Lessons of Sheikh Abdul-Muhsin Al-Abbad
دروس الشيخ عبد المحسن العباد
Genre-genre
أثر دراسة الحديث
إن من يطلع على الجدال بين أتباع أهل المذاهب واختلافاتهم لايشك أن فتنة التعصب المذهبي من عوامل انحطاط المسلمين وتأخرهم؛ لأنها مسخت عقولهم فأصبحوا لا يفكرون إلا بعقول غيرهم، مع أن الأئمة الأوائل لم يتعصبوا لأقوالهم كما تعصب أتباعهم لها، بل حذروا من التعصب لأقوالهم، وأمروا باتباع الدليل، فعلى المسلم أن يتبع الدليل من الكتاب والسنة، مع احترام أقوال العلماء وإجلالهم وإن أخطئوا.
1 / 1
ترجمة الشيخ عبد المحسن العباد
المقدم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد بن عبد الله الأمين، الذي أرسله الله ﵎ رحمة للعالمين، بشيرًا للمؤمنين، ونذيرًا للكافرين، وعلى أصحابه الطيبين الطاهرين، ومن سلك سبيلهم، واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من المصائب التي بليت بها هذه الأمة منذ قرون مضت وإلى يومنا هذا التعصب المذهبي المقيت، وهذا المرض هو الذي أضعف هذه الأمة الواحدة، وفرق صفوفها، إلى أن وصل الحال إلى أسوأ ما وصل إليه من اضطهاد بعض المذاهب لبعض، وقتال بعضهم لبعض، وصلاة المسلمين في المسجد الواحد أربع جماعات متفرقة! كل هذا التفرق، وكل هذا المرض الذي ألم بهذه الأمة، كان سببه التعصب المذهبي المقيت، ولا نجاة لهذه الأمة ولا خلاص لها إلا إذا تمسكت بكتاب ربها وسنة نبيها محمد ﷺ، تطبيقًا لما أمر به النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حينما قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي).
وحول هذا الموضوع وأثر دراسة الحديث في القضاء على هذا المرض العضال يحدثنا شيخنا وضيفنا الفاضل الشيخ عبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن العباد.
وقبل أن نترك له المجال نود أن نلقي الضوء على جوانب من حياة الشيخ العباد: الشيخ من مواليد شهر رمضان المبارك، عام (١٣٥٣هـ)، بمدينة الزلفي.
التحق الشيخ حفظه الله بمعهد الرياض العلمي عام (١٣٧٢هـ)، ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض، ثم عين مدرسًا في معهد بريدة العلمي في عام (١٣٧٩هـ)، ثم عين مدرسًا بمعهد الرياض العلمي في العام الذي يليه، سنة (١٣٨٠هـ)، ثم عمل مدرسًا بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في عام إنشائها سنة (١٣٨١هـ)، وكان -حفظه الله- أول من ألقى فيها درسًا.
وفي تاريخ (٣٠/ ٩/١٣٩٠هـ) عين نائبًا لرئيس الجامعة الإسلامية، ثم عين رئيسًا لمركز البحث العلمي في الجامعة الإسلامية، وهو الآن أستاذ مشارك في قسم الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية.
ومن مؤلفات الشيخ الكتب التالية: كتاب (اجتناء الثمر في مصطلح أهل الأثر).
وله كتاب (عشرون حديثًا من صحيح البخاري، دراسة أسانيدها وشرح متونها).
وله كتاب (عشرون حديثًا من صحيح مسلم، دراسة أسانيدها وشرح متونها).
وله كذلك كتاب (من أخلاق الرسول الكريم ﷺ.
وله كتاب: (دراسة حديث: نضر الله امرأً سمع مقالتي رواية ودراية).
وله كتاب: (قبس من هدي الإسلام).
وله كتاب: (عالم الرسل) هذه بعض مؤلفات الشيخ حفظه الله، نسأل الله ﵎ أن ينفع هذه الأمة بهؤلاء العلماء الأفاضل.
1 / 2
شكر وعرفان لجمعية إحياء التراث الإسلامي
الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم أولًا: قبل أن نبدأ بالموضوع أود أن أشكر جمعية إحياء التراث الإسلامي على إتاحة هذا اللقاء، وعلى جهودها المشكورة المباركة في القيام بالدعوة، والعمل على نشرها على النهج السليم، المستمد من كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ، وعمل السلف الصالح، وأشكر أيضًا حكومة الكويت على دعمها لهذه الجمعية، وتشجيعها لها، وكذلك ما قامت به ممثلة بوزارة الأوقاف من نشر بعض كتب التراث، وأسأل الله ﷾ أن يزيد الجميع من التوفيق والهدى، وأن يوفق المسلمين جميعًا إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة.
