مقدمة
...
خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحمد لله كما هو أهله وصلواته على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين.
سألني بعض إخواني أن أصنف له مختصرًا في المذهب في أصول الفقه، ليكون ذلك مضافا إلى ما عملت من التبصرة في الخلاف، فأجبته إلى ذلك إيجابا لمسألته وقضاء لحقه وأشرت فيه إلى ذكر الخلاف وما لا بد منه من الدليل فربما وقع ذلك إلى من ليس عنده ما عملت من الخلاف وإلى الله تعالى أرغب أن يوفقني للصواب ويجزل لي الأجر والثواب إنه كريم وهاب.
ولما كان الغرض بهذا الكتاب أصول الفقه وجب بيان العلم والظن وما يتصل بهما، لأن بهما يدرك جميع ما يتعلق بالفقه، ثم نذكر النظر والدليل وما يتصل بهما، لأن بذلك يحصل العلم والظن، ثم نبين الفقه وأصول الفقه إن شاء الله ﷿.
باب بيان العلم والظن
ونقدم على ذلك بيان الحد لأن به يعرف حقيقة كل ما نريد ذكره، والحد هو عبارة على المقصود بما يحصره ويحيط به إحاطة تمنع أن يدخل فيه ما ليس منه أو يخرج منه ما هو منه ومن حكم الحد أن يطرد وينعكس فيوجد المحدود بوجوده وينعدم بعدمه.
1 / 3
فصل
فأما العلم فهو معرفة المعلوم على ما هو عليه. وقالت المعتزلة: هو اعتقاد الشيء على ما هو به مع سكون النفس إليه وهذا غير صحيح لأن هذا يبطل باعتقاد العاصي فيما يعتقده فإن هذا المعنى موجود فيه وليس ذلك بعلم.
فصل
والعلم ضربان: قديم ومحدث. فالقديم علم الله ﷿ وهو متعلق بجميع المعلومات ولا يوصف ذلك بأنه ضروري ولا مكتسب، والمحدث علم الخلق وقد يكون ذلك ضروريا وقد يكون مكتسبا، فالضروري كل علم لزم المخلوق على وجه لا يمكنه دفعه عن نفسه بشك ولا شبهة وذلك كالعلم الحاصل عن الحواس الخمس التي هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس والعلم بما تواترت به الأخبار من ذكر الأمم السالفة والبلاد النائية وما يحصل في النفس من العلم بحال نفسه من الصحة والسقم والغم والفرح وما يعلمه من غيره من النشاط والفرح والغم والترح وخجل الخجل ووجل الوجل وما أشبهه مما يضطر إلى معرفته، والمكتسب كل علم يقع على نظر واستدلال كالعلم بحدوث العالم وإثبات الصانع وصدق الرسل ووجوب الصلاة وأعدادها ووجوب الزكاة ونُصَبِها وغير ذلك مما يعلم بالنظر والاستدلال.
فصل
وحد الجهل تصور المعلوم على خلاف ما هو به، والظن تجويز أمرين أحدهما أظهر من الآخر كاعتقاد الإنسان فيما يخبر به الثقة أنه على ما أخبر به وإن جاز أن يكون بخلافه وظنِّ الإنسان في الغيم المشف الثخين أنه يجيء منه المطر وإن جوِّز أن ينقشع عن غير مطر واعتقاد المجتهدين فيما يفتون به في مسائل الخلاف وإن جوزوا أن يكون الأمر بخلاف ذلك وغير ذلك مما لا يقطع به.
فصل
والشك تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر كشكِّ الإنسان في الغيم
1 / 4
غير المشف أنه يكون منه مطر أم لا وشكِّ المجتهد فيما لم يقطع به من الأقوال وغير ذلك من الأمور التي لا يغلب فيها أحد التجوزين على الآخر.
باب النظر والدليل
والنظر هو الفكر في حال المنظور فيه وهو طريق إلى معرفة الأحكام إذا وجد بشروطه، ومن الناس من أنكر النظر وهذا خطأ لأن العلم يحصل بالحكم عند وجوده فدل على أنه طريق له.
فصل
وأما شروطه فأشياء. أحدها: أن يكون الناظر كامل الآلة على ما نذكره في باب المفتي إن شاء الله تعالى. والثاني: أن يكون نظره في دليلٍ لا في شبهةٍ. والثالث: أن يستوفيَ الدليل ويرتبه على حقه فيقدم ما يجب تقديمه ويؤخر ما يجب تأخيره.
فصل
وأما الدليل فهو المرشد إلى المطلوب ولا فرق في ذلك بين ما يقع به من الأحكام وبين مالا يقع به. وقال أكثر المتكلمين: لا يستعمل الدليل إلا فيما يؤدي إلى العلم، فأما فيما يؤدي إلى الظن فلا يقال له دليل وإنما يقال له أمارة وهذا خطأ لأن العرب لا تفرق في تسمية بين ما يؤدي إلى العلم أو الظن فلم يكن لهذا الفرق وجه.
وأما الدال فهو الناصب للدليل وهو الله ﷿، وقيل: هو والدليل واحد كالعالم والعليم وإن كان أحدهما أبلغ والمستدِلُ هو الطالب للدليل ويقع على السائل لأنه يطلب الدليل من المسؤول وعلى المسؤول لأنه يطلب الدليل من الأصول. والمستدَل عليه هو الحكم الذي هو التحريم والتحليل. والمستدَل له يقع على الحكم لأن الدليل يطلب له ويقع على السائل لأن الدليل يطلب له، والاستدلال هو طلب الدليل وقد يكون ذلك من السائل للمسؤول وقد يكون من المسؤول في الأصول.
