81

Lessons of Sheikh Mohammed Al-Duwish

دروس الشيخ محمد الدويش

Genre-genre

السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا تاسعًا وأخيرًا: السلف لم يكونوا بمعزل عن هذا، فترى عبارات للسلف قديمًا وحديثًا تدل على ذلك، ومنها ما سقناه في بداية المحاضرة عن الإمام مالك ﵀، وجاء أحدهم إلى الخليل بن أحمد ليتعلم العروض فأحس الخليل بن أحمد أن هذا ليس عنده استعداد لأن يتعلم عروض، فأعطاه بيتًا يقطّعه قال: إذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ففهم الرجل المقصود وأنه لا يناسب له علم العروض فاتجه إلى علم النحو ونبغ فيه وكان من النحاة. نلاحظ أن الخليل بن أحمد يوجه إلى أنه ليس الميدان واحدًا، والعروض أصلًا علم محدود، ولد جملة واحدة أنشأه الخليل بن أحمد، يمكن أن يحيط به الإنسان في وقت يسير، ومع ذلك مثلًا هذا الرجل لم يستطع، لكن لا يعني أنه قد أصبح فاشلًا فأمامه ميدان آخر ومجال آخر، فاتجه إلى الميدان الآخر واستطاع أن ينبغ فيه. والأعمش كان إذا قيل له حدث قال: لا يقلد العلم الخنازير، يعني: ليس كل واحد مؤهلًا أن يُعطى العلم، فالعلم لا يُعطى إلا لمن يستحقه. يقول ابن القيم ﵀ في تحفة المودود: ومما ينبغي أن يتعهد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذونًا فيه شرعًا، أي: إذا كان هذا الطفل متهيئًا لهذا العمل بشرط أن يكون مأذونًا فيه شرعًا فلا يحمله على غيره، فإنه إن حمله على غير ما هو مستعد له لم يُفلح وفاته ما هو مهيأ له. يعني ابن القيم أن على الأب أن ينظر إلى حال الصبي، ويعرف استعدادات الصبي والأمور التي يتهيأ لها الصبي فيوجهه إلى هذا الميدان، فإذا كان الصبي عنده حفظ وعقل يمكن أن يوجه إلى العلم، وإذا كان عنده همّة ونشاط وعمل لكنه ليس متوجهًا للحفظ فينبغي أن يوجه إلى ميدان آخر، كذلك الأستاذ ينبغي أن يوجه طالبه هذه الوجهة، والمربي ينبغي أن يوجه من تحته هذه الوجهة، فينظر ما هو مستعد له فيوجهه إليه، وله عبارة طويلة يمكن أن نقرأها في مدارج السالكين: يقول: فإذا عُلم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعلم، قد وفّر عليه زمانه مبتغيًا به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق ويُفتح له فيها الفتح الخاص، أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء:١٠٠]. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر، وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصّر رأى أنه قد غُبن وخسر. ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره. ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فُتح له في هذا وسلك منه طريقًا إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغيّر قلبه وساءت حاله. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وأعظم أوراده. ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه. ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار، ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق، وتجريد الهمة، ودوام المراقبة، ومراعاة الخواطر، وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة. ثم ذكر حال من جمع تلك الطرق كلها وهذا نادر. وأيضًا يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي ﵀ حول قول الله ﷿: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾ [التوبة:١٢٢]: وفي هذه الآية أيضًا دليل وإرشاد وتنبيه لطيف لفائدة مهمة وهي أن المسلمين ينبغي لهم أن يعدوا لكل مصلحة من مصالحهم العامة من يقوم بها ويوفر وقته عليها ويجتهد فيها ولا يلتفت إلى غيرها لتقوم مصالحهم وتتم منافعهم، ولتكون وجهة جميعهم ونهاية ما يقصدون قصدًا واحدًا، وهو قيام مصلحة دينهم ودنياهم، ولو تفرقت الطرق وتعددت المشارب، فالأعمال متباينة والقصد واحد، وهذه من الحكمة النافعة في جميع الأمور. أظن أن هذه المؤيدات التي سردنا تكفي لأن تعطينا القناعة بأن هذه الطرق كلها يجب أن تُسلك جميعًا، وأن لا يعتب بعضنا على بعض، وأن هذه الطرق على مستوى الأمة مطلوبة جميعًا، لكن على مستوى الأفراد مطلوب من كل امرئ أن يقوم بباب وأن يسد ثغرًا من هذه الثغور.

3 / 15