Teka-Teki Ishtar

Firas Sawwah d. 1450 AH
192

Teka-Teki Ishtar

لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة

Genre-genre

القمح القتيل

تقدم لنا إحدى أساطير الهنود الحمر في أمريكا الشمالية، مدخلا لرسم الملامح العامة لأسطورة الإله الابن النيوليتية. فهذه الأسطورة وأمثالها من أساطير الثقافات البدائية الحديثة قد حفظت لنا الكثير من العناصر الأصلية لأساطير العصور الزراعية الأولى؛ تقول الأسطورة: «إنه في سالف الأيام كان الهنود الحمر يعيشون على صيد الحيوانات البرية والاغتذاء بلحومها، دون أن يعرفوا الزراعة وأكل الخبز. ثم جاء وقت تناقصت فيه حيوانات الصيد وعز الحصول عليها، الأمر الذي دفع بالناس إلى حافة المجاعة. وكان لسيد إحدى القبائل ابن شاب في ريعان الصبا، دائم التفكير في «الروح الكبرى» التي تتحكم في مجرى حياة البشر وتدير حركة الكون، وفي حكمتها الخافية عن إدراك الناس، وكان يعمل ذهنه ليل نهار في البحث عن حل ينقذ به شعبه من الهلاك. وما لبث الفتى طويلا حتى بلغ السن الذي ينذر فيه فتيان القبيلة للروح الكبرى صوما مقداره سبعة أيام، فينتجعون مكانا قصيا يقضون الوقت في العبادة والتأمل. فآلى الفتى على نفسه أن تكون فترة صومه مناسبة لتوطيد صلته بالروح الكبرى، ولمزيد من التفكير في طريقة لتلافي الكارثة المحدقة. كان يخرج كل يوم من معتكفه عند أطراف القرية، فيجوس البراري والغابات متأملا مختلف أنواع الأعشاب والأشجار، متفكرا في سر نموها وتجددها. وفي اليوم الثالث لصومه وتجواله هبط عليه من السماء شاب غض الإهاب، وسيم الطلعة، يرتدي عدة أثواب طباقا، متدرجة ألوانها بين الأصفر الفاتح في الخارج، والأخضر الغامق في الداخل، ويضع على رأسه قبعة على شكل حزمة من الريش. وقف أمامه وأعلمه عن هويته قائلا بأنه رسول من عند «الروح الكبرى» بعثت به لغوث البشر، وتعليمهم أساليب جديدة في تحصيل القوت، تغنيهم عن حياة الصيد ولحوم الحيوانات، وإنه مكلف بإطلاعه على السر الكبير بعد فترة تحضيرية محددة، ثم طلب منه أن يتقدم لمصارعته في منافسة ثنائية ، وذلك كمقدمة للاختبار الذي سوف يستمر بضعة أيام. تحامل الفتى الذي أنهكه الصيام على نفسه، ودخل في صراع مع الرسول استمر ساعات طويلة دون أن يتغلب أحدهما على الآخر، ثم توقف الرسول معلنا انتهاء فاصل اليوم، وغادر صاحبه على أن يأتيه في اليوم التالي. وهكذا تكرر لقاء الاثنين وصراعهما حتى اليوم السابع من أيام صيام الفتى، عندما جاءه الرسول قائلا: إن صراع اليوم هو الأخير، وإنه سوف يموت في نهايته، وأن على الفتى أن ينظف قطعة صغيرة من الأرض، فينتزع منها الجذور والأشواك، ثم يحفر فيها حفرة يدفنه فيها ويردم التراب الناعم ويدعه في سلام. ثم يتردد عليه بعد ذلك مرة في كل شهر، فيزيح من فوق تربته الأعشاب ويمزجها بتربة جديدة، وذلك إلى عدة شهور يعود بعدها إلى الحياة، ويعرف الفتى السر الذي أرادت الروح الكبرى نقله إلى البشر. وهكذا انتهى الصراع فعلا بموت الرسول، فقام الفتى بتنفيذ تعليماته حرفيا، فدفنه بالطريقة التي أوصى بها، وراح يزوره في كل شهر ويعتني بتربة قبره، وذلك حتى أواخر الصيف؛ حيث أخذت تزيح التراب من باطن الأرض نبتة صغيرة، تطاولت شيئا فشيئا حتى صلب عودها، وحملت أكواز الذرة الذهبية التي يشبه كل واحد منها ذلك الرسول السماوي القتيل، لابس الأثواب المتعددة التي تتدرج في ألوانها من الأصفر إلى الأخضر، والقبعة ذات الأرياش الطويلة.