1 / 5
باب بيان الفقه وأصول الفقه
والفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد، والأحكام الشرعية وهي الواجب والمندوب، والمباح والمحظور، والمكروه؛ والصحيح والباطل. فالواجب ما تعلق العقاب بتركة كالصلوات الخمس والزكاوات وردّ الودائع والمغصوب وغير ذلك. والمندوب ما يتعلق الثواب بفعله ولا يتعلق العقاب بتركه كصلوات النفل وصدقات التطوع وغير ذلك من القرب المستحبة. والمباح ما لا ثواب بفعله ولا عقاب في تركه كأكل الطيب ولبس الناعم والنوم والمشي وغير ذلك من المباحات. والمحظور ما تعلق العقاب بفعله كالزنا وللواط والغصب والسرقة وغير ذلك من المعاصي. والمكروه ما تركه افضل من فعله كالصلاة مع الالتفات والصلاة في أعطان الإبل واشتمال الصماء وغير ذلك مما نهى عنه على وجه التنزيه. والصحيح ما تعلق به النفوذ وحصل به المقصود كالصلوات الجائزة والبيوع الماضية. والباطل ما لا يتعلق به النفوذ ولا يحصل به المقصود كالصلاة بغير طهارة وبيع ما لا يملك غير ذلك مما لا يعتد به من الأمور الفاسدة.
فصل
وأما أصول الفقه فهي الأدلة التي يبنى عليها الفقه وما يتوصل بها إلى الأدلة على سبيل الإجمال. والأدلة هاهنا خطاب الله ﷿، وخطاب رسوله ﷺ وأفعاله وإقراره، وإجماع الأمة والقياس والبقاء على حكم الأصل عند عدم هذه الأدلة، وفتيا العالم في حق العامة، وما يتوصل به إلى الأدلة فهو الكلام على تفصيل هذه الأدلة ووجهها وترتيب بعضها على بعض.
وأول ما يبدأ به الكلام على خطاب الله ﷿ وخطاب رسوله ﷺ لأنهما أصل لما سواهما من الأدلة ويدخل في ذلك أقسام الكلام والحقيقة والمجاز والأمر والنهي والعموم والخصوص المجمل والمبين والمفهوم والمؤول والناسخ والمنسوخ ثم الكلام في أفعال رسول الله ﷺ
1 / 6
وإقراره لأنهما يجريان مجرى أقواله في البيان، ثم الكلام في الأخبار لأنها طريق إلى معرفة ما ذكرناه من الأقوال والأفعال ثم الكلام في الإجماع لأنه ثبت كونه دليلا بخطاب الله ﷿ وخطاب رسوله ﷺ وعنهما ينعقد، ثم الكلام في القياس لأنه ثبت كونه دليلا بما ذكر من الأدلة واليها يستند، ثم نذكر حكم الأشياء في الأصل لأن المجتهد إنما يُفزَع إليه عند عدم هذه الأدلة ثم نذكر فتيا العالم وصفة المفتي والمستفتي لأنه إنما يصير طريقا للحكم بعد العلم بما ذكرناه ثم نذكر الاجتهاد وما يتعلق به إن شاء الله تعالى.
باب أقسام الكلام
جميع ما يُتَلفَظ به من الكلام ضربان: مهمل ومستعمل، فالمهل: ما لم يوضع للإِفادة والمستعمل ما وضع للإفادة وذلك ضربان: أحدهما ما يفيد معنى فيما وضع له وهي الألقاب كزيد وعمرو وما أشبهه. والثاني ما يفيد معنى فيما وضع له ولغيره وذلك ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف على ما يسميه أهل النحو، فالاسم كل كلمة دلت على معنى في نفسها مجرد عن زمان مخصوص كالرجل والفرس والحمار وغير ذلك، والفعل كل كلمة دلت على معنى في نفسها مقترن بزمان كقولك ضرب ويقوم وما أشبهه، والحرف ما لا يدل على معنى في نفسه ودل على معنى في غيره كمن وإلى وعلى وأمثاله وأقل كلام مفيد ما بني من أسمين كقولك زيد قائم وعمرو أخوك أو ما بني من اسم وفعل كقولك خرج زيد ويقوم عمرو: وأما ما بني من فعلين أو من حرفين أو من حرف واسم أو حرف وفعل فلا يفيد إلا أن يقدر فيه شيء مما ذكرناه كقولك يا زيد فإن معناه أدعو زيدا.
باب في الحقيقة والمجاز
والكلام المفيد ينقسم إلى حقيقة ومجاز وقد وردت اللغة بالجميع ونزل به القرآن ومن الناس من أنكر المجاز في اللغة. وقال ابن داود: ليس في القرآن مجاز وهذا خطأ لقوله تعالى: ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ﴾ ١ ونحن نعلم ضرورة أنه
_________
١ سورة الكهف الآية: ٧٧.
1 / 7
لا إرادة للجدار وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ ١ونحن نعلم ضرورة أن القرية لا تخاطب فدل على أنه مجاز.
