[مقدمة التحقيق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
هذا كتاب (لباب الآداب) ألفه أحد أبطال الاسلام وفرسانه:
(الأمير أسامة بن منقذ) (٤٨٨- ٥٨٤ هجرية) ﵀ رحمة واسعة.
عهد إلىّ بتصحيحه صديقى الفاضل الأديب لويس سركيس. وكانت نسخته الأصلية المخطوطة عند أستاذنا الكبير العلامة الدكتور يعقوب صروف صاحب مجلة (المقتطف) الغراء. وقد وصفها وصفا جيدا فى المقتطف (شهر ديسمبر سنة ١٩٠٧ مجلد ٣٢ صفحة ٩٥٣- ٩٦٠) ستراه فيما يأتى.
وفى دار الكتب المصرية نسخة نقلت عنها بالتصوير الفتوغرافى برقم (٤٧٠٠ أدب) وعندنا صورة أخرى منها.
وهذه النسخة هي نسخة المؤلف كتبت فى حياته (سنة ٥٧٩ هجرية) ثم أهداها لابنه الأمير (مرهف بن أسامة) .
وفى أثناء طبع الكتاب، بعد إتمام (باب الكرم) وعند الشروع فى (باب الشجاعة) (ص ١٤٨) وجدنا نسخة أخرى منه فى دار الكتب المصرية، دلنى عليها صديقى الفاضل الأستاذ الشيخ محمد عبد الرسول. وكانت موضوعة فى الفهرس القديم فى علم التصوف.
وقد تفضل حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل (أسعد بك برادة مدير دار الكتب) باعارتى إياها لأستعين بها فى التصحيح.
المقدمة / 3
وهى مكتوبة فى آخر (سنة ١٠٦٦ هجرية) . وهى نسخة غير جيدة، وفيها تحريف كثير. ويظهر أن ناسخها كان يترك أشياء من الكتاب لا ينقلها:
إما اختصارا، وإما كسلا، وإما عجزا عن قراءتها. ولكنها أفادتنا في التصحيح فى مواضع متعددة.
وكان أول همى أن أرجع إليها فى موضع الخرم فى النسخة الأصلية، وهو الموضع الذى أشار إليه الدكتور صروف فى مقاله الآتى، وهو فى الكتاب (ص ١٧ من النسخة المطبوعة) . فوجدت أن كاتبها وصل الكلام ببعضه، فقال بعد قوله «ومن مزح استخف به» (ص ١٧ س ٢) -: «وقال الشاعر»، ثم ذكر البيتين «لا تله عن أمر» الخ، ولكنه كتبها «فلا تله عن أمر» . وجاء هذا الكلام في وسط الصفحة. ولذلك ظننت بادىء ذى بدء أن نسخة الدكتور صروف كاملة، ولكنى تبينت بعد ذلك أن رأيه صحيح، وأن النسخة مخرومة.
لأن جملة «ومن مزح استخف به» جاءت فى آخر الصفحة هناك. ثم كتب الكاتب فى أسفل الصفحة كلمة «ومن أكثر» ثم جاء فى أول الصفحة التالية قوله «لاتله عن أمر» .
وهذه الكلمة التى تكتب فى أسفل الصفحة تسمى فى اصطلاح الناسخين القدماء (التعقيبة) وهى تعاد مرة أخرى فى أول الصفحة التالية لتدل على أن الكلام متصل، وعلى أنه لم يسقط شىء بين الصفحتين، ولا تزال هذه الطريقة مستعملة فى المطبوعات القديمة وبعض المطبوعات الحديثة، وهى معروفة إلى الآن فى الأوساط العلمية الأزهرية وغيرها.
ويظهر لى أن النقص فى النسخة قديم فى عصر المؤلف أو بعده بقليل، وأن الناسخين نقلوا الكتاب على ما فيه من خرم، لأن النسخة الأخرى الجديدة تخالف القديمة فى مواضع كثيرة: باختلاف الألفاظ وبالنقص وبالزيادة أيضا- كما سترى
المقدمة / 4
من المقارنة بينهما فى أثناء الكتاب- وهذا يدل على أن ناسخها لم ينقل عن الأصل العتيق الذى بين أيدينا، بل نقل عن أصل آخر.
وقد أشرنا فى تعليقاتنا الى النسخة القديمة بقولنا «الأصل» وإلى النسخة الأخرى الحديثة برمز «ح» واليهما معا بقولنا «الأصلين» .
ولقد عنيت بالكتاب، وبذلت فيه جهدا كثيرا، وحاولت أن أخرجه للناس مثالا يحتذى فى جودة الطبع ودقة التصحيح. ولم يضن صديقى الفاضل الأديب لويس سركيس بشىء من النفقة فى سبيل ذلك.
وأعاننى فى تصحيحه شقيقى الأصغر السيد محمود محمد شاكر. وكثيرا ما سهر الليالى فى تحقيق بيت شعر أو تصويب جملة. وأعاننى أيضا صديقى الفاضل الشيخ محمد حامد الفقى فى مقابلة كثير من الكتاب على الأصلين، وفى تخريج بعض الأحاديث الواردة فيه.
