ومن عسف القول ولا ريب أن نجزم بامتناع هجرة اليمانية إلى ما وراء حدود اليمن في الجزيرة العربية، فإذا جاز أن تهاجر منهم قبيلة واحدة، فحكم القبيلة في مسألة اللغة كحكم القبائل العشر أو العشرين، ولمن شاء أن ينكر نسبة البكريين أو التغلبيين أو الغساسنة إلى اليمن مستندا إلى الدليل، أو غير مستند إلى دليل على الإطلاق، ولكنه لا يستطيع أن ينكر نسبتهم إلى اليمن وينكر نسبة اللغة العدنانية إليهم في وقت واحد، فإنه بذلك ينكر نسبتهم إلى كل أصل معروف في الجزيرة العربية، ولا يأتي لهم بأصل من تلك الأصول.
وإن من ينكر انتقال قوم من اليمن إلى ما وراءها؛ لينكر أمرا غير قابل للإنكار في الجزيرة العربية التي لم يثبت فيها تاريخ أثبت من تواريخ الرحلات، على تباعد الأزمنة وتبدل العوارض الجوية وطوارئ الخصب والجدب والغلبة والهزيمة. وما من باحث ذي روية يعتسف البت بذلك الإنكار، ثم يجزم بحصر اليمانية في حدودهم منذ أحاطت بهم تلك الحدود. فمن العسف أن يقال: إن اليمانية لم تبرح اليمن قط في العصور التي سبقت البعثة المحمدية، وليس من العسف في شيء أن يقال: إنها برحتها على حسب الطوارئ وعوامل الجو والتاريخ، ولا داعي بعد ذلك لاستغراب التوافق بين اليمانية، وأبناء الحجاز وتهامة، وسائر الجزيرة في لهجة من اللهجات، فما دمنا نقدر بحكم البداهة أن اليمانية وجدوا في الجزيرة العربية وراء حدودهم، وتكلموا كما يتكلم المقيمون في جوارهم فقد زالت المشكلة ... ولم تكن هنالك في الحقيقة مشكلة تزال.
وليس أكثر من العسف الذي يلجأ إليه منكرو الوحدة في لغة الجزيرة قبل البعثة المحمدية بجيلين أو ثلاثة أجيال، وإن اعتساف التاريخ هنا لأهون في رأينا من اعتساف الفروض الأدبية التي لا تقبل التصديق، فما من قارئ للأدب يسيغ القول: بوجود طائفة من الرواة يلفقون أشعار الجاهلية، كما وصلت إلينا ويفلحون في ذلك التلفيق؛ إذ معنى ذلك «أولا» أن هؤلاء الرواة قد بلغوا من الشاعرية ذروتها التي بلغها امرؤ القيس والنابغة وطرفة وعنترة وزهير وغيرهم من فحول الشعر في الجاهلية. ومعنى ذلك «ثانيا» أنهم مقتدرون على توزيع الأساليب على حسب الأمزجة والأعمار والملكات الأدبية؛ فينظمون بمزاج الشاب طرفة ومزاج الشيخ زهير، ومزاج العربيد الغزل امرئ القيس، ومزاج الفارس المقدام عنترة بن شداد، ويتحرون لكل واحد «مناسباته» النفسية والتاريخية، ويجمعون له القصائد على نمط واحد في الديوان الذي ينسب إليه، ومعنى ذلك «ثالثا» أن هذه القدرة توجد عند الرواة، ولا توجد عند أحد من الشعراء ثم يفرط الرواة في سمعتها، وهم على هذا العلم بقيمة الشعر الأصيل، وما من ناقد يسيغ هذا الفرض ببرهان فضلا عن إساغته بغير برهان ولغير سبب، إلا أن يتوهم ويعزز التوهم بالتخمين! وإن تصديق النقائض الجاهلية جميعا لأهون من تصديق هذه النقيضة التي يضيق بها الحس، ويضيق بها الخيال.
وشتان - مع هذا - النقائض التي يستدعيها العقل ويبحث عنها إذا تفقدها فلم يجدها، والنقائض التي يرفضها العقل ولا موجب لها من الواقع، ولا من الفكر السليم.