فأما الحقيقة فهي الأصل وحدُّها: كل لفظ يستعمل فيما وضع له من غير نقل وقيل ما استعمل فيما اصطلح على التخاطب به، وقد يكون للحقيقة مجاز كالبحر حقيقة للماء المجتمع الكثير ومجاز في الفرس الجواد والرجل العالم فإذا ورد اللفظ حمل على الحقيقة بإطلاقه ولا يحمل على المجاز إلا بدليل وقد لا يكون له مجاز وهو أكثر اللغات فيحمل على ما وضع له.
وأما المجاز فحدُّه ما نقل عما وضع له وقلَّ التخاطب به وقد يكون ذلك بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير واستعارة فالزيادة كقوله ﷿: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ٢.والمعنى ليس مثله شيء والكاف زائدة والنقصان كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ والمراد أهل القرية فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والتقديم والتأخير كقوله ﷿: ﴿وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى﴾ ٣. والمراد أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء فقدم وأخر والاستعارة كقوله تعالى ﴿جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾ ٤ فاستعار فيه لفظ الإرادة وما من مجاز إلا وله حقيقة لأنا قد بينا أن المجاز ما نقل عما وضع له وما وضع له هو الحقيقة.
فصل:
ويعرف المجاز من الحقيقة بوجوه من أن يصرحوا بأنه مجاز وقد بين أهل اللغة ذلك وصنف أبو عبيدة كتاب المجاز في القرآن وبين جميع ما فيه من المجاز، ومنها أن يستعمل اللفظ فيما لا يسبق إلى الفهم عند سماعه كقولهم في البليد حمار والأبله تيس ومنها أن يوصف الشيء ويسمى بما يستحيل وجوده كقوله ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ ٥ ومنها أن لا يجري ولا يطرد كقولهم في الرجل
_________
١ سورة يوسف جزء من الآية: ٨٢.
٢ سورة الشورى جزء من الآية: ١١.
٣ سورة الأعلى الآية: ٤، ٥.
٤ سورة الكهف الآية: ٧٧.
٥ سورة يوسف الآية: ٨٢.
1 / 8
الثقيل جبل ثم لا يقال ذلك في غيره وفي الطويل نخلة ثم لا يقال ذلك في غير الآدمي، ومنها أن لا يتصرف فيما استعمل فيه كتصرفه فيما وضع له حقيقة كالأمر في معنى الفعل لا تقول فيه أمر يأمر كما تقول في الأمر بمعنى القول.
باب بيان الوجوه التي تؤخذ منها الأسماء واللغات
اعلم أن الأسماء واللغات تؤخذ من أربع جهات من اللغة والعرف والشرع والقياس. فأما اللغة فما تخاطب به العرب من اللغات وهي على ضربين، فمنها ما يفيد معنى واحدا فيحمل على ما وضع له اللفظ كالرجل والفرس والتمر والبر وغير ذلك، ومنه ما يفيد معاني وهو على ضربين.
أحدهما: ما يفيد معاني متفقة كاللون يتناول البياض والسواد وسائر الألوان والمشرك يتناول اليهودي والنصراني فيحمل على جميع ما يتناوله أما على سبيل الجمع إن كان اللفظ يقتضي الجمع أو على كل واحد منه على سبيل البدل إن لم يقتض اللفظ الجمع إلا أن يدل الدليل على أن المراد شيء بعينه فيحمل على ما دل عليه الدليل.
والثاني: ما يفيد معاني مختلفة كالبيضة تقع على الخوذة وبيض الدجاجة والنعامة، والقرء يقع على الحيض والطهر فإن دل الدليل على أن المراد به واحد منهما بعينه حمل عليه وأن دل الدليل على أن المراد به، أحدهما ولم يعين لم يحمل على واحد منهما إلا بدليل إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر وإن لم يدل الدليل على واحد منهما حمل عليهما وقال أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة لا يجوز حمل اللفظ الواحد على معنيين مختلفين والدليل على جواز ذلك انه لا تنافي بين المعنيين واللفظ يحتملهما فوجب الحمل عليهما كما قلنا في القسم الذي قبله.
فصل
وأما العرف: فهو ما غلب الاستعمال فيه على ما وضع له في اللغة بحيث إذا أطلق سبق الفهم إلى ما غلب عليه دون ما وضع له كالدابة وضع في
1 / 9
الأصل لكل ما دب ثم غلب عليه الاستعمال في الفرس، والغائط وضع في الأصل للموضع المطمئن من الأرض ثم غلب عليه الاستعمال فيما يخرج من الإنسان فيصير حقيقة فيما غلب عليه فإذا أطلق حمل على ما يثبت له من العرف.
فصل
وأما الشرع فهو ما غلب الشرع فيه على ما وضع له اللفظ في اللغة بحيث إذا أطلق لم يفهم منه إلا ما غلب عليه الشرع كالصلاة اسم للدعاء في اللغة ثم جعل في الشرع اسما لهذه المعروفة. والحج اسم للقصد ثم نقل في الشرع إلى هذه الأفعال فصار حقيقة فيما غلب عليه الشرع فإذا أطلق حمل على ما يثبت له من عرف الشرع، ومن أصحابنا من قال ليس في الأسماء شيء منقول إلى الشرع بل كلها مبقاة على موضوعها في اللغة، فالصلاة اسم للدعاء وإنما الركوع والسجود زيادات أضيفت إلى الصلاة وليست من الصلاة كما أضيفت إلى الطهارة وليست منها وكذلك الحج اسم للقصد والطواف والسعي زيادات أضيفت إلى الحج وليست من الحج فإذا أطلق اسم الصلاة حمل على الدعاء وإذا أطلق اسم الحج حمل على القصد وهو قول الأشعرية والأول أصح والدليل عليه أن هذه الأسماء إذا أطلقت في الشرع لم يعقل منها المعاني التي وضعت لها في اللغة فدل على أنها منقولة.