1 / 3
إرسال الرسول ﷺ بالإسلام أعظم نعم الله على المسلمين
موضوعنا هو حول أثر دراسة الحديث الشريف في ترك التعصب للمذاهب، والموضوع في الحقيقة أوسع من هذا؛ فالحديث سيكون حول واجب الأمة باتباع القرآن والحديث، وتوقير الأئمة، وترك التعصب لهم، هذا هو الموضوع الذي سيكون حوله الحديث، فأقول: الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخليله وخيرته من خلقه، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وحجة على الثقلين: الجن والإنس، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين! ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:١٠].
أما بعد: فإن نعم الله ﷾ على عباده المسلمين عظيمة، وكثيرة، لا يحصيها العادون، كما قال ﷿: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم:٣٤]، ولكن أعظم وأجل هذه النعم هي بعثة رسول الله ﷺ إلى هذه الأمة، إذ لا تساويها ولا تدانيها نعمة، والله تعالى قد نوه بهذه النعمة العظيمة، وهذه المنة الجسيمة في كتابه العزيز، فقال ﷾: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران:١٦٤]، وقال ﷾: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة:٢]، وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨].
هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة في إرسال الرسول الكريم ﵊ بهذه الرسالة الخالدة، إنما كانت أعم النعم وأجلها؛ لأن فيها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، كما قال الله ﷿: ﴿قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [الطلاق:١٠ - ١١]، فهذه أجل النعم وأعظمها.
1 / 4
عموم وشمول رسالة النبي ﷺ
والرسول صلوات الله وسلامه عليه لما أرسله الله ﷾ رحمة للعالمين أرسله برسالة كاملة عامة شاملة، خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هذه الرسالة العظيمة جمع الله تعالى فيها ثلاث خصال هي: الكمال: فلا نقص فيها بوجه من الوجوه، وقد نوه الله بهذه النعمة بقوله ﷾: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣]، فنوه الله ﷾ في هذه الآية بالكمال الذي حصل في شريعة رسول الله ﵊ في هذه الآية الكريمة.
وأما عمومها وشمولها فقد جاء ذلك في آيات كثيرة، كما قال الله ﷿: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الإسراء:١٠٥].
وأما خلودها وبقاؤها إلى نهاية الدنيا وشمولها لكل أحد وأنه لا يسع أحدًا الخروج عنها، فقد بينه صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أنه ﵊ قال: (والذي نفسي بيده! لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار)، فهذا فيه أن هذه الشريعة عامة لكل أحد، وناسخة لجميع الشرائع، وأنه بعد بعثة رسول الله ﷺ لا يظفر أحد بالسلامة والنجاة والخلاص من النار إلا باتباع هذا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
1 / 5
إبلاغ النبي ﷺ الرسالة كما أمر
وقد قام صلوات الله وسلامه وبركاته عليه بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، والنصح للأمة، وبلغ البلاغ المبين، ونصح تمام النصح، فما ترك خيرًا إلا ودل الأمة عليه ورغبها فيه، وما ترك شرًا إلا وبينه لها وحذرها منه، فعليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا من كمال نصحه، ومن كمال شفقته، ومن كمال حرصه صلوات وسلامه وبركاته عليه على سعادة ونجاة أمته.
ومن كمال نصحه ﵊ -وقد بين كل ما يحتاج الناس إليه- أنه رغبهم في حفظ هذا الحق، وفي العمل لهذا الحق، وفي الأخذ بهذا الحق.
أما بالنسبة لكتاب الله العزيز فقد قال ﵊ في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، وهذا فيه حث على تعلم القرآن وتعليمه، ومعرفة ما فيه من الخير، وما فيه من الهدى، وأن الذين يشتغلون بتعلمه وتعليمه هم خير الناس.
وأما بالنسبة للسنة المطهرة فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)، وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة، وهو يدل دلالة واضحة على أن المشتغل بسنة رسول الله ﷺ قد دعا له صلوات الله وسلامه عليه هذه الدعوة العظيمة، وهي أن ينضره الله، وأن تكون له النضارة، وأن يكون على هذا النحو الذي دعا به رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وهذا ترغيب منه صلوات الله وسلامه عليه في تلقي سنته، وفي حفظها، وفي التفقه فيها، وفي نقلها من سلف الأمة إلى من وراءهم، وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
1 / 6
حث النبي ﷺ على التفقه في الدين
والتفقه في دين الله ﷿ أيضًا أرشد إليه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وحث عليه في الحديث الصحيح المتفق على صحته، الذي رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵁ وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ: (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين).