21

لا تختلف هذه الأسطورة في هيكلها العام وبواعثها ومراميها عن أسطورة الإله الابن في العصور النيوليتية. فاكتشاف الزراعة بالنسبة لإنسان العصر الحجري، لم يكن نتيجة فعل بشري، بل نتيجة عون سماوي. وسنبلة القمح الأولى التي زرعها، لم تكن إلا جسد الإله الابن القتيل الذي أرسلت به الأم الكبرى إلى العالم الأسفل، من أجل ابتداء دورة الزراعة والحفاظ على استمرارها؛ فهو الإله الحي؛ الميت الحي الذي يهبط إلى باطن الأرض في الخريف، ثم يعود ساحبا وراءه خضرة الربيع، مكملا دورة حياته السنوية التي تركزت حولها حياة المستوطنات الأولى ودياناتها وطقوسها. هذه الأسطورة بشكلها البدائي البسيط المختلط بالطقس، هي الأساس الذي بنيت عليه فيما بعد أساطير إله الخصب الميت ابن الأم الكبرى، بشتى أشكالها وتنوعاتها، بعد انتقال عشتار وابنها من حقول قمح المستوطنات الزراعية الأولى، إلى المدن الكبيرة التي بدأت بالتوطد مع بدايات عصور الكتابة. إلا أن زارع القمح قد بقي وفيا لطقوسه وممارساته القديمة بعيدا عن سفسطة كهان المعابد، وتعقيد الحياة الدينية، وجنوح أساطيرها نحو الكلمة المنمقة والرمز المثقل. فحتى وقت متأخر من تاريخ الحضارات في الشرق القديم، كان زارعو القمح يمارسون طقوسا شبيهة بطقوس المزارع النيوليتي، عندما كان يندب في الصيف روح القمح القتيل الذي قضى تحت مناجل الحصادين، ثم يحتفل بعودته إلى الحياة في الربيع. فإذا كان النواح على تموز في معابد المدن الكبرى قد اتخذ أشكالا ومضامين دينية مختلفة، فإنه في حقل القمح قد حافظ على أصله القديم كنواح على سنابل القمح الجافة، جسد الإله، الذي يقدم نفسه طائعا للموت.

تروي المصادر الإغريقية أن المسافرين اليونان عبر الحقول السورية إبان الحصاد، كانوا يسمعون صرخات تفجع عالية، يطلقها الحصادون وهم يرددون، وفق إيقاع، كلمة آيلينوس ... وفي تفسير معنى كلمة آيلينوس، تذهب تلك المصادر إلى القول بأن آيلينوس كان فتى غضا رباه أحد الرعاة، ولكنه ما لبث أن مات ميتة قاسية؛ إذ انقضت عليه كلابه ومزقته إربا؛ فالمزارعون يندبونه منذ ذلك الحين. إلا أن تحليل الكلمة اعتمادا على اللغات السامية يشير إلى أنها مؤلفة من مقطعين هما آي - لانو، وتعني «وا أسفا علينا»

22

أو الويل لنا. وتشبه إلى حد بعيد صرخة الفجيعة التي تطلقها الندابات في سوريا اليوم وهي «ولي علينا». إن الرواية الإغريقية ليست إلا محاولة لتفسير طقس الندب في حقل الحصاد. وليست أسطورة الفتى آيلينوس إلا زخرفة، على الطريقة الإغريقية، لأسطورة إله القمح القتيل الذي يلقى مصرعه تحت وقع المناجل، وتبريرا لطقوس التفجع التي كان الحصادون السوريون يمارسونها، بنفس الطريقة التي مارسها من قبل حصادو العصر النيوليتي، والذين ما زلنا إلى اليوم نستعمل صرختهم ذاتها. إن صرخة «ولي علينا ... ولي ...» التي يسمعها المار من قرب منزل حلت به مصيبة في أي حي شعبي في سوريا، هي من أكثر الصرخات في كل اللغات تعبيرا عن حس الفجيعة الصادر من الأعماق. وكلما ارتفعت بها حناجر الندابات، في نغمها المأساوي الممدود، تلتقي أصداؤها عند آخر مدى للصوت، بأصداء أخرى زاحفة من أعماق التاريخ فوق كل مواسم القمح: آيلينو ... آيلنيو ... آي.

وفي مصر كما يروي المؤرخ الإغريقي هيرودوتس، كانت صرخة التفجع ذات الإيقاع المأساوي الحزين التي كان الحصادون يرددونها إبان الحصاد، من أقدم الألحان التي يمكن للمصريين تذكرها، ولربما كانت أول أغنية غنوها. وفي مقابل كلمة آيلينوس التي كانت تسمع في سوريا وفي قبرص أيضا، كان الحصادون المصريون يرددون كلمة «مانيروس» التي فسرها المؤرخ بقوله: إن مانيروس كان أول ملوك مصر، وهو الذي اكتشف الزراعة وعلمها للمصريين، ولكنه مات وهو في ريعان الصبا؛ فالناس يتذكرونه وينوحون عليه في كل موسم حصاد. إلا أن كلمة «مانيروس» إذا حللت إلى مقاطعها المكونة في اللغة الهيروغليفية وهي: «ما-ني-هرا» فإنها تعني: عد إلى بيتك.

23

والحصادون إنما يندبون الإله نفسه الابن القتيل، روح القمح، الذي تحول فيما بعد إلى أوزوريس أو تموز أو آتيس، الإله اليافع الذي مات في زهوة الشباب، ويطلبون منه أن يعود إلى بيته ويصحو من موته في الربيع.

Halaman tidak diketahui