والمؤلف ﵀ يذكر فى أوائل الأبواب بعض الأحاديث النبوية، ولكنه لم يكن من العلماء بالسنة، فيأتى بأحاديث منها الصحيح ومنها غير الصحيح.
ولم أستجز لنفسى أن أترك حديثا واحدا من غير بحث عن أصله وصحته، نصيحة للأمة، وأداء للأمانة.
وعلى الرغم من كل هذا فانى عجزت عن معرفة كثير من الأحاديث التى.
فيه، ولذلك أنصح كل قارىء أن لا يحتج بشىء من الأحاديث فى الكتاب الّا بما صرحت أنه حديث صحيح أو حسن. وأما الأحاديث التى لم أكتب شيئا عنها أو أشرت إلى أنى لم أجدها فانه لا يجوز الاحتجاج بها، إلا أن يثبت للقارىء صحتها بالطريق العلمى الصحيح المعروف عند أهل هذا الفنّ. وهذا مما يجب على كل مسلم مراعاته بالدقة التامة فى كل كتاب. والحديث عن رسول الله ﷺ شديد، والاحتياط فيه واجب.
المقدمة / 5
وقد وقعت فى الكتاب بعض أغلاط- مع كل ما عانينا فى تصحيحه- بعضها جاء سهوا منّي، وبعضها جاء خطأ فى النظر، وبعضها من الأغلاط المطبعية التى لا يتنزه عنها كتاب.
وأهمها أغلاط أربعة فى آيات قرآنية، نرجو من القارىء أن يصححها بقلمه عند اقتناء الكتاب. وذكرناها وحدها فى أول الاستدراك الملحق به.
ثم إنى عنيت بوضع الفهارس المفصلة، إذ هى مفاتيح الكتب، فجعلت له فهارس خمسة: أولا: أبواب الكتاب. ثانيا: الأعلام. ثالثا: الأماكن.
رابعا: أيام العرب. خامسا: قوافى الشعر.
وكنت أريد أن أضع فهرسا للآيات القرآنية، وآخر للأحاديث النبوية.
ولكنى وجدت فائدتهما فى الكتاب قليلة، لأنه يذكر الآيات ثم الأحاديث فى أول الأبواب. فموضعها فيه معروف ظاهر.
وبعد: فانى لا أظننى مغاليا إذا قلت إن هذا الكتاب من أجود كتب الأدب وأحسنها، وسيرى قارئه أنه ينتقل فيه من روض الى روض، ويحتنى أزاهير الحكمة، وروائع الأدب، ويقتبس مكارم الأخلاق.
وفيه ميزة أخرى جليلة: أن فيه أقوالا من نثر ونظم لم نجدها فى كتاب غيره من الكتب المطبوعة، فقد وجدنا فيه أبياتا لعامر بن الطفيل لم تذكر فى ديوانه المطبوع فى أوربا، مع أن المستشرق الذى طبعه جمع فيه كل ما وجد لعامر فى كتب الأدب الأخرى. ووجدنا أبياتا أخرى لمالك بن حريم الهمدانى لم نجدها فى غيره من الكتب، وكذلك لابن المعتز ولأبى العلاء المعرّى، ولغيرهم.
وأسأل الله ﷾ أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.
مساء الأحد ثانى صفر الخير سنة ١٣٥٤ ٥ مايو سنة ١٩٣٥ كتبه أبو الاشبال احمد محمّد شاكر
المقدمة / 6
مقدمة الكتاب بقلم الدكتور يعقوب صروف
منشىء مجلة المقتطف كتاب لباب الآداب وقع لنا فى هذه الأيّام كتاب من خيرة كتب الادب العربيّة، وضعه كاتب من مشاهير الكتّاب، وهو أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني. والنسخة التى وقعت لنا هى النسخة الأصلية التى كتبت للمؤلف سنة ٥٧٩ للهجرة، وقد وهبها لابنه، وكتب ابنه عليها بيده يقول إن أباه وهبه إياها كما سيجىء. فهي من أقدم كتب الخط العربيّة المحفوظة إلى الآن.
والكتاب متوسط الحجم، طوله ٢٣ سنتمترا ونصف سنتمتر، وعرضه ١٥ سنتمترا، وفيه ٢٤٩ ورقة فى واحد وعشرين كراسا لا ينقصه إلّا ست ورقات من الكراس الثانى وجانب من حاشية الورقة الاخيرة.