والفقه في الدين إنما هو عن طريق الكتاب والسنة، والأخذ من كتاب الله ﷿ ومن سنة رسوله ﷺ، وهذا من كمال نصحه ﷺ، فقد بين وأرشد وأوضح، ونصح غاية النصح، وبين غاية البيان، ثم مع ذلك يوجه ويدعو لمن يقول بهذه المهمة العظيمة، فهذا مع بيانه وإرشاده ونصحه وتوجيهه حث وترغيب للعناية بكتاب الله ﷿ وبسنة رسول الله ﷺ، والتفقه فيهما، ومعرفة ما اشتملا عليه من الخير، وتعبد لله ﷾ على نحو ما جاء في كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ.
1 / 7
عناية أصحاب رسول الله ﷺ والتابعين بالقرآن والسنة
ولما أرسله الله ﷾ بهذه الرسالة الكاملة الشاملة الخالدة الباقية أكرم الله ﷾ جماعة من الخلق بصحبته، وبالجهاد معه، وبتلقي حديثه، وبالنظر إليه في هذه الحياة الدنيا، وبسماعه كلامه.
فهذه خصائص وميزات خص الله تعالى بها خير هذه الأمة الذين هم الأسوة والقدوة بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وهم صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، الذين ما كان مثلهم فيما مضى، ولا يكون مثلهم فيما يأتي؛ لأنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين.
وقد أكرمهم الله ﷾ بصحبة نبيه الكريم ﷺ وجعلهم المختارين بأن يكونوا في زمانه، وأن يتشرفوا برؤيته في هذه الحياة الدنيا، وأن يسمعوا كلامه من فمه الشريف ﵊، فيعوا ويحفظوا؛ لينقلوه إلى من بعدهم.
وقد قاموا بهذه المهمة خير قيام، ووفقهم الله ﷾ لتحقيق ما أرشد إليه رسول الله ﷺ من العناية بكتاب الله ﷿ وبسنة رسول الله، والتفقه في دين الله، واتباع ما جاء عن الله وعن رسوله ﵊.
فعنايتهم بالقرآن من أمثلتها أو من الأدلة عليها ما جاء عن عبد الله بن مسعود ﵁ أنه قال: (كنا إذا تعلمنا عشر آيات من القرآن لم نتجاوزهن حتى نتعلم معانيهن والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعًا).
وهذه عناية بالقرآن تعلمًا وتعليمًا وعملًا، فقد كانوا إذا تعلموا عشر آيات من القرآن لم يتجاوزوهن حتى يتعلموا معانيهن والعمل بهن؛ حتى تعلموا العلم والعمل جميعًا.
أما بالنسبة لسنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فمعلوم أن الرسول ﷺ منذ بعثه الله ﷾ وهو يلقي الأحاديث على صحابته في مناسبات مختلفة، فتارة يبدؤهم وتارة يسألونه فيجيبهم، وأحيانًا يأتي جبريل على صورة رجل فيلقي أسئلة على رسول الله ﷺ؛ فيجيبه الرسول ﷺ وصحابته يسمعون، ويقول الرسول ﷺ بعد ذلك: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم تلقوا ذلك عن رسول الله لملازمتهم له، أو لوجودهم معه، أو لوجود من يأتي ويسأل عما حصل له، واختلفوا في ذلك قلة وكثرة، فمنهم من كان يتحمل الأحاديث الكثيرة عن الرسول ﵊، ومنهم من كان قليل الحديث عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
ومن أمثلة حرصهم على تلقي حديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: أنهم كانوا يجمعون ويوفقون بين مصالحهم وبين الإتيان إلى رسول الله ﷺ لتلقي السنة عنه ﵊، كما جاء في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أنه قال: (كنا نتناوب على رعاية الإبل) بل لم يكن كل واحد يذهب لرعاية إبله، وإنما كانوا يجمعون إبلهم بعضها مع بعض، ثم يذهب بها واحد في يوم من الأيام والآخر يكون مع رسول الله ﵊، يعني: تكون لكل واحد نوبة في رعاية الإبل، وإذا رعى الإبل وجاء فإنه يأتي ويحصل ما يمكنه من رسول الله ﵊.
