يخيل إلي أن الطبيعة تمس المحزون بشيء من الجنون على قدر حزنه، ولا يعود إلى عقله إلا شيئا فشيئا، وقد لا يعود إليه، كما تعالج الألم الشديد بالإغماء.
ألا ترى المحزون كيف يقلب كفيه، أو يدق يدا بيد، أو يلطم وجهه، أو يضرب رأسه بالجدران، أو يمزق ثيابه، أو يتلفت يمينا وشمالا، أو ينتبذ مكانا قصيا فلا يكلم إنسيا، أو يهيم على وجهه؟
ألا ترى كيف يحدث نفسه، كيف يناجي الأرواح، كيف يخاطب الديار والأشجار، والليل والنهار، والرسوم والآثار، يسألها فتجيب. من ذلك قول الشاعر:
فيا شجر الخابور ما لك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف!
أنا نفسي لا أذكر كيف كنت يوم وقعت المصيبة، لا أذكر من أسرع إلينا من الأهل والأصدقاء، لا أذكر ماذا قلت، وماذا عملت، والأرجح أني لم أقل شيئا، ولم أعمل شيئا، فلو دخل غريب علينا في تلك الساعة الرهيبة لم يصدق أني أنا المصاب.
وقد أشار الشمردل بن شريك أحد شعراء الحماسة إلى هذه الحالة في قوله:
بنفسي خليلاي اللذان تبرضا
دموعي، حتى أسرع الحزن في عقلي
تبرضا دموعي: أفنياها شيئا فشيئا؛ أي: بكيت عليهما حتى قل دمعي فكأنهما قللاه، فلما قل أسرع الحزن في عقلي.
Halaman tidak diketahui