واسم الكتاب فى الصفحة الأولى أبيض تحيط به نقوش مذهبة وزرقاء، وتحته اسم المؤلف ويحيط بالاثنين برواز منقوش. وقد تفنن ولده فى ما كتبه، فرسم حوله دوائر تحيط به كالغيوم بحبر أسود وذهبى، وملأ ما بين السطور بنقوش عقفاء تدلّ على أن الناس كانوا قد خرجوا من قيد الخطوط المستقيمة، وعكفوا على المنحنيات شأن المصورين. وخط الكتاب واضح جميل، وحبره أسود برّاق، وحروفه المعجمة منقوطة غالبا ما عدا الكلمة التى تكتب فى آخر الصفحة وتعاد فى الصفحة التالية، فانها غير منقوطة فى الغالب؛ ويحتمل أن
المقدمة / 7
يكون النقط طارئا على الكتاب، لكنّ هذا الاحتمال بعيد، لأن حبر النقط مثل حبر الحروف تماما، وحجمها يدل على أنها مكتوبة بالقلم الذى كتبت به الحروف. ويمتاز بتعلق بعض الحروف المنفصلة: فاذا وقعت بعد الألف دال، أو ذال، أو عين، أو غين علقت الألف بها، كما تعلق باللام فى الخط الديوانى؛ وإذا وقعت بعد الدال ياء متطرفة مثل «عندى» علقت بها، وكثيرا ما توصل الكلمة الواحدة بالتى بعدها. وتترك الكاف أحيانا من غير شرطة ولا سيما إذا كانت فى أول الكلمة. وليس فى وسط الكاف الأخيرة كاف صغيرة. وقلما توضع علامة للحروف المهملة.
وفى الكتاب علامات تدلّ على أن الناسخ قرأه للمؤلف، فأصلح فيه قليلا؛ لكنّ المؤلف لم يقرأه بنفسه، إمّا لضعف بصره فى شيخوخته، أو لسبب آخر؛ لأن الكاتب يخطىء أحيانا خطأ صرفيا لا يدركه من يسمع ولا يقرأ، ولو رآه المؤلف لأصلحه حتما «١» .
وهذه الأمور العرضية يعنى بها اليوم جماعة من العلماء الذين يبحثون عن الخطوط والكتب القديمة: ألمعنا إليها إلماعا؛ وجوهر الكتاب قائم بموضوعه واسلوبه، فقد قسمه المؤلف إلى سبعة أبواب وهي: باب الوصايا، وباب السياسة، وباب الكرم، وباب الشجاعة، وباب الآداب، وباب البلاغة، وباب ألفاظ من الحكمة فى معان شتى.
ويبتدىء الباب بآيات من القرآن، تتلوها أحاديث نبوية، ثم أقوال حكميّة يتمثل بها، ونوادر وأشعار ونحو ذلك مما يرى بعضه فى كتاب «الغرر والعرر» للوطواط، وكتاب «محاضرات الأدباء» للراغب الأصبهانى.
المقدمة / 8
والمؤلف كاتب مشهور، ترجمه ابن خلكان فى «وفيات الأعيان» .
[ثم نقل ترجمة المؤلف عن ابن خلكان، وقد حذفناها اكتفاء بالترجمة التى ستقرؤها فيما يأتى] وواضح من ذلك «١» أن المؤلف ألّف كتاب «لباب الآداب» قبل وفاته بنحو خمس سنوات، فألّفه وهو شيخ عرك الدهر واجتنى ثمار الاختبار.
وقد صورنا منه النصف الأعلى من الصفحة الأولى بعد الفهرس، والنصف الأعلى من الصفحة الأخيرة، كما ترى فى صدر هذه المقالة «٢» . وهاك قراءة ما فيها سطرا سطرا:
الصورة الاولى:
كتاب لباب الآداب تأليف أسامة بن مرشد بن مقلد بن نصر ابن منقذ الكنانى غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين حبانى مولاى والدى مجد الدين مؤيد الدولة وفقه الله بهذا الكتاب الذى هو من تأليفه بدمشق المحروسة فى شهور سنة اثنتين وثمانين وخمس مائة وكتبه ولده مرهف بن أسامة حامدا ومصليا الصورة الثانية:
[فرحم الله كريمًا وقف عليه وتصدق على مؤلفه بدعوة صالحة.... يثيبه الله تعالى عنها ويجزل حظه منها فهو سبحانه [من الدا] عى قريب يسمع ويجيب [وكان الف] راغ منه في صفر سنة تسع وسبعين وخمس مائة
المقدمة / 9
[والحمد لله و] حده وصلواته على سيدنا محمد نبيه وصحبه وسلامه ناسخه الفقير الى رحمة ربه [غ] نايم «١» الناسخ المعرى غفر الله له ولوالديه ولجمع المسلمين وقد أشكلت علينا قراءة اسم ابنه فى خطه، واتفق أننا فتحنا «وفيات الأعيان» لنقرأ ترجمة الملك الأفضل، والد السلطان صلاح الدين، فاذا فيه:
ورأيت فى تاريخ كمال الدين بن العديم فصلا نقله من تعليق العضد مرهف بن أسامة بن منقذ الخ. فاتضح لنا من ذلك اسمه وأنه أديب ابن أديب.