يقول عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: (كنا نتناوب على رعاية الإبل، فلما كانت نوبتي عجلتها بعشي -يعني: رجع بها في الرواح وفي نهاية النهار مبكرًا- فجئت إلى رسول الله ﵊؛ حيث وجدته قائمًا يحدث الناس، فسمعته يقول: (ما من مسلم يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يصلي ركعتين مقبلًا فيهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة)، قال عقبة: فقلت: (ما أجود هذا!)، تلفظ بهذه الكلمة والناس يسمعونها، تلفظ بها من شدة فرحه بهذا الخير الذي أدركه من رسول الله صلى الله ﷺ، وقد جاء متأخرًا.
قال عقبة: (فإذا أنا برجل يقول: التي قبلها أجود، فنظرت فإذا عمر، فقال: -أي: عمر -: إني رأيتك جئت آنفًا)، ثم بين له الشيء الذي فاته، فقال: قال ﵊: (ما من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء).
فهذا الحديث الشريف يوضح لنا أمورًا: أولًا: تناوبهم في العمل؛ ليظفروا بلقي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وأخذ السنة عنه.
ثانيًا: فرحهم واغتباطهم بما يحصلونه من حديث رسول الله ﷺ، حتى ولو كان هذا الذي حصلوه قليلًا.
ثالثًا: تعاونهم على الخير، وعلى إرشاد بعضهم بعضًا إلى ما فاته، كما حصل من عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه مع عقبة بن عامر؛ حيث لفت نظره إلى ما قد فاته.
فهذه النماذج تبين عنايتهم بكتاب الله ﷿، وعنايتهم بسنة رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وكان من حفظ الله ﷾ لهذه الشريعة، ولسنة الرسول ﷺ أن هيأ لها هؤلاء الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وخصهم بهذه الفضيلة، وهذه الخصيصة التي تلقوها عن رسول الله ﷺ، وهذه الخصيصة التي ظفروا بها هي في طليعة الأسباب التي تفوقوا وتميزوا بها على غيرهم، لأنهم هم الذين تلقوا عن رسول الله ﷺ هذا الهدى، وهم الذين أدوه إلى من بعدهم من التابعين، وهكذا جيلًا بعد جيل.
فإذًا: كل من يقتدي بسنةٍ عن رسول الله ﵊ فإن الله ﷾ يعطي الصحابي الذي نقلها مثل أجور من استفاد وعمل بهذه السنة؛ لأن هذا الصحابي الذي جاء بهذه السنة هو الواسطة بيننا وبين رسول الله ﵊، وهو الذي جعله الله ينقل حكم هذه السنة عن الرسول إلى من بعده، فلهم مثل أجور من استفاد خيرًا بسببهم.
فأعمالنا الصالحة التي نعملها طبقًا لما جاء عن رسول الله ﵊ يعطي الله تعالى نبيه ﷺ مثل ما أعطانا؛ لأنه هو الذي دلنا على هذا الخير، ويعطي صحابة نبيه، وكل من تلقى عنهم، مثل أجر العامل الذي عمل بهذه السنة التي جاءت من طريق ذلك الصحابي ثم التابعي، وهكذا من بعدهم، فهو شرف عظيم، وفضل جزيل من الله ﷿، يؤتيه من يشاء، والله ﷾ ذو الفضل العظيم.
ثم إن التابعين تلقوا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكانوا يرتحلون من بلد إلى بلد؛ ليظفروا بالحديث الواحد عن رسول الله ﵊، وإذا كان الحديث حصل عليه أحدهم من طريق فيها نزول فإنه يذهب إلى ذلك الشخص الذي يكون عنده الحديث بعلو، ويأخذه منه مباشرة؛ لتقرب الوسائط وتقل بينه وبين رسول الله ﷺ.
فالتابعون تلقوا السنة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهكذا تابعو التابعين ومن بعدهم، واستمر الأمر على ذلك، وكانت السنة محفوظة في الصدور، والله ﷾ أعطى الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن وفقه الله ﷾؛ أعطاهم من الحفظ ومن الفهم ما هو مذهل، والإنسان عندما يسمع بعض الوقائع التي حصلت لبعضهم من الحفظ يتعجب، ويرى أن هذا شيء لا يحصل إلا لمن وفقه الله ﷿، فكان الحفظ موجودًا في الصدور.
1 / 8
تدوين السنة
وقد كان في زمن الرسول ﷺ من الصحابة من يكتب، كـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم بعد ذلك بدأ تدوين السنة وكتابتها، وقد بدأ تدوينها في القرن الثاني على طرق مختلفة، ثم اتسع التدوين في القرن الثالث، وكان على وجه أتم، وعلى وجه أكمل؛ ولذلك سمي ذلك العصر بالعصر الذهبي لتدوين السنة.