فصل
إذا ورد لفظ قد وضع في اللغة لمعنى وفي العرف لمعنى حمل على ما ثبت له في العرف لأن العرف طارئ على اللغة فكان الحكم له، وإن كان قد وضع في اللغة لمعنى وفي الشرع لمعنى حمل على عرف الشرع لأنه طارئ على اللغة ولأن القصد بيان حكم الشرع فالحمل عليه أولى.
فصل
وأما القياس فهو مثل تسمية اللواط زنا قياسا على وطء النساء وتسمية
1 / 10
النبيذ خمرا قياسا على عصير العنب وقد اختلف أصحابنا فيه. فمنهم من قال: يجوز إثبات اللغات والأسماء بالقياس وهو قول أبي العباس وأبي علي بن أبي هريرة ومنهم من قال: لا يجوز ذلك والأول أصح لأن العرب سمت ما كان في زمانها من الأعيان بأسماء ثم انقرضوا وانقرضت تلك الأعيان وأجمع الناس على تسمية أمثالها بتلك الأسماء فدل على أنهم قاسوها على الأعيان التي سموها.
1 / 11
الكلام في الأمر والنهي
باب القول في بيان الأمر وصيغته
أعلم أن الأمر قول يستدعي به الفعل ممن هو دونه ومن أصحابنا من زاد فيه على سبيل الوجوب فأما الأفعال التي ليست بقول فإنها تسمى أمرا على سبيل المجاز ومن أصحابنا من قال ليس بمجاز قال الشيخ الإمام أيده الله وقد نصرت ذلك في التبصرة والأول أصح لأنه لو كان حقيقة في الفعل كما هو حقيقة في القول لتصرف في الفعل كما تصرف في القول فيقال أمر يأمر كما يقال ذلك إذا أريد به القول.
فصل
وكذلك ما ليس فيه استدعاء كالتهديد مثل قوله ﷿: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ﴾ ١ والتعجيز كقوله تعالى: ﴿قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ ٢ والإباحة مثل قوله ﷿: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ ٣
فذلك كله ليس بأمره وقال البلخي من المعتزلة: الإباحة أمر وهذا خطأ لأن الإباحة هي الإذن وذلك لا يسمى أمرا ألا ترى أن العبد إذا استأذن مولاه في الاستراحة وترك الخدمة فأذن له في ذلك لا يقال انه أمره بذلك.
٢-فصل
وكذلك ما كان من النظير للنظير ومن الأدنى للأعلى فليس بأمر وإن
_________
١ سورة فصلت الآية: ٤٠.
٢ سورة هود الآية: ١٣.
٣ سورة المائدة الآية: ٢.
1 / 12
كان صيغته صيغة أمر وذلك كقول العبد لربه اغفر لي وارحمني فإن ذلك مسألة ورغبة.
فصل
وأما الاستدعاء على وجه الندب فليس بأمر حقيقة ومن أصحابنا من قال هو أمر حقيقة والدليل على أنه ليس بأمر قوله ﷺ: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". ومعلوم أن السواك عند كل صلاة مندوب إليه وقد أخبر أنه لم يأمر به فدل على أن المندوب إليه غير مأمور به.
فصل
للأمر صيغة موضوعة في اللغة تقتضي الفعل وهو قوله افعل وقالت الأشعرية: ليست للأمر صيغة والدليل على أن له صيغة أن أهل اللسان قسموا الكلام فقالوا في جملتها أمر ونهي فالأمر قولك افعل والنهي قولك لا تفعل فجعلوا قوله افعل بمجرده أمرًا فدل على أن له صيغة.
باب ما يقتضي الأمر من الإيجاب إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب في قول أكثر أصحابنا ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال يقتضي الوجوب بوضع اللغة ومنهم من قال يقتضي الوجوب بالشرع ومن أصحابنا من قال يقتضي الندب. وقال بعض الأشعرية لا يقتضي الوجوب ولا غيره إلا بدليل وقالت المعتزلة الأمر يقتضي إرادة الفعل فإن كان ذلك من حكيم اقتضت الندب وإن كان من غيره لم يقتض أكثر من الإرادة، والدليل على أنها تقتضي الوجوب قوله ﷺ: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". فدل على أنه لو أمر لوجب ولو شق ولأن السيد من العرب إذا قال لعبده اسقني ماء فلم يسقه استحق الذم والتوبيخ فلو لم يقتض الوجوب لما استحق الذم عليه. فصل سواء وردت هذه الصيغة ابتداء أو وردت بعد الحظر فإنها تقتضي
باب ما يقتضي الأمر من الإيجاب إذا تجردت صيغة الأمر اقتضت الوجوب في قول أكثر أصحابنا ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال يقتضي الوجوب بوضع اللغة ومنهم من قال يقتضي الوجوب بالشرع ومن أصحابنا من قال يقتضي الندب. وقال بعض الأشعرية لا يقتضي الوجوب ولا غيره إلا بدليل وقالت المعتزلة الأمر يقتضي إرادة الفعل فإن كان ذلك من حكيم اقتضت الندب وإن كان من غيره لم يقتض أكثر من الإرادة، والدليل على أنها تقتضي الوجوب قوله ﷺ: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". فدل على أنه لو أمر لوجب ولو شق ولأن السيد من العرب إذا قال لعبده اسقني ماء فلم يسقه استحق الذم والتوبيخ فلو لم يقتض الوجوب لما استحق الذم عليه. فصل سواء وردت هذه الصيغة ابتداء أو وردت بعد الحظر فإنها تقتضي
1 / 13
الوجوب. وقال بعض أصحابنا: إذا وردت بعد الحظر اقتضت الإباحة والدليل على أنها تقتضي الوجوب أن كل لفظ اقتضى الإيجاب إذا لم يتقدمه حظر اقتضى الإيجاب وإن تقدمه حظر كقوله: أوجبت وفرضت.