والظاهر أن المؤلف نقح الكتاب بعد أن تمّ تبييضه ونسخه، فقطع الأوراق الأولى من أوائل الأبواب، وأبدلها بغيرها وزاد فيها كثيرا من الآيات والأحاديث. وهو فى الأصل واحد وعشرون كرّاسا، فى كل كراس منها عشر ورقات، أى إنه كان ٢١٠ ورقات، لكن فيه الآن ٢٤٩ ورقة. وفى كل صفحة من الصفحات الأصلية ١٣ سطرا، لكن الورقات التى زيدت فيه يختلف عدد سطورها، فيزيد تارة حتى يبلغ ٢٠ سطرا، وينقص أخرى حتى يبلغ ١١ سطرا.
والخط والحبر فى بعض هذه الأوراق غير جيدين، كأنها مقحمة فى الكتاب بعد حين. ولكن أكثره بالخط الجيد، والحبر الجيد، ولا شبهة فى أنه هو الأصل، كما هو واضح من وضع الكراريس، ولأن المؤلف يذكر فيه أهله وبلده ومؤلفاته وبعض ما لقيه فى سفراته، كقوله عن على بن أبى طالب «٢»: «وقد
المقدمة / 10
ذكرت شيئا من حروبه ووقعاته في كتابي المترجم بكتاب فضائل الخلفاء الراشدين» . وقوله «١»: «كان بيننا وبين الإسماعيلية قتال في قلعة شيزر في سنة سبع وعشرين وخمس مائة» . وقوله «٢»: «وقد كان عندنا بشيزر رجل يقال له محمد البشيبش كان يخدم جدِّي سديد الملك أبو الحسن علي بن نصر بن منقذ الكناني، ﵀» . وقوله «٣»: «قرأت على حائط مسجد بديار بكرٍ سنة خمسة وستين وخمس مائة:
صُن النفس وابذل كل شيءٍ ملكته ... فإن ابتذال المال للعرضِ أصونُ
ولا تطلقن منك اللسان بسوءةٍ ... ففي الناس سوءات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت لديك معايبًا ... لقومٍ فقل: يا عين للناس أعينُ
ونفسك إن هانت عليك فإنها ... على كل من تلقى أذلّ وأهون» .
فهل من أديب من أدباء دياربكر يبحث عن هذا المسجد، وينبئنا عما على حائطه من الأشعار، عساه لا يزال قائما كما كان؟
ثم شرع الدكتور فى نقل بعض فقرات من الكتاب لم نجد فائدة فى إعارتها هنا ثم كتب عنه مقالا آخر في عدد (ابريل سنة ١٩٠٨ مجلد ٣٣ ص ٣٠٨- ٣١٣) نقل فيه فقرات أيضا، وفى آخرها حكاية بطرك مصر مع الملك العادل بن السلار وطلب ملك الحبشة منه عزل بطرك الحبشة (ص ٧٢- ٧٣ من هذه الطبعة) وقال عقب ذلك: «فهذا أمر جرى منذ نحو ثمانمائة سنة فى هذ القطر وفى هذه العاصمة، رآه مؤلف هذا الكتاب بعينه، وسمع ما قيل فيه بأذنه، وهو كأنه حدث أمس، وكتب عنه كما نكتب عنه اليوم. مرت ثمانمائة سنة والعادات لم تتغير، ولغة الكتاب لم تختلف اختلافا يذكر» .
المقدمة / 11
ثم كتب مقالا ثالثا فى عدد (مايو سنة ١٩٠٨ مجلد ٣٣ ص ٤٧٩- ٤٨٣) قال فى أوله: «فى كتاب لباب الآداب أمور كثيرة مذكورة فى كتب الأدب، وفيه أمور أخرى وقعت للمؤلف أو حدثت فى زمانه. والغالب أنه لم يذكرها أحد غيره، كقصة بطريرك الأقباط التى نقلناها عنه فى مقتطف ابريل. وها نحن موردون الآن حوادث أخرى حدثت فى زمانه، لا قصد الفكاهة، بل للاستدلال بها على شىء من أحوال الناس فى عصره، أى منذ نحو ثمانمائة سنة» .
ثم نقل حكايات من الكتاب، منها حكاية فتح الافرنج انطاكية (ص ١٣٢- ١٣٤ من هذه الطبعة) وحكاية المؤلف مع شيخة ابن المنيرة حين هجوم الاسمعيلية على حصن شيزر (ص ١٩٠- ١٩١) وحكاية زهر الدولة بختيار مع الأسد (ص ١٩٩) ثم قال:
«نقف الآن عند هذا الحدّ، وفى النوادر التى نقلناها أمور كثيرة حرية بالنظر. من ذلك ذكره كلمة الافرنج بهذا اللفظ الشائع الآن فى مصر والشأم، فاستعمالها كذلك قديم، ولا داعى للعدول عنه إلى كلمة فرنج أو فرنجة. ولم نر فيما لدينا من التواريخ إشارة إلى قصة بغدوين ملك القدس وجوسلين صاحب تل باشر، لكن أبا الفرج قال فى تاريخه إن بغدوين مات فى القدس ووصى ببلاده للقمص صاحب الرها، وهو الذى أسره جكرميش وأطلقه سقاوو جاولى. وعليه فاسم الموصول راجع إلى بغدوين لا إلى القمص، إذا كان مراد أبى الفرج الاشارة إلى أسر بغدوين مع جوسلين واطلاق جاولى سقاوى لهما. وجاء فى تاريخ الصليبيين للسر جورج كوكس أن جوسلين أعان بلدوين البرجى حتى خلف الملك بلدوين الثانى، فجعله بلدوين البرجي أميرا على الرها. لكن جوسلين هذا أسر أخيرا سنة ٥٤٦ ومات أسيرا، فهل هو جوسلين عينه الذى أسر أو لا سنة ٤٩٠؟. أو إن أسامة لم يكن يدقق فى ذكر السنين، كما يظهر مما نقلناه عنه فى الجزء الماضى، حيث
المقدمة / 12
قال: إنه كان فى مصر سنة ٥٤٧ فى عهد الملك العادل، مع أن الملك العادل خلف الملك الصالح سنة ٦٥٥.