والقرن الثالث هو العصر الذي دون فيه الصحيحان، والسنن الأربعة، وكثير من الكتب دونت في ذلك الوقت، ثم حصل التدوين بعد ذلك.
وكان من التدوين ما هو متجه إلى تدوين الحديث دون تعرض لمسائل الفقه أو الاستدلال بالأحاديث على مسائل الفقه، كما حصل بالنسبة للكتب المؤلفة على المسانيد، كالتي ألفت على مسانيد الصحابة، فالمؤلف يذكر الصحابي، ثم يذكر ما له من الأحاديث من غير أن يلاحظ فيها أبوابها ودلالتها، وإنما يذكر أحاديث كل صحابي على حدة، فيأتي إلى أبي بكر فيورد ما له من الأحاديث، ثم يأتي إلى عمر فيورد ما له من الأحاديث، وهكذا، فهذا تدوين للسنة من غير تعرض لمسائل الفقه.
وهناك تدوين على النحو الآخر، وهو الذي جمع بين الرواية والدراية، أي: بين الفقه والحديث، مثل صحيح البخاري، فإن البخاري جمع فيه بين الفقه والحديث، فهو كتاب رواية ودراية.
وهذا الفقه يتمثل في تراجم الأبواب التي يعقدها، ثم يورد الأحاديث مستدلًا بها على ما ترجم به، وأحيانًا تكون دلالة الترجمة على الحديث ودلالة الحديث على الترجمة خفية ودقيقة، لا يدركها كل واحد، وهذا دليل على دقة البخاري في فهمه، وجودة فقهه ﵀، وقد قال بعض العلماء: فقه البخاري في تراجم صحيحه، ولهذا ألفت مؤلفات خاصة في تراجم الصحيح، فهو يذكر الترجمة وكيف يطابق الحديث الترجمة.
بل إن هذه الغاية -التي هي العناية بالفقه- هي التي جعلت البخاري يفرق الأحاديث على الكتب والأبواب في أماكن مختلفة، أي: من أجل الاستدلال على ما يريده؛ ولكنه إذا أورد الحديث مكررًا لا يورده بنفس الإسناد أو بنفس المتن، بل يكون هناك شيء من الفرق، فيورده -مثلًا- في موضع عن شيخ، ثم يورده في موضع آخر عن شيخ آخر، فتجد أنه عندما يذكر الحديث في أماكن متعددة يأتي بفوائد جديدة غير الفوائد التي كانت موجودة في الموضع الأول، فيكون قد جمع بين تعداد الطرق وتنوعها وتكررها، وبين دلالتها على مسائل الفقه المختلفة.
وهذا المقصد الذي قصده جعل البخاري أحيانًا يورد الحديث في مكان خفي، وما كلٌ يتفطن أن الحديث موجود في صحيح البخاري، بل إن بعض العلماء ينفي أن يكون الحديث في البخاري، فيقول: هذا الحديث ليس في البخاري، والسبب في هذا أنه يبحث عنه في مكان يظن أنه مظنته، والبخاري يكون قد أورده في مكان آخر من أجل الاستدلال على مسألة دقيقة، فلا يتفطن له، وهذا ما حصل للحاكم في المستدرك، فإنه أحيانًا يقول: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه، والواقع أنه قد خرجه، وهو موجود في الصحيح، ولكن السبب أن الحاكم أحيانًا يبحث عنه في مظانه فلا يجده، ويكون البخاري قد ذكره في مكان آخر.
وأنا أضرب مثلًا من الأمثلة التي تدل على دقة فهم البخاري ﵀: فإنه في كتاب الإجارة أورد بابًا، ثم أورد تحته قطعة من حديث طويل موجود في مواضع متعددة من الصحيح، والباب الذي أورده في كتاب الإجارة هو قوله: (باب: إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد شهر أو سنة جاز، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل)، فهذا عنوان الترجمة، ومعنى هذا أن العقد إذا أبرم -مثلًا- في شهر شوال على أن التنفيذ يبدأ في محرم فإنه جائز، يعني: أن الإنسان إذا عقد هل يلزمه أن يبدأ العمل بعد العقد مباشرة أم لا؟ هذه المسألة خلافية بين العلماء، وهي موجودة في كتب الفقه، فمنهم من يقول: إنه لا يجوز، ومنهم من يقول: إنه يجوز؛ ولكن البخاري عقد هذه الترجمة وأورد تحتها قطعة من حديث الهجرة الطويل، الذي فيه أن الرسول ﷺ أخذ معه رجلًا من بني الديل، وهو حديث عائشة قالت: (واستأجر النبي ﷺ وأبو بكر رجلًا من بني الديل هاديًا خريتًا، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه الغار بعد ثلاث).