فصل
إذا دل الدليل على أنه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجز الاحتجاج به في الجواز ومن أصحابنا من قال يجوز والأول أظهر لأن الأمر لم يوضع للجواز وإنما وضع للإيجاب والجواز يدخل فيه على سبيل التبع فإذا سقط الوجوب سقط ما دخل فيه على سبيل التبع.
باب في أن الأمر يقتضي الفعل مرة واحدة أو التكرار إذا وردت صيغة الأمر لإيجاب فعل وجب العزم على الفعل ويجب تكرار ذلك كلما ذكر الأمر لأنه إذا ذكر ولم يعزم على الفعل صار مصرا على العناد وهذا لا يجوز وأما الفعل المأمور به فإن كان في اللفظ ما يدل على تكراره وجب تكراره وإن كان مطلقا ففيه وجهان. ومن اصحابنا من قال: يجب تكراره على حسب الطاقة ومنهم من قال: لا يجب أكثر من مرة واحدة إلا بدليل يدل على التكرار وهو الصحيح، والدليل على أن إطلاق الفعل يقتضي ما يقع عليه الاسم ألا ترى أنه لو حلف ليفعلن بر بمرة واحدة فدل على أن الإطلاق لا يقتضي أكثر من ذلك. فصل فأما إذا علق الأمر بشرط بأن يقول إذا زالت الشمس فهل يقتضي التكرار إن قلنا إن مطلق الأمر يقتضي التكرار فالمعلق بالشرط مثله؛ وإن قلنا إن مطلقه لا يقتضي التكرار ففي المعلق بالشرط وجهان. ومن أصحابنا من قال: يقتضي التكرار كلما تكرر الشرط ومنهم من قال لا يقتضي وهو الأصح لأن كل ما لا يقتضي التكرار إذا كان مطلقا لم يقتض التكرار إذا
باب في أن الأمر يقتضي الفعل مرة واحدة أو التكرار إذا وردت صيغة الأمر لإيجاب فعل وجب العزم على الفعل ويجب تكرار ذلك كلما ذكر الأمر لأنه إذا ذكر ولم يعزم على الفعل صار مصرا على العناد وهذا لا يجوز وأما الفعل المأمور به فإن كان في اللفظ ما يدل على تكراره وجب تكراره وإن كان مطلقا ففيه وجهان. ومن اصحابنا من قال: يجب تكراره على حسب الطاقة ومنهم من قال: لا يجب أكثر من مرة واحدة إلا بدليل يدل على التكرار وهو الصحيح، والدليل على أن إطلاق الفعل يقتضي ما يقع عليه الاسم ألا ترى أنه لو حلف ليفعلن بر بمرة واحدة فدل على أن الإطلاق لا يقتضي أكثر من ذلك. فصل فأما إذا علق الأمر بشرط بأن يقول إذا زالت الشمس فهل يقتضي التكرار إن قلنا إن مطلق الأمر يقتضي التكرار فالمعلق بالشرط مثله؛ وإن قلنا إن مطلقه لا يقتضي التكرار ففي المعلق بالشرط وجهان. ومن أصحابنا من قال: يقتضي التكرار كلما تكرر الشرط ومنهم من قال لا يقتضي وهو الأصح لأن كل ما لا يقتضي التكرار إذا كان مطلقا لم يقتض التكرار إذا
1 / 14
كان بالشرط كالطلاق لا فرق بين أن يقول أنت طالق وبين أن يقول إذا زالت الشمس فأنت طالق.
فصل
فأما إذا تكرر الأمر بالفعل الواحد بأن قال: صل ثم قال: صل فإن قلنا إن مطلق الأمر يقتضي التكرار فتكرار الأمر يقتضي التأكيد، وإن قلنا أنه يقتضي الفعل مرة واحدة ففي التكرار وجها: أحدهما أنه تأكيد وهو قول الصيرفي. والثاني: إنه استئناف وهو الصحيح، والدليل عليه أن كل واحد من الأمرين يقتضي إيجاد الفعل عند الانفراد فإذا اجتمعا أوجبا التكرار كما لو كانا فعلين.