فهذه النقائض التي تحاول أن تشككنا في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام يرفضها العقل؛ لأن قبولها يكلفه شططا ولا يوجبه بحث جدير بالإقناع.
فمما يتكلفه العقل إذا تقبلها أن يجزم - كما تقدم - بانقطاع عرب اليمن عن داخل الجزيرة كل الانقطاع، وأن يجزم ببقاء لغة قحطانية تناظر اللغة القرشية في الجيلين السابقين للبعثة المحمدية، غير معتمد على أثر في ذاكرة الأحياء ولا في ورق محفوظ، وأن يلغي كل ما توارثه العرب عن أنسابهم وأسلافهم، وهم أمة تقوم مفاخرها وعلاقاتهم على الأنساب وبقايا الأسلاف، وأن يفترض وجود الرواة المتآمرين على الانتحال بتلك الملكة التي تنظم أبلغ الشعر، وتنوعه على حسب الأمزجة والدواعي النفسية والأعمار، وأن يفهم أن القول المنتحل مقصور على الأسانيد العربية، مبطل لمراجعها، دون غيرها من مراجع الأمم التي صح عندها الكثير مما يخالطه الانتحال والكذب الصريح.
ومن النقائض التي يستدعيها العقل ويستلزمها، ويتخذ منها حجة لثبوت الواقع في جملته أن يحدث الاختلاف في الرواية، وأن يتعذر فيها الإجماع بين الرواة، فإن العقل لا يصدق الأقاويل التي يتفرق رواتها، ويطول العهد عليها ويعول أصحابها على الذاكرة والإسناد، ثم تأتي متفقة في الجملة والتفصيل، ولا تتعرض مع الزمن وعوامل الأهواء للاضطراب والحذف والإضافة عن قصد أو بفعل النسيان والإهمال، فاختلاف الرواة إذن سبب من أسباب التصديق، واتفاقهم يدعو إلى الشك أو التكذيب.
وقد نسمع النقيضين في هذه الحالة؛ فنرفضهما ولا نرفض لباب الخبر ومغزاه. فقد سمعنا أن عمرو بن كلثوم أو الحارث بن حلزة ألقى قصيدته في وقفة واحدة، وسمعنا أن زهير بن أبي سلمى كان ينظم قصيدته في الحول، وتسمى قصائده من أجل ذلك بالحوليات، وقد نسقط هذه المبالغة كما نسقط تلك، ولا يلزم من ذلك أن نسقط الشعر الذي يوغل في وقت نظمه، بين أقصى الطرفين.
وربما وقفنا على روايتين نصدقهما الآن عند النظر إلى الحقائق العصرية، ونعلم أن تلفيقهما في الزمن الماضي جد عسير ولو أراده الملفقون. فمما يروى عن امرئ القيس أنه تعجب من إعراض النساء عنه مع وسامته ومكانته، وسأل إحدى النساء في ذلك فقالت له: نعم، ولكن لك عرقا كأنه عرق كلب، ثم نقرأ أخبار وفاته فنعلم منها أنه أصيب قبل موته بقروح تساقط منها جلده، وسمى الحلة التي كان يلبسها من أجل ذلك بذات القروح، ومؤدى الروايتين معا أن الشاعر كان على استعداد للمرض الجلدي لفساد رائحة العرق الذي يفرزه، وأنه لم يزل حتى استشرى به الفساد في رحلته القصية فظهرت فيه تلك القروح، ويقترن ذلك بنوادره مع النساء المعرضات عنه، وغلبة الشاعر علقمة عليه في عيني امرأته، فلا يسهل على الناظر في جميع هذه الأخبار أن ينسب تلفيقها عمدا إلى راوية واحد، ولا يسهل عليه أن يتلقاها متفرقة ثم يجردها من الدلالة التي تربط بينها على غير علم من الرواة المتفرقين.
وربما كذب الكثير من أخبار طرفة ولم تكذب قصيدته، حيث تنم في جملتها على خلائقه التي تنوب عن تلك الأخبار، وتغنينا عن محاسبة الرواة على التصديق أو التكذيب.
Halaman tidak diketahui