يعني: أن هذا العمل الذي فعله الرسول ﷺ وصاحبه أبو بكر رضي الله تعالى عنه يدل على هذه المسألة من مسائل كتاب الإجارة.
إذًا: كتاب البخاري هو كتاب حديث وكتاب فقه، وكتاب رواية وكتاب دراية.
وكذلك كتاب الموطأ؛ فإنه جمع بين الفقه والحديث، وهكذا الكتب الأربعة التي هي: سنن أبي داود، وسنن النسائي، وسنن الترمذي، وسنن ابن ماجة، فهذه الكتب الأربعة مبنية على هذا المنوال الذي هو الترجمة لموضوع من الموضوعات، ثم إيراد الأحاديث أو الحديث تحت الترجمة؛ ليبين فيه أن هذا الموضوع دل عليه هذا الحديث.
بل إن بعضهم -مثل النسائي - أكثر من التراجم في كتابه مع قلة الأحاديث فيه؛ لأن سنن النسائي أقل كتب السنن حديثًا، ولكنه مملوء بالأبواب، ومملوء بمسائل الفقه المختلفة، وأذكر مثالًا من الأمثلة التي تدل على دقة فهمه في الاستنباط: قال في أول كتاب الطهارة: (باب استياك الصائم في العشي) يعني أن الصائم يجوز له أن يستاك في العشي، فهذا الباب أتى به في كتاب الطهارة، وأورد تحت هذا الباب حديث: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وأخذ من هذا الحديث أن الاستياك للصائم بعد الزوال لا بأس به، وأنه جائز، وهذا الحديث يدل عليه؛ لأن قوله: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) يدخل فيه صلاة العصر؛ ومعلوم أن صلاة العصر في العشي، وهي داخلة ضمن الصلوات، فعلى هذا يجوز أن يستاك الإنسان عند صلاة العصر، ويستاك في العشي، ولا محذور في ذلك.
وهناك جماعة قالوا: إنه لا ينبغي له أن يستاك؛ لقوله ﵊: (لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، لكن الحديث الذي بوب عليه النسائي يدل على جوازه، وأنه لا مانع منه، وهو قوله ﵊: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، وهذا من دقة الفهم ودقة الاستنباط عند النسائي رحمه الله تعالى.
إذًا: المحدثون ﵏ عندما دونوا الكتب منهم من جمع بين الفقه والحديث، فكتبهم كتب رواية ودراية، أي: كتب حديث وكتب فقه.
1 / 9
كيفية أخذ العلم في القرن الأول
والذي كان عليه العمل في القرن الأول هو أنهم كانوا يأخذون الحديث ويعملون به، وإذا نزلت بالناس نازلة يحتاجون إلى معرفة حكمها، فمن كان عنده حديث عن رسول الله ﷺ ذكره، ومن لم يكن عنده شيء سأل الناس حتى يجد الدليل على ذلك إن وجد.
وأبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لما جاءته جدة تسأله الميراث من حفيدها، قال أبو بكر ﵁: (ليس لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله ﷺ، ولكن حتى أسأل الناس)، فسأل، فجاءه اثنان من الصحابة وأخبراه بأن الرسول ﷺ أعطاها السدس، فقضى بالسدس.
وكان الواحد منهم عندما يسأل عن مسألة من المسائل ولا يجد فيها حديثًا يفتي السائل ويقول: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه، ثم يفتيه بما ظهر له، وإذا أفتى ثم تبين له بعد ذلك الحديث عن الرسول ﷺ ترك فتواه، ورجع إلى حديث رسول الله ﵊.
فكان المعول عليه هو الدليل من الكتاب والسنة، وهذا هو الذي كان عليه الناس في القرن الأول، فمن كان عنده علم عن الرسول ﷺ يعمل به، والذي لا يكون عنده علم يسأل من عنده علم، فإذا وجده أخذ به، وإن لم يجده اجتهد وأفتى، ولهذا نقل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم في مسائل الفقه المختلفة الأقوال المتعددة، فكثيرًا من المسائل يذكر فيها رأي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وعبد الله بن مسعود، وفلان وفلان وفلان، وهكذا تذكر أقوالهم وآراؤهم في المسألة.