وكيفما كانت الحال فالقصة محتملة الصدق، ولا بد من أنها كانت تروى فى عهده حتى تمثل بها. وهى تماثل ما يروى عن أخلاق فرسان الصليبيين وشهامتهم وحفظهم للذمام، وما كان جاريا فى ذلك العهد من استعانة أمراء المسلمين بأمراء الصليبيين، وأمراء الصليبيين بأمراء المسلمين.
ومنها اهتمام أمراء المسلمين بتعليم أولادهم، فقد كان أبو أسامة مستخذما شيخا من كبار العلماء لتعليم أولاده، وظهرت نتيجة تعليمه فى تفوق أسامة فى الانشاء، نثرا ونظما.
ومنها أن ذلك الزمان كان زمان حروب متتابعة، ولذلك كانوا يضطرون أن يقيموا فى الحصون ويصعدوا إليها بالحبال.
ومنها أن الاسود كانت لا تزال كثيرة فى بلاد الشام، أو فى أطرافها، فذكر هذا الاسد من غير استغراب، وقد انقرضت الأسود منها الآن ...
وواضح مما ذكره هنا أنه ألف كتاب (لباب الآداب) وعمره أكثر من تسعين سنة «١»، فهو ثمرة يانعة من ثمار عقله، بعد أن حنكته التجارب، وراضته الايام.
وفى الكتاب أدلة على أن الكاتب بيّض مسودات كانت عند أسامة وخطها غير جلىّ، لانه ترك بعض الأعلام الأعجمية ثم كتبها بقلم آخر وهو يقرأ الكتاب على المؤلف، أو أخطأ فى كتابتها ثم أصلحها لما قرأ الكتاب. أما دعاء أسامة على الافرنج بقوله: خذلهم الله (ص ١٣٢) فأقل مما كان يستعمله غيره من كتاب عصره» . اه كلام العلامة الدكتور يعقوب صروف.
المقدمة / 13
استدراك على كلام الدكتور صروف بقلم مصحح الكتاب
ولنا عليه استدراك فى قوله: «إن أسامة لم يكن يدقق فى ذكر السنين، كما يظهر مما نقلناه عنه فى الجزء الماضى، حيث قال: إنه كان فى مصر سنة ٥٤٧ فى عهد الملك العادل، مع أن الملك العادل خلف الملك الصالح سنة ٦٥٥» .
وذلك أنه نقل فى ترجمة المؤلف أنه توفى سنة ٥٨٤، وبيده برهان ماديّ هو نسخة الكتاب (لباب الآداب) المخطوطة فى عصر المؤلف وعليها تاريخ كتابتها سنة ٥٧٩. فمن الواضح إذن أن الملك العادل الذى كان بمصر سنة ٥٤٧ غير الملك العادل الذى كان بها سنة ٦٥٥، وبينهما أكثر من مائة سنة، بل إن مؤلف الكتاب توفي قبل التاريخ الذى ذكره الدكتور صروف بأكثر من سبعين سنة، فلن يكون هذا من أن أسامة لم يكن يدقق فى ذكر السنين.
وإنما حقيقة الأمر: أن لقب «الملك العادل» كان ذائعا فى تلك العصور، وقد كان فى عصر المؤلف اثنان بهذا اللقب.
أحدهما: الملك العادل سيف الدين أبو الحسن على بن السلار، وهو الذى نقل أسامة القصة عنه. وكان أسامة دخل مصر يوم الخميس ٢ جمادى الآخرة سنة ٥٣٩ فى خلافة (الحافظ لدين الله الفاطمى)، ثم توفى الحافظ وجلس بعده فى كرسى الخلافة ابنه (الظافر بأمر الله)، وهذا الظافر أسند الوزارة لابن السلار، وخلع عليه خلع الوزارة، ولقّبه (الملك العادل) . انظر (كتاب الاعتبار) للمؤلف (ص ٦- ٨)، ولهذا الملك العادل بن السلار ترجمة عند ابن خلكان (ج ١ ص ٤٦٧- ٤٦٩) وذكر فيها أنه تولى الوزارة للظافر الخليفة سنة ٥٤٣ ودخل القاهرة فى ١٥ شعبان سنة ٥٤٤، وأنه مات بمصر قتيلا يوم السبت ١١ محرم سنة ٥٤٨.