باب في أن الأمر هل يقتضي الفعل على الفور أم لا إذا ورد الأمر بالفعل مطلقا وجب العزم على الفعل على الفور كما مضى في الباب قبله وهل يقتضي الفعل على الفور بنية على التكرار، فإن قلنا إن الأمر يقتضي التكرار على حسب الاستطاعة وجب على الفور لأن الحالة الأولى داخلة في الاستطاعة فلا يجوز إخلاؤها من الفعل، وإن قلنا إن الأمر يقتضي مرة واحدة فهل يقتضي ذلك على الفور أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا. أحدهما أنه لا يقتضي الفعل على الفور ومن أصحابنا من قال يقتضي ذلك على الفور وهو قول الصيرفي والقاضي أبي حامد والأول أصح لأن قوله أفعل يقتضي إيجاد الفعل من غير تخصيص بالزمان الأول دون الثاني فإذا صار ممتثلا بالفعل في الزمان الأول وجب أن يصير ممتثلا بالفعل في الزمان الثاني. فصل فأما إذا ورد الأمر مقيدا بزمان نظرت فإن كان الزمان يستغرق العبادة كالصوم في شهر رمضان لزمه فعلها على الفور عند دخول الوقت وإن كان الزمان أوسع من قدر العبادة كصلاة الزوال ما بين الظهر إلى أن يصير ظل كل
باب في أن الأمر هل يقتضي الفعل على الفور أم لا إذا ورد الأمر بالفعل مطلقا وجب العزم على الفعل على الفور كما مضى في الباب قبله وهل يقتضي الفعل على الفور بنية على التكرار، فإن قلنا إن الأمر يقتضي التكرار على حسب الاستطاعة وجب على الفور لأن الحالة الأولى داخلة في الاستطاعة فلا يجوز إخلاؤها من الفعل، وإن قلنا إن الأمر يقتضي مرة واحدة فهل يقتضي ذلك على الفور أم لا؟ فيه وجهان لأصحابنا. أحدهما أنه لا يقتضي الفعل على الفور ومن أصحابنا من قال يقتضي ذلك على الفور وهو قول الصيرفي والقاضي أبي حامد والأول أصح لأن قوله أفعل يقتضي إيجاد الفعل من غير تخصيص بالزمان الأول دون الثاني فإذا صار ممتثلا بالفعل في الزمان الأول وجب أن يصير ممتثلا بالفعل في الزمان الثاني. فصل فأما إذا ورد الأمر مقيدا بزمان نظرت فإن كان الزمان يستغرق العبادة كالصوم في شهر رمضان لزمه فعلها على الفور عند دخول الوقت وإن كان الزمان أوسع من قدر العبادة كصلاة الزوال ما بين الظهر إلى أن يصير ظل كل
1 / 15
شيء مثله وجب الفعل في أول الوقت وجوبا موسعا، ثم اختلفوا هل يجب العزم في أول الوقت بدلا عن الصلاة فمنهم من لم يوجب ومنهم من أوجب العزم بدلا عن الفعل في أول الوقت.
وقال أبو الحسن الكرخي: يتعلق الوجوب أحد شيئين إما بالفعل أو بأن يضيق الوقت. وقال أكثر أصحاب أبي حنيفة: يتعلق الوجوب بآخر الوقت. واختلف هؤلاء فيمن صلى في أول الوقت، فمنهم من قال أن ذلك نفل فإن جاء آخر الوقت وليس من أهل الوجوب فلا كلام في أن ما فعله كان نفلا وإن كان من أهل الوجوب منع ذلك النفل الذي فعله من توجه الفرض عليه في آخر الوقت، ومنهم من قال فعله في أول الوقت مراعى فإن جاء آخر الوقت وهو من أهل الوجوب علمنا أنه فعل واجبا وإن لم يكن من أهل الوجوب علمنا أنه فعل نفلا والدليل على ما قلناه أن المقتضي للوجوب هو الأمر وقد تناول ذلك أول الوقت بقوله ﴿أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ ١ فوجب أن يجب في أوله.
فصل
فإن فات الوقت الذي علق عليه العبادة فلم يفعل فهل يجب القضاء أم لا؟ فيه وجهان من أصحابنا من قال يجب ومنهم من قال لا يجب إلا بأمر ثان وهو الأصح لأن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر فلا يجب الفعل فيه كما قبل الوقت.
فصل
إذا أمر بأمر بعبادة في وقت معين في وقت معين ففعلها في ذلك الوقت سمي أداء على سبيل الحقيقة ولا يسمى قضاء إلا مجازا كما قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ ٢ وكما قال: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي
_________
١ سورة الإسراء الآية: ٧٨.
٢ سورة البقرة جزء من الآية: ٢٠٠.
1 / 16
الْأَرْضِ﴾ ١ أما إذا دخل فيها فأفسدها أو نسي شرطا من شروطها فأعادها والوقت باق سمي إعادة وأداء وإن فات الوقت ففعلها بعد فوات الوقت سمي قضاء.
_________
١ سورة الجمعة الآية: ١٠.
1 / 17
باب الأمر بأشياء على جهة التخيير والترتيب
إذا خير الله تعالى بين أشياء مثل كفارة اليمين خير فيها بين العتق والإطعام والكسوة فالواجب منها واحد غير معين فأيها فعل فقد فعل الواجب وإن فعل الجميع سقط الفرض عنه بواحد منها والباقي تطوع، وقالت المعتزلة: الثلاثة كلها واجبة فإن أرادوا بوجوب الجميع تساوي الجميع في الخطاب فهو وفاق وإنما يحصل الخلاف في العبارة دون المعنى وإن أرادوا بوجوب الجميع أنه مخاطب بفعل الجميع فالدليل على فساده أنه إذا ترك الجميع لم يعاقب على الجميع ولو كان الجميع واجبا لعوقب على الجميع فلما لم يعاقب إلا على واحد دل على أنه هو الواجب.
