والضر والإهمال، لم يعنوا بصحتهم لأن أحدا لم يعلمهم أن الصحة شيء يعنى به الناس، ولم يعنوا بنظافتهم لأن أحدا لم ينبئهم بأن النظافة شيء يستحب، ولأنهم لو أحبوا النظافة والتمسوها لما وجدوا إليها سبيلا، قد قصرت أيديهم عن وسائلها وأدواتها قصورا تاما؛ فهم يعيشون كما يستطيعون، قد اختلط رجالهم ونساؤهم وأطفالهم وحيوانهم ودواجنهم اختلاطا بشعا بغيضا، وقد رأيت ما ينشأ عن هذا الاختلاط من الشر والنكر والفساد.
وفي أعماق هذا الزقاق دار منخفضة ليست عظيمة السعة، ولكنها على كل حال أوسع مما يجاورها من الدور، قد انخفض بابها فلا يستطيع الإنسان أن يدخلها معتدل القامة إلا أن يكون قزما أو طفلا، فأما إذا تجاوز القصر إلى شيء من الطول فلا بد له من أن ينحني ليلج من هذا الباب، وهو إذا تخطى عتبة الدار وجد نفسه في فناء له شيء من عمق قد ارتبط فيه حمار، وانطلقت فيه دجاجات، وارتفعت في بعض جوانبه مصطبة صغيرة ضيقة، جلس عليها رجل قد تقدمت به السن وأدركه الضعف، وكاد سمعه يثقل، فهو لا يفقه ما يلقى إليه من حديث إلا أن يرتفع الصوت، وكاد بصره يذهب فهو لا يرى إلا أقرب الأشياء إليه، ولا يراه إلا في قليل من الوضوح، وبين يدي هذا الرجل نعال قديمة قد تخرقت وأدركها البلى، وقطع من الجلد الرقيق والغليظ وأدوات يعمل بها في هذا الجلد وفي تلك النعال، وهو مطرق إلى جلده ونعاله وأدواته، تعمل يداه أحيانا في ترقيع نعل أو إصلاحه وتكفان عن العمل أحيانا، ولكنهما لا تسكنان حين تكفان عن العمل، وإنما تعبثان بما أمام الرجل من جلد ونعال وأدوات.
وقد يأخذ الرجل قطعة من الجلد بكلتا يديه يشدها إلى يمين ويشدها إلى يسار، وقد يضع طرفا من أطرافها في فمه كأنه يريد أن يقضمها، وهو لا يريد قضما ولا التهاما، وإنما يريد أن يمتحن متانة الجلد، فهو يمسك طرفا منه بما بقي من أسنانه، ويمسك طرفيه الآخرين بيديه، وهو يشد إلى هذه الجهة وإلى تلك ليستيقن أن هذا الجلد متين صالح لترقيع هذه النعل أو تلك، والرجل في أكثر أحواله صامت كالمتكلم ومتكلم كالصامت، لا يوجه إلى أحد حديثا، ولا يكاد يجيب إن وجه أحد إليه الحديث، ولكنه على ذلك متحرك الشفتين دائما متقلب اللسان في الفم دائما، يغمغم بألفاظ لا يسمعها إلا هو والذين يدنون منه أشد الدنو. وهذه الألفاظ غامضة مختلطة؛ فهو أحيانا يتحدث إلى جلده ونعاله يصف رثاثتها ومتانتها وحاجتها إلى الرتق والإصلاح، وأحيانا يتحدث إلى أدواته يصف مضيها وكلالها وعجزها وقوتها، وأحيانا يتحدث إلى نفسه فينشد محفوظات له من هذا الشعر العامي الذي تجري به الألسنة وتسير فيه الحكم والأمثال.
وعن يمينك وشمالك إذا تجاوزت عتبة الدار حجرتان ليس باباهما أقل انخفاضا من باب الدار، ولعلهما أن يكونا أدنى منه إلى الأرض، فإذا دخلت إحدى هاتين الغرفتين لم تجد فيها إلا حصيرا قد ألقي على الأرض، وصندوقا حقيرا قد وضع في زاوية من زواياها، وجماعة من هذا الخبز العريض الرقيق المستدير قد رص بعضها إلى بعض وارتفعت في زاوية من زوايا الحجرة كأنها العمود، تأخذ منها الأسرة حين تريد أن تطعم، وما تزال تأخذ منها والعمود ينخفض ويتضاءل، حتى إذا دنا من الأرض عملت محبوبة صاحبة الدار على تجديده ورفعه - فكان إعداد الذرة وإشعال الفرن إلى جانب المصطبة التي يعمل عليها الشيخ، وانطلاق الدخان، ويضطر الشيخ في ذلك اليوم إلى أن يأخذ جلده ونعاله وأدواته ويجلس بها على الأرض أمام الدار - فإذا دخلت الحجرة الأخرى لم تر فيها إلا حصيرا قد ألقي على الأرض، وأغطية رثة قد نثرت هنا وهناك، فأما إحدى الحجرتين فقد كان يأوي إليها الشيخ الإسكاف، ولنسمه محمودا وامرأته محبوبة، وأما الحجرة الأخرى فقد كان يأوي إليها أبناء الدار وهم ثلاثة: أكبرهم أحمد قد نيف على العشرين وكاد يبلغ الثلاثين، وهو فتى طوال مظلم الوجه قوي الجسم قليل الكلام حائر الطرف لا تكاد عينه تستقر على شيء، ولا تراه الدار إلا حين تغرب الشمس ويتقدم الليل لأنه يعمل في الحقول، وأصغرهم علي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد، وهو صبي قد أهمل أشد الإهمال، يلعب إن أتيح له اللعب، ويعمل إن أتيح له العمل، ويسرق إن أتيحت له السرقة.
وبين هذين الابنين من أبناء الدار خديجة هذه التي كادت تبلغ العشرين والتي لم يدر من أين جاءت، ولا لأي أبويها يمكن أن يضاف جمال وجهها الرائع واعتدال قامتها الجميلة، وهذا الخفر الحلو الذي يصدر في دعة وهدوء وأمن عن عينيها الجميلتين، وهذا الحياء العذب الذي يعرب عنه وجهها الهادئ المطمئن، وثغرها الذي يريد أن يبتسم ولكنه يمتنع على الابتسام، وصوتها الممتلئ الرخيم الذي لا يكاد يتكلم إلا همسا، وحركاتها الرشيقة المتزنة المعتدلة التي تدل على حياة قوية دافقة وعلى حياء شديد يمسك هذه القوة أن تندفع إلى أكثر مما ينبغي.
Halaman tidak diketahui