المقدمة / 14
والثانى: الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى، وله ترجمة عند ابن خلكان (ج ٢ ص ١١٥- ١١٧) وذكر فيها أنه ولد فى يوم الأحد ١٧ شوال سنة ٥١١، ومات يوم الأربعاء ١١ شوال سنة ٥٦٩ بقلعة دمشق. وهذا الملك العادل نور الدين لقيه المؤلف أسامة أيضا، إذ أرسله اليه صديقه الملك العادل بن السلار فى سفارة سياسية حربية كما قال فى الاعتبار (ص ١٠): «تقدم الى الملك العادل ﵀ بالتجهز للمسير إلى العادل نور الدين ﵀» ثم قال فى (ص ١٤):
«ووصلنا فى طريقنا الى بصرى فوجدنا الملك العادل نور الدين ﵀ على دمشق» . ثم اتصل أسامة بعد ذلك بخدمته (ص ٣٤) .
وأما بعد عصر المؤلف، وبعد زوال دولة الفاطميين، فقد كان بمصر الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شادى، بويع بالسلطنة فى شوال سنة ٥٩٥، ثم حفيده الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبى بكر بن أيوب، ولى الملك سنة ٦٣٥. ثم خلع وبويع أخوه الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة ٦٣٦، ثم توفى سنة ٦٤٧، وخلفه ابنه الملك المعظم توران شاه، ثم قتل يوم الاثنين ١٧ محرم سنة ٦٤٨، وتولت السلطنة بعده (شجرة الدر زوجة أبيه الملك الصالح) فى ٢ صفر سنة ٦٤٨ وخلعت نفسها بعد ثلاثة أشهر.
تقريبا. وكانت ختام الدولة الأيوبية. ثم بدأت دولة الأتراك. انظر تاريخ ابن اياس (ج ١ ص ٧٥ و٨٢ و٨٣ و٨٥ و٨٩ و٩٠) .
وأنت ترى من هذه السلسلة التاريخية أن الملك العادل الأيوبى كان قبل الملك الصالح لا بعده، وأنه تولى ملك مصر سنة ٦٣٥ لا سنة ٦٥٥.
وأسال الله سبحانه أن يوفقنا لما فيه رضاه.
كتبه احمد محمد شاكر عفا الله عنه
المقدمة / 15
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة المؤلف «١»
ولد يوم الأحد ٤٧ جمادى الآخرة سنة ٤٨٨ (يوليو سنة ١٠٩٥) توفى ليلة الثلاثاء ٢٣ رمضان سنة ٥٨٤ (نوفمبر سنة ١١٨٨)
نسبه
أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ «٢» بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك بن أبى مالك بن عوف بن كنانة بن عوف «٣» بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب «٤» بن حلوان بن
المقدمة / 16
عمران بن الحاف «١»] بن قضاعة بن مالك بن عمرو «٢» بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
قال ياقوت: «هكذا ذكر هو نسبه، وفيه اختلاف يسير عند ابن الكلبى»
أسرته
بنو منقذ: أسرة مجيدة، نشأ فيها رجال كبار، كلهم فارس شجاع، وكلهم شاعر أديب. وكانوا ملوكا فى أطراف حلب، «بالقرب من قلعة شيزر، عند جسر بنى منقذ المنسوب إليهم، وكانوا يترددون إلى حماة وحلب وتلك النواحى، ولهم بها الدور النفيسة، والأملاك المثمنة، وذلك كله قبل أن يملكوا قلعة شيزر، وكان ملوك الشام يكرمونهم، ويجلون أقدارهم، وشعراء عصرهم يقصدونهم، ويمدحونهم، وكان فيهم جماعة أعيان رؤساء كرماء أجلاء علماء «٣»» .
وحصن شيزر: قلعة قريبة من حماة، على بعد خمسة عشر ميلا منها، ولم يزل قائما إلى اليوم، معروف باسم «سيجر» تصحيف «شيزر» كما ذكر الأستاذ «فيليب حتي» فى مقدمة كتاب «الاعتبار» .
وكان الحصن «لآل منقذ الكنانيين، يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس «٤»»
المقدمة / 17
وصالح هذا ملك حلب سنة ٤١٧ وقتل سنة ٤١٩ أو ٤٢٠ كما فى ابن خلكان (١: ٢٨٦) ويظهر أنه خرج بعد ذلك من أيديهم إلى الروم، واسترده منهم «سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد» جد المؤلف فى يوم السبت ٢٧ رجب سنة ٤٧٤ بالأمان بمال بذله للأسقف الذي كان فيه (انظر ذيل تاريخ دمشق) لأبى يعلى بن القلانسي ص ١١٣ وابن خلكان ١: ٤٦٤ ومعجم الأدباء ٢: ١٨٧) وبقي الحصن فى أيديهم حتى خرب بالزلازل فى سنة ٥٥٢ وقتل كل من فيه من بنى منقذ تحت أنقاضه.
