وكان أهل اليمن الأقدمون مهرة في فن العمارة ونحت الأحجار، يدلنا على ذلك ما خلفوه وراءهم من سدود وقصور وحصون ومدائن ومعابد وحياض لخزن الماء، وإن ما ذكره الهمداني من وصف قصر غمدان ومن أنه كان عشرين طبقة بعضها فوق بعض، بين كل سقفين عشرة أذرع، ومن أن بانيه لما بلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة شفافة ليس فيه مبالغة، ويدل على مهارتهم، وأن ما بقي من الآثار يصعب على الإنسان أن يرى الفواصل بين حجارتها، وكانت تزخرف مبانيهم نقوش كتابية ورسوم تمثل حيوانات أو زخارف من ورق الشجر، وهي تدل جميعها على مهارة في الحفر الغائر في الحجر. أما صناعة التماثيل فلم تكن متقدمة كما كانت عند المصريين واليونان أو حتى عند الآشوريين، فكان الجسم ينحت كتلة صماء، أما الوجه فكانت لا تجري فيه أية حياة ولا يعبر عن شيء، وكانت النسبة في معظم الأحيان بين أجزائه خاطئة، والظاهر أن القوة الفنية للابتكار لم تكن قوية فيهم، فإن أحسن نماذجهم الفنية في الآنية أو التماثيل يظهر فيها الأثر الأجنبي إن لم تكن صنعتها يد أجانب، وصكوا عملتهم في أول الأمر على غرار العملة اللاتينية، ولكن صناعتها تدهورت في آخر الأمر وكانت تقليدا ضعيفا للنقود الرومانية.
وكان لأهل اليمن نظام غريب في تشييد مدافنهم ومعابدهم، فمدينة مأرب عاصمة سبأ تدل أنقاضها الحالية على أنها كانت مستديرة الشكل تماما، ويرجح أن ذلك كان راجعا إلى اعتبارات دينية، وكان بعض مبانيهم بيضي الشكل كالأثر المعروف الآن باسم حرم بلقيس ولعله كان معبدا، ونلاحظ أن معظم المدائن اليمانية كانت تبنى على مرتفعات، وهذا طبيعي في بلاد حارة كبلاد اليمن .
وقد عرف اليمانيون العقد المدبب، ولا تزال كثير من الأحواض التي بنوها لخزن المياه مستعملة إلى الآن، أما قصور اليمن فقد أطنب شعراء العرب في التغني بها ووصفها في أشعارهم، ولا تزال أنقاض بعضها قائمة إلى الآن.
أما أشهر مباني العرب، فهو سد مأرب، ولأهميته سنفرد له فقرتين، نذكر فيهما تاريخه وتصدعه وما ترتب على ذلك. (6) اللغة والدين
كان أهل اليمن يتكلمون لغة سامية، ولكنها ليست اللغة العربية الشمالية التي نتكلمها الآن، وهي تمت إلى الحبشية بصلة، ويعتبرها علماء اللغات من لغات القسم الجنوبي للمجموعة السامية، وقد تفرعت إلى لهجات بحسب عصور الحكم، منها اللهجة المعينية واللهجة السبئية واللهجة الحميرية. والكتابة اليمنية القديمة ليست لها حروف حركة تحدد النطق بالكلمات، فهي من هذه الناحية تشبه الكتابة المصرية القديمة. وضبط النطق بالألفاظ فيها ليست إلا مسألة تخمينية. وحروف الكتابة لا تتصل، إنما يفصل بين الكلمات فاصل، وأبجديتها مثل الأبجدية الفينيقية مقتطعة من الأبجدية السينائية التي كشفت في السنوات الأخيرة في سرابيط الخادم بسيناء، وكان كل من تجار العرب والفينيقيين قد نقلوها من سينا، وهذه مأخوذة من الخط المصري القديم. ويعرف الخط اليمني القديم بالمسند، وهو اسم أطلقه علماء المسلمين عليه؛ لأن الحروف فيه تستند إلى أعمدة، وتتكون الأبجدية من تسعة وعشرين حرفا، هي الحروف الثمانية والعشرون للأبجدية العربية، تضاف إليها السين الثانية العبرية، وكان اليمنيون يكتبون من اليمين إلى اليسار، وبعض النقوش القديمة يقرأ منها سطر من اليمين إلى اليسار وسطر من اليسار إلى اليمين على التعاقب، وقد ظل الخط الحميري «المسند» يقرأ إلى صدر الإسلام، حتى أدخل الإسلام في بلاد اليمن مع العقيدة الدينية لغة القرآن «العدنانية المضرية أو القرشية الفصحى» ومحا محوا تاما كل اللهجات الجنوبية، التي كانت قد ضعفت لأسباب شتى، ونسي أهل اليمن مع نسيانهم للغتهم القومية أخبار أقوامهم السابقين (راجع تاريخ اللغات السامية، الدكتور إسرائيل ولفنسون، والجزء الأول من كتاب الأساس للدكتور العناني).
هذا؛ ولا يزال المستشرقون يجدون صعوبة كبيرة في ترجمة النقوش العربية الجنوبية، وأن معاني شطر كبير منها لا يزال موضع خلاف بينهم.
وقد ذكر الأستاذ فلبي في مقدمة كتابه الأخير عن عصر ما قبل الإسلام الذي أشرنا إليه آنفا أنه يستطيع أن يدعي أنه قد قرأ بقدر الاستطاعة وهضم بالفعل كل النقوش العربية الجنوبية، وعدتها نحو 6000 نقش، هي كل التي كشفت أو على الأقل نشرت ... وأنه عندما يعتزم تفصيل المختصر الذي كتبه عن تاريخ العرب قبل الإسلام بالتدريج وينتوي أن يؤيد آراءه بإضافة ملحق إلى الكتاب يتضمن ترجمة إنجليزية لكل النقوش العربية الجنوبية ذات الأهمية التاريخية.
ولا شك أن اليمانيين الأقدمين كانت لهم آداب؛ لأنهم ضربوا في المدنية بسهم وافر، ولكن لم يصلنا من آدابهم شيء، أما النقوش التي وصلتنا فإنها لا تتضمن إلا أدعية واستغفارات أو مراسيم ملكية تتعلق بالري أو الضرائب أو ما شاكل ذلك، وقد قسمها العلماء إلى الأقسام الستة التالية: (1)
نقوش معمارية وجدت على جدران المعابد وغيرها من المباني العامة تخليدا لذكرى بانيها أو من اشتركوا في إقامتها. (2)
نقوش تاريخية دونت عليها أخبار بعض المعارك، أو أعلن فيها ذكرى بعض الانتصارات. (3)
Halaman tidak diketahui