هكذا كان شأنهم، وقد مضى على ذلك القرن الأول، ثم مضى التابعون على هذا المنوال، حيث كان الواحد منهم يرتحل من مكان إلى مكان؛ ليحصل الحديث عن رسول الله ﷺ ليعمل به، وكان بعضهم يسأل بعضًا عما يحصله من الأحاديث عن الرسول ﵊.
ومن الأمثلة: أن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ولما قال: أنا انقدح في ذهنه أنه قد يظن أنه رآه لأنه كان قائمًا يصلي، فخشي أن يظن أنه مشتغل بالعبادة، وهو ليس متلبسًا بهذه العبادة، فبادر ونفى عن نفسه أن يظن أنه عمل شيئًا وهو ما عمله؛ لأنهم كانوا لا يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فقال: أما إني لم أكن في صلاة؛ ولكني لدغت، يعني: أن السبب الذي كنت مستيقظًا لأجله ورأيت الكوكب الذي انقض البارحة: أني كنت لديغًا.
فقال له: فماذا صنعت؟ قال: قلت: ارتقيت، يعني: بحثت عن أحد لينفث عليَّ رقية، فقال: ما حملك على هذا؟ يعني: ما هو الدليل على أنك ارتقيت؟ فأجابه بالحديث الذي بلغه في ذلك، وهو قوله ﵊: (لا رقية إلا من عين أو حمة).
فماذا قال له سعيد بن جبير؟ قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
يعني: من انتهى إلى ما بلغه عن الرسول ﵊ فقد أحسن، ثم أرشده إلى شيء أولى وأكمل وأفضل، فقال: ولكن حدثنا ابن عباس وذكر حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وذكر من صفاتهم: (أنهم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون).
فكان بعضهم يسأل بعضًا عن العمل الذي عمل، وما الذي حمله على أن يعمل به؟ فيبين الدليل الذي بلغه عن رسول الله ﵊.
فـ سعيد بن جبير كان يرى أن الأولى خلاف هذا الشيء، وهو الأخذ بما هو الأكمل والأولى، وهو أن يكون الإنسان على طريقة السبعين ألفًا، ولذا قال: قد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
وهذه كلمة من أجمل الكلام وأحسنه، وهي أن الإنسان إذا عمل بالدليل الذي بلغه عن رسول الله ﷺ فهو محسن، وهو مأجور، وهو على خير.
1 / 10
ذكر المشهورين في الفقه والفتوى من الصحابة والتابعين ومن بعدهم
وكان في الصحابة من هو مشهور بالفقه وبالفتوى، وكان في التابعين فقهاء المدينة السبعة المشهورون الذين كانوا في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الذي يليه، وهكذا كان بعدهم أمم كثيرة، وكلهم كان عندهم العناية بالفقه، وكان عندهم الجمع بين الفقه والحديث، وهذا بخلاف ما كان عليه القرن الأول، وهو أنهم كانوا يعملون بما جاءهم عن رسول الله ﵊.
والإمام أبو حنيفة ﵀ ولد سنة ثمانين من الهجرة، والإمام مالك ولد بعد التسعين، وتوفي الإمام أبو حنيفة ﵀ سنة مائة وخمسين، وتوفي الإمام مالك سنة مائة وتسعة وستين.
والشافعي ولد في السنة التي مات فيها أبو حنيفة، وتوفي سنة مائتين وأربع، والإمام أحمد توفي سنة مائتين وواحد وأربعين، وكانوا كغيرهم من علماء السلف، فكل واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم كان يحرص على حديث رسول الله ﵊، ويبحث عن حديث رسول الله ﵊، وكان بعضهم يتلقى عن بعض، يعني: هؤلاء الأئمة الثلاثة الذين هم: مالك والشافعي وأحمد كل متأخر منهم روى عن الذي قبله، وكل واحد منهم شيخ للذي بعده؛ فالإمام الشافعي روى عن الإمام مالك، والإمام أحمد روى عن الإمام الشافعي، وكان الشافعي ﵀ مع أنه شيخ الإمام أحمد يقول له: إذا صح عندكم الحديث يا أبا عبد الله! فأعلمونا به حتى نعمل به.
روى ذلك الطبراني عن عبد الله بن الإمام أحمد عن الإمام أحمد: أن الشافعي ﵀ كان يقول هذا الكلام.
