Teka-Teki Ishtar
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Genre-genre
كما صار للجرار المقدسة قيمة طقسية كبيرة لدى العديد من ديانات عصور الكتابة. من ذلك مثلا الجرار الفخارية التي كانت تستخدمها عذراوات النار المقدسة في هياكل عشتار، سيدة الشعلة في روما. ومن ذلك الجرة المقدسة التي كان يحفظها العبرانيون داخل تابوت العهد مع لوحي الوصايا اللذين تلقاهما موسى من يهوه، والتي اعتقدوا أنها تحتوي على بعض من المن الذي نزل عليهم من السماء أثناء تيههم في صحراء سيناء،
24
إلا أن مريم العذراء قد أعادت لهذه الجرة العبرانية المقدسة صلتها المباشرة بالأم الكبرى. فبالإضافة إلى كون مريم الوعاء الذي احتوى على الإله الكوني نفسه، فإنها الجرة التي تهب البشر حياة وغذاء؛ حيث نقرأ في بعض مدائحها: «السلام عليك يا جرة تحوي المن المحلي حواس الأنقياء، السلام عليك يا غذاء يقوم بدل المن.»
25
وبعد، إذا كانت الأم الكبرى هي مصدر الأشياء وسند الأحياء، ومالئة الكون بالخصب وأسباب النماء؛ فإن هذه الصورة التجريدية لم تتعارض في ذهن الإنسان القديم مع صور أخرى مشخصة ومعاينة للأم الكبرى. فإذا كان الكون بكليته يشكل تبديا في الزمان والمكان لها، فإن أي جزء من هذا الكون، في حد ذاته، وفي اعتبار ماهيته، هو ... هي. فقبة السماء الزرقاء التي تنشر غطاءها فوق الأرض هي الأم الكبرى، ورداء الليل المعتم الذي يبدو بلا أطراف هو الأم الكبرى، والبحر الذي يصدر عن مياه أزلية لا نهاية لها في الامتداد هو الأم الكبرى. إن ذهن الإنسان القديم قادر على التجسيد قدرته على التجريد. والعالمان عنده متداخلان تتحرك بينهما الحدود وتنمحي السدود؛ لا المادي منفصل عن الإلهي، ولا الإلهي يعلو على المادي، كلاهما يعكس الآخر في مرآته. ولعل أكثر مظاهر الكون تجسيدا للأم الكبرى، كانت الأرض. فالأرض هي الأم الحقيقية للإنسان ولجميع مظاهر الحياة عليها، من بطنها يخرج عشبا وزرعا وشجرا، حياة للإنسان والحيوان، ومن أعماقها تتفجر ينابيع المياه، وعلى سطحها تسيل مجاري الأنهار. يلتصق بها الإنسان في حياته ويعود إلى جوفها في مماته. من هنا كانت تماثيل عشتار توضح صلتها هذه بالأرض، وخصوصا تلك التماثيل التي تظهرها في وضعية الجلوس، حيث يشكل الردف والساقان المطويان تحته أو المنبسطان، تكوينا مندمجا على هيئة قاعدة مستقرة على الأرض، تعطي الناظر إحساسا بالوحدة بين التمثال والأرض، وذوبان الواحد في الآخر (الشكل
2-5 ). وفي تماثيل عشتار الواقفة نجد أن الشكل كله متمركز حول محور ثقله يتجه نحو الأرض. وقد تزود التماثيل تحت الورك مباشرة بقاعدة مستوية مستقرة على الأرض. ولعل هذه التمثيلات التشكيلية هي أصل الإشارة إلى الأم الكبرى على أنها الجبل، ذلك الجزء من الأرض المرتكز فوقها بكل عظمة وجلال، المتصل معها في وحدة عضوية. إن العمل الفني الموضح في (الشكل
2-12 ) لذو دلالة عميقة في هذا المجال، حيث نجد الأم الكريتية وقد ذاب جزؤها الأسفل في الجبل الذي يشكل قاعدة مخروطية لها، بينما يشكل جزؤها الأعلى قمة ذلك الجبل. ومثل الجبل في الدلالة على الأرض: الصخر والحجر المنتزع من الأرض. لذا كان للأم الكبرى في العديد من الثقافات حجر مقدس تعبد من خلاله، كما هو الحال في حجر عستارت الأسود في فينيقيا، وحجر سيبيل في الأناضول، وحجر اللات في الطائف.
شكل 2-12: عشتار الجبل - كريت 1500ق.م.
الأم الكبرى لعصور الكتابة
منذ البدايات الأولى للثورة المدينية تتزايد الأعمال الفنية المخصصة لتمثيل الآلهة الذكور، ويأخذ الفن الديني، الذي كان وقفا على عشتار وحدها، ثم على عشتار وابنها، في معاجلة موضوعات مقدسة أخرى طيلة أربعة آلاف عام، قبل أن يعود فيقتصر على الأم والابن في الأيقونات البيزنطية المسيحية. إلا أن تماثيل الأم الكبرى ورسومها تستمر في خط فني متواصل مع المرحلة النيوليتية، ولكن مع تطويرات استاتيكية استدعتها طبيعة العصر. فجسم الإلهة يغدو أكثر رشاقة وتناسقا، وتختفي المبالغات والتحويرات الرمزية، مع استمرار التأكيد على مناطق الخصوبة، إلا أن هذا التأكيد يتبع أسلوبا مختلفا لا تحوير فيه ولا تضخيم، بحيث تشد هذه المناطق النظر دون أن تبدو في تنافر مع بقية أعضاء الجسم. والتمثال الموضح في الشكل (
Halaman tidak diketahui