ورأس هذه الأسرة وزعيمها: أبو المتوّج مقلّد بن نصر بن منقذ، الملقب «مخلص الدولة» . قال ابن خلكان (٢: ١٥٥): «كان رجلا نبيل القدر، سائر الذكر، رزق السعادة فى بنيه وحفدته» . مات بحلب فى ذى الحجة سنة ٤٥٠ وحمل الى كفر طاب. وكان الشعراء يقصدونه ويمدحونه، ورثاه بعضهم بقصائد نفيسة، منهم أبو محمد بن سنان الخفاجى مؤلف «سر الفصاحة» . ونقل أسامة فى هذا الكتاب (ص ٣٦٨) أبياتا من قصيدة ابن سنان فى رثائه.
ونقل ابن خلكان قصيدة «من فائق الشعر» لأبى يعلى حمزة بن عبد الرزاق بن أبى حصين فى رثائه أيضا.
ثم ابنه: أبو الحسن علي بن مقلد- جد المؤلف- الملقب «سديد الملك» .
وكان أديبا شاعرا، وشجاعا مقداما، قوى النفس كريما، مات سنة ٤٧٥، ومدحه جماعة من الشعراء، كابن الخياط وابن سنان الخفاجى.
ثم ابنه: أبو سلامة مرشد بن علي- والد المؤلف- الملقب «مجد الدين» ولد سنة ٤٦٠ ومات يوم الاثنين ٨ رمضان سنة ٥٣١ (٣١ مايو سنة ١١٣٦) .
وكان فارسا شجاعا، ثابت الجنان عند البأس، لا يرتاع، صالحا دائبا على مرضاة
المقدمة / 18
ربه، ليس له شغل سوى الحرب وجهاد الافرنج ونسخ كتاب الله ﷿، وهو صائم الدهر مواظب على تلاوة القرآن. وكان مغرما بالصيد لهجا به، له فيه ترتيب لا نظير له فيما حكى ابنه عنه، نسخ أكثر من أربعين مصحفا بخطه.
وحضر وقائع كثيرة، وفى بدنه جراح هائلة، ومات على فراشه «١» .
وكانت امارة الحصن لأخيه الأكبر «نصر بن علي» فمات سنة ٤٩١ عن غير عقب، ولما حضرته الوفاة عهد بالامارة إلى مرشد هذا فأبى زهدا فيها وقال:
«والله لا وليتها، ولأخرجنّ من الدنيا كما دخلتها ... ثم ولّاها أخاه أبا العساكر سلطان بن علي، وكان أصغر منه «٢»» .
وسلطان هذا لم يرزق أولادا فى أول أمره، فاصطفى لنفسه ابن أخيه- مؤلف الكتاب: أسامة بن مرشد- وكان يوليه عنايته ويعهد اليه بكثير من المهامّ، ثم رزق أولادا فى آخر أمره، فأظهر التجني على أخيه وأولاد أخيه، وكان فى الأمر بعض الستر فى حياة مرشد. وأما بعد وفاته فقد صارح سلطان أولاد أخيه العداء وأخرجهم من الحصن كرها فى العام التالى سنة ٥٣٢.
وكان هذا من فضل الله عليهم، فنجوا من القتل تحت أنقاض الحصن فى سنة ٥٥٢.
نشأته وأخباره
ولد أسامة يوم الأحد ٢٧ «٣» جمادى الآخرة سنة ٤٨٨ (يوليو سنة ١٠٩٥) بقلعة شيزر. وقد حكى هو تاريخ ولادته فى الاعتبار (ص ١٢٤) . وكنيته «أبو المظفر» . ونقل ياقوت كنية أخرى له وهى «أبو أسامة» وقد وجدت كنية ثالثة له فى عنوان كتابه (البديع فى نقد الشعر) الموجود بمكتبة بلدية
المقدمة / 19
الاسكندرية، وهى «أبو الفوارس» والكنية الأولى أشهر، ولم أجد ما يؤيد الأخريين. ويلقب «مؤيد الدولة مجد الدين» .
ونشأ أسامة فى كنف أبويه وعمه وجدته، وفى وسط أسرة من أعظم الأسر العربية، أكثر رجالها فرسان محاربون من الطبقة الأولى، وبعد ولادته بنحو سنتين بدأت الحروب الصليبية فى بلاد الشام سنة ٤٩٠، ورباه أبوه على الشجاعة والفتوة والرجولة، ومرّنه على الفروسية والقتال، وكان يخرجه معه إلى الصيد، ويدفع به بين لهوات الأسود. فأخرج منه فارسا كاملا، وسياسيا ماهرا، ورجلا ثابتا كالرواسى، لا تزعزعه الأعاصير، ولا تهوله النكبات والرزايا. فهو يقول عن نفسه بعد أن جاوز التسعين، إذ يحكي بعض ما لقي من الأهوال:
«فهذه نكبات تزعزع الجبال، وتفني الأموال، والله سبحانه يعوّض برحمته، ويختم بلطفه ومغفرته. وتلك وقعات كبار شاهدتها، مضافة إلى نكبات نكبتها، سلمت فيها النفس لتوقيت الآجال، وأجحفت بهلاك المال» (الاعتبار ص ٣٥) .