فصل
فأما إذا أمر بأشياء على الترتيب كالمظاهر أمر بالعتق عند وجود الرقبة وبالصيام عند عدمها بالإطعام عند العجز عن الجميع فالواجب من ذلك واحد معين على حسب حاله فإن كان موسرا ففرضه العتق وإن كان معسرا ففرضه الصيام وإن كان عاجزا ففرضه الإطعام فإن جمع من فرضه العتق بين الجميع سقط الفرض عنه بالعتق وما عداه تطوع وإن جمع من فرضه الصيام بين الجميع ففرضه أحد الأمرين من العتق أو الصيام والإطعام تطوع وإن جمع من فرضه الإطعام بين الجميع ففرضه واحد من الثلاثة كالكفارة المخيرة.
مشروطا بذلك الغير كالاستطاعة في الحج والمال في الزكاة لم يكن الأمر بالحج والزكاة أمرا بتحصيل لأن الأمر بالحج لم يتناول من لا استطاعة له وفي الزكاة من لا مال له فلو ألزمناه تحصيل ذلك ليدخل في الأمر لأسقطنا شرط الأمر وهذا لا يجوز وإن كان الأمر مطلقا غير مشروط كان الأمر بالفعل أمرا به وبما لا يتم إلا به وذلك كالطهارة للصلاة الأمر بالصلاة أمر بالطهارة أو كغسل شيء من الرأس لاستيفاء الفرض عن الوجه، فلو لم يلزمه ما يتم به الفعل المأمور به أقسطنا الوجوب في المأمور ولهذا قلنا فيمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة ولم يعرف عينها أنه يجب عليه قضاء خمس صلوات لتدخل المنسية فيها. فصل وأما إذا أمر بصفة عبادة فإن كانت الصفة واجبة كالطمأنينة في الركوع دل على وجوب الركوع لأنه لا يمكنه أن يأتي بالصفة الواجبة إلا بفعل الموصوف وإن كانت الصفة ندبا كرفع الصوت بالتلبية لم يدل ذلك على وجوب التلبية ومن الناس من قال: تدل على وجوب التلبية وهذا خطأ لأنه قد يندب إلى صفة ما هو واجب وما هو ندب فلم يكن في الندب دليل على وجوب الأصل. فصل وإذا أمر بشيء كان ذلك نهيا عن ضده من جهة المعنى فإن كان ذلك الأمر واجبا كان النهي عن ضده على سبيل الوجوب. وإن كان ندبا كان النهي عن ضده على سبيل الندب ومن أصحابنا من قال ليس بنهي عن ضده وهو قول المعتزلة والدليل على ما قلناه انه لا يتوصل إلى فعل المأمور إلا بترك الضد فهو كالطهارة في الصلاة. فصل فأما إذا أمر باجتناب شيء ولم يمكنه الاجتناب إلا باجتناب غيره فهذا على ضربين.
مشروطا بذلك الغير كالاستطاعة في الحج والمال في الزكاة لم يكن الأمر بالحج والزكاة أمرا بتحصيل لأن الأمر بالحج لم يتناول من لا استطاعة له وفي الزكاة من لا مال له فلو ألزمناه تحصيل ذلك ليدخل في الأمر لأسقطنا شرط الأمر وهذا لا يجوز وإن كان الأمر مطلقا غير مشروط كان الأمر بالفعل أمرا به وبما لا يتم إلا به وذلك كالطهارة للصلاة الأمر بالصلاة أمر بالطهارة أو كغسل شيء من الرأس لاستيفاء الفرض عن الوجه، فلو لم يلزمه ما يتم به الفعل المأمور به أقسطنا الوجوب في المأمور ولهذا قلنا فيمن نسي صلاة من صلوات اليوم والليلة ولم يعرف عينها أنه يجب عليه قضاء خمس صلوات لتدخل المنسية فيها. فصل وأما إذا أمر بصفة عبادة فإن كانت الصفة واجبة كالطمأنينة في الركوع دل على وجوب الركوع لأنه لا يمكنه أن يأتي بالصفة الواجبة إلا بفعل الموصوف وإن كانت الصفة ندبا كرفع الصوت بالتلبية لم يدل ذلك على وجوب التلبية ومن الناس من قال: تدل على وجوب التلبية وهذا خطأ لأنه قد يندب إلى صفة ما هو واجب وما هو ندب فلم يكن في الندب دليل على وجوب الأصل. فصل وإذا أمر بشيء كان ذلك نهيا عن ضده من جهة المعنى فإن كان ذلك الأمر واجبا كان النهي عن ضده على سبيل الوجوب. وإن كان ندبا كان النهي عن ضده على سبيل الندب ومن أصحابنا من قال ليس بنهي عن ضده وهو قول المعتزلة والدليل على ما قلناه انه لا يتوصل إلى فعل المأمور إلا بترك الضد فهو كالطهارة في الصلاة. فصل فأما إذا أمر باجتناب شيء ولم يمكنه الاجتناب إلا باجتناب غيره فهذا على ضربين.
