Teka-Teki Ishtar
لغز عشتار: الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة
Genre-genre
كواهبة لجرعة الحليب الأولى التي تسلم الطفل إلى أولى لحظات الحياة، كانت المرأة تجسيدا على مستوى الواقع لمبدأ الحياة الكلي. ومنذ عصر قبيل الصيادين البدائي إلى عصر المستوطنات الزراعية المستقرة، كانت المرأة مركزا للناشطات الرامية إلى حفظ البقاء، مستعينة بقدراتها الخفية على تحويل المادة وتغيير خصائصها؛ فقد رأينا المرأة مسئولة عن التقاط الثمار وخزنها واستخلاص أكاسير الأعشاب وعصير الكرمة، ورأيناها موكلة بالاستفادة من منتجات الحيوان، والغزل والنسيج والحياكة، وبإبقاء النار التي اكتشفتها مشتعلة، واستخدامها في تحويل الطين إلى فخار وخزف، وتحويل الطعام النيئ إلى غذاء شهي، والعجين الفظ إلى خبز ناضج. إن هذه النشاطات وغيرها، مما تحول فيما بعد إلى أعمال دنيوية يومية عادية، لم تكن في الماضي كذلك؛ ذلك أن الشروط البيئية والمناخية الصعبة، والصراع المستميت الذي دخله الإنسان ضد أنواع الحياة الأخرى من أجل البقاء، قد جعل من نشاطات حفظ الحياة مهمة مستحيلة دون عون الأم الكونية الذي تبذله عن طريق وكيلتها على الأرض. لذلك كانت المرأة تمارس كل نشاطات حفظ الحياة وتأمين الغذاء والمأوى والكساء، باعتبارها طقوسا تحويلية مقدسة لا تتم إلا بمعونة جسدها الخلاق، وكان التحويل نوعا من السحر.
ومن التحويل الأصغر المتمثل في نشاطات المعاش ، إلى التحويل الأكبر المتمثل في السلطة على عالم المادة والطبيعة، كانت المرأة مسئولة عن الاتصال بالعوالم السرية عن طريق السحر. إن الأنثى بواقع تكوينها الجسدي والنفسي أكثر قدرة، كما أسلفنا، على تحقيق مثل هذه الصلة. فنفسها أكثر شفافية ورقة من نفس الرجل الصلبة، وإحساسها الباطني دوما لا يخيب، وأحلامها نبوءة وكشف، أما جسدها فمستودع الأسرار العشتارية، يعمل بطريقة هي أقرب لفعل السحر منها للفعل الطبيعي. لذلك كانت المرأة الساحرة الأولى، وبسحرها كانت تمارس سيطرتها على الرجل وتعزز مكانتها ضمن الجماعة. فليس من المستغرب أن يبدأ الرجل أولى خطواته في التحرر من سلطة المرأة باغتصاب صلاحيات السحر.
لقد كان من الإنجازات الأولى لجماعة الرجال التي حققت الانقلاب التاريخي ضد سلطة المرأة، قيامهم بالسيطرة على نشاطات السحر، وتجريد المرأة من أحد أسلحتها الأساسية،
39
وما زالت ذكرى هذه الانتفاضة محفورة في بعض أساطير القبائل البدائية في العصر الحديث، والتي حققت انقلاباتها الذكرية في أزمنة متأخرة؛ ففي أمريكا الجنوبية، تروي قبائل «أونا» أسطورة مفادها: أنه في الأيام القديمة كانت فنون السحر وقفا على النساء اللواتي كن يجتمعن في محافل سرية خاصة، لا يجرؤ الرجال على الدنو منها. وكانت البنات الصغيرات يلقن أسرار السحر عندما يقتربن من سن النضج، ويتعلمن كيف يجلبن الأذى والمرض وربما الموت لكل من يسيء إليهن، ثم سرعان ما يلتحقن بالمحافل ليرثن إدارتها عن متقدماتهن. أما الرجال فكانوا يعيشون في خضوع كامل للنساء، وخوف مما يمكن لسحرهن أن يجلب عليهم من كوارث. لقد كان في حوزتهم الأقواس والسهام والرماح يصطادون بها الطرائد من أجل غذاء الجماعة، ولكن سلاحهم لم يكن ينفع في مواجهة قوى السحر. إلى أن كان يوم أجمع فيه الرجال على التخلص من النساء بقتلهن جميعا، فخططوا لمذبحة كبيرة وقاموا بتنفيذها، فقتلوا كل امرأة وكل فتاة، ولم يبقوا إلا على البنات الصغيرات في أعوامهن الأولى، ممن لم تتح لهن بعد أية فرصة للاطلاع على فنون السحر ومعرفة ما يجري في محافل النساء. ثم قاموا بعد ذلك بتشكيل محافلهم الخاصة المحظورة على الإناث، وبدءوا بتحضير جيل جديد من النساء غير قادر على التواصل من جديد مع قوى السحر المخيفة، قابل لسلطة الرجال خاضع لهم.
40
هذا وتتحدث أساطير أخرى من أمريكا الجنوبية أيضا عن انقلاب ذكري ضد سلطة النساء اللواتي كن يحكمن بالسحر، دون أن يكون لهذا الانقلاب نفس الطابع العنيف. كما أن شيوع هذا النوع من الأساطير في أنحاء متفرقة من العالم ليشير بكل وضوح إلى مرحلة حقيقية من مراحل التاريخ البشري.
41
ولربما كان توكيد المرأة على نشاط السحر في المراحل المتأخرة من حياة المجتمعات الأمومية، هو نوع من الدفاع الأخير عن النفس، أمام تصاعد قوة الذكور واستعدادهم للانقضاض الحاسم. تقدم لنا مكتشفات العصر الحجري بينات واضحة على نشاط السحر الذي كانت تقوم به المرأة، والدور العملي الذي كان هذا النشاط يلعبه في حياة الجماعة. ففي نقش على الحجر من العصر الباليوليتي (الشكل رقم
8-2 )، نجد مشهدين جمعهما الفنان في حيز واحد. الأول مشهد يظهر الرجل في حقل الصيد، وسط مجموعة من الطرائد الكبيرة، مستعدا لإطلاق سهمه. والثاني مشهد يظهر المرأة في كهف تمارس طقسا سحريا من شأنه إمداد الرجل بالقوة والتأثير على الحيوان. تبدو المرأة في المشهد رافعة ذراعيها نحو الأعلى؛ لاستمداد الطاقة العشتارية الخفية وتمثلها في داخل جسدها، وإطلاقها من ثم عبر بوابة رحمها في قناة خفية، تتصل بالمنطقة الجنسية للرجل الضارب في البراري، فتسري فيه وتعطيه الغلبة على الطرائد الشرسة. وقد قام الفنان بإظهار المرأة أكبر حجما من الرجل ومن حيوانات الصيد؛ وذلك للدلالة على قيمتها وعلو مكانتها، تماما كما يقوم أطفال اليوم بإظهار الأب في رسومهم أكبر حجما من كل المحيطين به.
Halaman tidak diketahui