ويقول أيضا: «فلا يظنّ ظانّ أن الموت يقدمه ركوب الخطر، ولا يؤخره شدة الحذر، ففى بقائي أوضح معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحّمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقتلت الأسود، وضربت بالسيوف، وطعنت بالرماح، وجرحت بالسهام والجروخ «١» - وأنا من الأجل فى حصن حصين- إلى أن بلغت تمام التسعين ... فأنا كما قلت:
مع الثمانين عاث الدّهر فى جلدي ... وساءنى ضعف رجلى واضطراب يدي
اذا كتبت فخطّي جدّ مضطرب ... كخطّ مرتعش الكفّين مرتعد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا فى لبّة الأسد
المقدمة / 20
وإن مشيت وفى كفّي العصا ثقلت ... رجلي كأنّي أخوض الوحل فى الجلد
فقل لمن يتمنّى طول مدّته ... هذى عواقب طول العمر والمدد»
(الاعتبار ص ١٦٣- ١٦٤) «١» ولم يكتف أبوه بتربيته الحربية، بل كان يحضر له الشيوخ الكبار ليعلموه هو وإخوته، فسمع الحديث من الشيخ الصالح أبى الحسن علي بن سالم السنبسي فى سنة ٤٩٩ كما فى تاريخ الاسلام للذهبى «٢»، وقد روى عنه حديثا فى أول (لباب الآداب ص ١) . وكان يؤدبه الشيخ العالم أبو عبد الله محمد بن يوسف المعروف بابن المنيرة المتوفى سنة ٥٠٣ «٣» وقرأ علم النحو قريبا من عشر سنين على الشيخ العالم أبى عبد الله الطّليطلي النحوي، وكان فى النحو سيبويه زمانه. «٤»
والتوسع فى علم النحو هذه السنين الطويلة يستدعي كثرة الاطلاع على الشعر القديم، وعلى غريب القرآن وتفسيره، وعلى علوم البلاغة وما يتبعها. وكان الأمراء بنو منقذ ممن يقصدهم الأدباء والشعراء، يمدحونهم ويسترفدونهم، وكانوا هم أيضا علماء شعراء، فاقتبس أسامة من هذا المجتمع الأدبي الذي نشأ فيه أدبا جمّا، وعلما واسعا، وحفظ كثيرا من الشعر القديم، فقد نقل الحافظ الذهبى فى تاريخ الاسلام عن الحافظ أبي سعد السمعاني قال: «قال لى أبو المظفر- يعنى أسامة- أحفظ أكثر من عشرين ألف بيت من شعر الجاهلية» «٥» . وصار
المقدمة / 21
شاعرا فحلا. حتى كان السلطان صلاح الدين الأيوبي لشغفه بديوان شعره يفضله على جميع الدواوين. «١»
ولما خرج أسامة من شيزر سنة ٥٣٢ أقام بدمشق نحوا من ثمان سنين فى رعاية صديقه وظهيره الأمير معين الدين أنر وزير شهاب الدين محمود، حتى نبت به دمشق «كما تنبو الدار بالكريم» «٢» . فسار إلى مصر فدخلها يوم الخميس ٢ جمادى الآخرة سنة ٥٣٩ قال: «فأقرّنى الحافظ لدين الله- يعني الخليفة الفاطمي عبد المجيد بن المنتصر بالله العلويّ- ساعة وصولى، فخلع عليّ بين يديه، ودفع لى تخت ثياب ومائة دينار، وخوّلنى دخول الحمام، وأنزلنى فى دار من دور الأفضل بن أمير الجيوش، فى غاية الحسن، وفيها بسطها وفرشها ومرتبة كبيرة وآلتها من النحاس، كل ذلك لا يستعاد منه شىء، وأقمت بها مدة فى إكرام واحترام، وإنعام متواصل» «٣» . ثم مات الخليفة الحافظ وولي الخلافة ابنه الأصغر (الظافر بأمر الله أبو منصور اسمعيل) وكان عمره ١٧ سنة تقريبا، ووثب على الوزارة سيف الدين أبو الحسن (علي بن السلار) فخلع عليه الخليفة خلع الوزارة، ولقّبه (الملك العادل) . وأرسل ابن السلار أسامة فى مهمة حربية سياسية لدى (الملك العادل نور الدين بن زنكى) وبعد وقائع وحروب عاد إلى مصر باستدعاء ابن السلار، ومكث فيها إلى سنة ٥٤٩ ثم خرج منها مكرها بعد قتل الخليفة الظافر. وقد وقعت فى مصر فى هذه السنوات الخمس مدة خلافته (٥٤٤- ٥٤٩) أحداث وفتن كبار، قتل فيها ابن السلار الوزير والظافر الخليفة. واتهم المؤرخون أسامة بأن له يدا فى قتلهما، بل بأنه هو الذي حرّض
المقدمة / 22