ولكن دولة حمير لم تلبث أن لمت شعثها حوالي سنة 300 ميلادية، وضمت إليها القبائل المجاورة من بدو وحضر، فأخضعت حضرموت وكل بلاد اليمن، وأصبح لقب الملك الحميري هو «ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات»، وبعد مدة قليلة أضيفت ألقابا أخرى وهي: «وعربهم في الجبال وفي تهامة»، ويفهم من هذا أن الدولة الحميرية الثانية أصبحت أشبه بالإمبراطورية، تخضع بلاد كثيرة لسلطانها، وهذه الدولة هي المعروفة عند العرب باسم دولة التبابعة، ويرسم المؤرخون العرب إلى ملوكها قصصا أشبه بالخرافة منها بالتاريخ الحقيقي، وسنعود لذكرها في الفقرة التالية، أما النقوش فإنها تذكر لنا أسماء تسعة من ملوك حمير في ذلك العصر، وقد ذكرناها في فقرة [الدور الحميري].
ويمتاز هذا العصر الحميري الثاني بدخول المسيحية واليهودية إلى بلاد اليمن، ومحاولة زحزحة الديانة الوثنية، التي كانت تدور حوله عبادة النجوم والكواكب والشمس عنها، وقد بدأت المسيحية على المذهب المنوفستي القائل بأن المسيح له طبيعة واحدة تسلك سبيلها إلى الجنوب من الشام، وكانت روما تشجع هذه الديانة وتستعين بالأحباش الذين تنصروا أيضا على نشرها، وكان غرض روما من تشجيعها للمسيحية، غرضا سياسيا أكثر منه دينيا.
وانتشرت في الوقت نفسه الديانة اليهودية في بلاد اليمن، وكانت قد توطنت قبل ذلك في شمال بلاد العرب، وشجع الملوك الحميريون اليهودية، ليقاوموا المسيحية دين عدوهم السياسي والاقتصادي.
وفي منتصف القرن الرابع الميلادي، غزا الأحباش بلاد اليمن ولكنهم لم يلبثوا أن طردوا، وعاد الحكم إلى الحميريين، الذين ظلوا يحتفظون بلقبهم الطويل إلى الربع الأول من القرن السادس الميلادي.
واعتنق الملك التالي على العرش اليهودية، سياسة منه لكي يعارض السياسة الرومانية، ثم تولى بضعة ملوك كانوا يعتنقون اليهودية، وكان آخرهم ذو نواس، الذي يسميه المؤرخون اليونان ديمانوس، وهو الذي جعل اليهودية دين الدولة الرسمي، واضطهد النصارى في نجران كما سنبينه عند الكلام عن الدور الحبشي.
حمير والتبابعة عند العرب
اشتهرت هاتان الدولتان شهرة واسعة، إلا أن المبالغات التي ذكرها المؤرخون العرب جعلت من الصعب استخلاص شيء حقيقي مما ذكروه، ولا شك في أن نفوذ هذه الدولة التجاري جعلها تبسط سلطانها على بعض أجزاء الجزيرة العربية في الشمال، من ذلك أنها أقامت دولة في شمال شبه الجزيرة، تسمى دولة كندة، سنفرد لها فصلا خاصا، ونكتفي هنا بذكر أشهر ملوك حمير والتبابعة مع نبذ من أخبارهم، كما ورد في كتب العرب. (1)
حمير - وهو في نظر نسابة العرب ابن سبأ - هو أول ملوكهم، كان أجمل أهل زمانه وأفرسهم، وقيل إنه كان أول من تتوج بالذهب، وكان مقر حكمه مدينة مأرب، وقد مد حكمه إلى حدود الصين، وكان ملكه خمسا وثمانين سنة، وقيل: هو الذي أخرج ثمود من اليمن إلى الحجاز، ولما مات وثب أخوه كهلان على الملك، ولكن أبناء حمير استردوه، وظلت كهلان في الحدود فيما يلي الصحراء. (2)
ثم تعاقب عدة من الملوك كان أشهرهم في كتب العرب شداد بن عاد بن الملطاط، الذي قيل: إنه أخذ يغزو في البلاد حتى بلغ أقصى المغرب، وبنى مدنا كثيرة. (3)
ثم تولى آخرون، حتى آل الملك إلى عمرو بن عامر ماء السماء، المعروف بميزيقيا؛ لأنه كان يلبس كل يوم حليتين منسوجتين بالذهب، ويذكرون أن في عصره حدثت حادثة سيل العرم. (4)
Halaman tidak diketahui