1 / 18
أحدهما: أن يكون في اجتناب الجميع مشقة فيسقط حكم المحرم فيه فيسقط عنه فرض الاجتناب وهو كما إذا وقع في الماء الكثير نجاسة أو اختلطت أخته بنساء بلد فلا يمنع من الوضوء بالماء ولا من نكاح نساء ذلك البلد.
والثاني: أن لا يكون في اجتناب الجميع مشقة فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يكون المحرم مختلطا بالمباح كالنجاسة في الماء القليل والجارية المشتركة بين الرجلين فيجب اجتناب الجميع.
والثاني: أن يكون غير مختلط إلا أنه لا يعرف المباح بعينه فهذا على ضربين: ضرب يجوز فيه التحري وهو كالماء الطاهر إذا اشتبه بالماء النجس فيتحرى "صفحة ١٠" فيه وضرب لا يجوز فيه التحري وهو الأخت إذا اختلطت بأجنبية والماء إذا اشتبه بالبول فيجب اجتناب الجميع.
1 / 19
باب إيجاب ما لا يتم المأمور إلا به
إذا أمر بفعل ولم يتم ذلك الفعل إلا بغيره نظرت فإن كان ذلك الأمر
1 / 17
باب الأمر يدل على إجراء المأمور به
واعلم أنه إذا أمر الله تعالى بفعل لم يخل المأمور إما أن يفعل المأمور به على الوجه الذي تناوله الأمر أو يزيد على ما تناوله الأمر أو ينقص، فإن فعل على الوجه الذي تناوله الأمر أجزأه ذلك بمجرد الأمر وقال بعض المعتزلة: الأمر لا يدل على الإجزاء بل يحتاج الآخر إلى دليل آخر وهذا خطأ لأنه قد فعل المأمور به على الوجه الذي تناوله الأمر فوجب أن يعود إلى ما كان قبل الأمر.
فصل
فأما إذا زاد على المأمور بأن يأمره بالركوع فيزيد على ما يقع عليه الاسم سقط الفرض عنه بأدنى ما يقع عليه الاسم والزيادة على ذلك تطوع لا يدخل في الأمر وقال بعض الناس: الجميع واجب داخل في الأمر وهذا باطل لأن ما زاد على الاسم يجوز له تركه على الإطلاق فإذا فعله لم يكن واجبا كسائر النوافل.
1 / 19
فصل
فأما إذا نقص عن المأمور نظرت فإن نقص منه ما هو شرط في صحته كالصلاة بغير قراءة لم يجزه ولم يدخل في الأمر لأنه لم يأت بالمأمور على الوجه الذي أمر به وإن نقص منه ما ليس بشرط كالتسمية في الطهارة أجزأه في المأمور وهل يدخل ذلك في الأمر الظاهر؟ من قول أصحابنا أنه لا يدخل في الأمر وقال أصحاب أبي حنيفة: يدخل في الأمر وهذا غير صحيح لأن المكروه منهي عنه فلا يجوز أن يدخل في لفظ الأمر كالمحرم.
باب من يدخل في الأمر ومن لا يدخل فيه اعلم أن الساهي لا يجوز أن يدخل في الأمر والنهي لأن القصد إلى التقرب بالفعل والترك يتضمن العلم به حتى يصح القصد إليه وهذا يستحيل في حق الناسي ألا ترى أنه لو قيل له: لا تتكلم في صلاتك وأنت ساه لوجب أن يقصد إلى ترك ما يعلم أنه ساه فيه وعلمه بأنه ساه يمنع كونه ساهيا فبطل خطابه على هذه الصفة. فصل وكذلك لا يجوز خطاب النائم ولا المجنون ولا السكران لأنه لو جاز خطابهم مع زوال العقل لجاز خطاب البهيمة والطفل في المهد وهذا لا يقوله أحد. فصل وأما المكره فيصح دخوله في الخطاب والتكليف وقالت المعتزلة لا يصح دخوله تحت التكليف وهذا خطأ لأنه لو لم يصح تكليفه لما كلف ترك القتل مع الإكراه ولأنه عالم قاصد إلى ما يفعله فهو كغير المكره. فصل وأما الصبي فلا يدخل في خطاب التكليف فإن الشرع قد ورد بإسقاط
باب من يدخل في الأمر ومن لا يدخل فيه اعلم أن الساهي لا يجوز أن يدخل في الأمر والنهي لأن القصد إلى التقرب بالفعل والترك يتضمن العلم به حتى يصح القصد إليه وهذا يستحيل في حق الناسي ألا ترى أنه لو قيل له: لا تتكلم في صلاتك وأنت ساه لوجب أن يقصد إلى ترك ما يعلم أنه ساه فيه وعلمه بأنه ساه يمنع كونه ساهيا فبطل خطابه على هذه الصفة. فصل وكذلك لا يجوز خطاب النائم ولا المجنون ولا السكران لأنه لو جاز خطابهم مع زوال العقل لجاز خطاب البهيمة والطفل في المهد وهذا لا يقوله أحد. فصل وأما المكره فيصح دخوله في الخطاب والتكليف وقالت المعتزلة لا يصح دخوله تحت التكليف وهذا خطأ لأنه لو لم يصح تكليفه لما كلف ترك القتل مع الإكراه ولأنه عالم قاصد إلى ما يفعله فهو كغير المكره. فصل وأما الصبي فلا يدخل في خطاب التكليف فإن الشرع قد ورد بإسقاط
1 / 20