وذلك لأنه ليس هناك أحد يحيط بحديث رسول الله ﵊؛ لأن الصحابة ﵃ كانوا يأتون في مناسبات مختلفة، وقد يأتي الشخص في مناسبة من المناسبات وليس عند الرسول ﷺ أحد غيره، أو يكون عنده النفر القليل، ثم الصحابة تفرقوا في الآفاق، وذهبوا يمينًا وشمالًا، وكلٌ كان من عنده علم من رسول الله ﵊، وعلى هذا فلا أحد يستوعب كل ما جاء عن الرسول ﷺ، بحيث لم يفته حديث واحد عن الرسول ﷺ، وما ادعى هذا أحد من الأئمة، ولا يجوز أن يدعى له.
وقد روى الإمام أحمد في المسند حديثًا عن الإمام الشافعي، والإمام الشافعي رواه عن الإمام مالك، وهو حديث: (نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة)، فهذا الحديث في سنده ثلاثة من الأئمة أصحاب المذاهب المعروفة، وقد أورده الحافظ ابن كثير ﵀ في تفسيره عند قوله ﷾: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران:١٦٩] وقال: هذا حديث عزيز؛ في إسناده ثلاثة من الأئمة أصحاب المذاهب المشهورة المتبعة.
إذًا: عرفنا أن القرن الأول مضى على هذا المنوال، وهو البحث عن الدليل والعمل به، ومن لم يكن عنده علم استفتى من عنده علم، ثم يعمل بما بلغه، وعلى هذا المنوال كان التابعون وأتباعهم ومنهم الأئمة الأربعة، وغيرهم ممن قبلهم وفي زمانهم ومن هو بعدهم، فنجد في كتب الفقه وفي كتب الحديث وفي كتب التفسير النقول الكثيرة عن الفقهاء الكثيرين في مختلف القرون وفي مختلف الأعصار، من زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.
1 / 11
تحريم التقليد ووجوب اتباع الدليل
والأئمة الأربعة حصل لهم تلاميذ، عنوا بجمع أقوالهم، ولكنهم ما قلدوهم، وما التزموا بما جاء عنهم في كل شيء، بل كانوا يدونون أقوالهم، ويوافقون منها على ما يرونه موافقًا للدليل، ويخالفونهم فيما يرونه على خلاف الحديث الذي ورد عن الرسول ﵊.
ومعلوم أن أبا يوسف ومحمدًا خالفا أبا حنيفة في كثير من المسائل، ومعلوم أن كثيرًا من أصحاب الشافعي هم على خلاف قوله، وكذلك أصحاب الإمام مالك كثير منهم كان على خلاف قوله، وكذلك الإمام أحمد كثير منهم على خلاف قوله؛ لأن المعول عليه إنما هو الدليل، ولكن دونوا هذا التدليل لمسائل الفقه؛ ليعرف ما عندهم من الفقه، ويرجع إليه، وليستفاد منه فيما إذا كان ليس هناك دليل على خلافه، أما إذا كان الدليل موجودًا على خلاف قول الإمام، فإنهم يعملون بما جاء به الدليل؛ لأن هذا هو الواجب؛ فإن الواجب على الأمة هو اتباع الدليل من الكتاب والسنة.
إذًا: الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أتباعهم دونوا فقههم، ولكن تلاميذهم ومن كان في عصرهم ومن بعد عصرهم بقليل ما كانوا يقلدونهم، والتقليد إنما جاء بعدهم، أعني: أن التقليد الأعمى الذي هو التزام المذهب بحيث لا يخرج عنه، ولو كان الدليل على خلافه، هذا ما وجد إلا في القرن الرابع، كما قال ذلك العلماء، ومنهم ابن عبد البر ﵀.
فإذًا: الأئمة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم هم كغيرهم من أئمة المسلمين، بذلوا جهدهم في تحصيل الحق والهدى، واجتهدوا، وكل واحد من المجتهدين -الأئمة الأربعة وغيرهم- ليس معصومًا من الخطأ، وليس هناك أحد معصوم بعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فالمعصوم هو رسول الله ﵊، وأما من بعده من الصحابة ومن بعدهم فلا عصمة لأحد بعد رسول الله ﵊، فكانوا يبحثون عن الدليل؛ لأن فيه العصمة، وكانوا إذا قالوا بالرأي ووجد الدليل على خلافه تركوا الرأي وذهبوا إلى الدليل؛ لأن هذا مقتضى التكليف، وهذا مقتضى التشريع؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله ﷺ ليتبع، وليسار على نهجه.
وقد جاء الأمر بذلك في آيات كثيرة: يقول الله ﷾ في كتابه العزيز: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء:٦٥]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر:٧]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب:٣٦]، فلا خيار مع حكم الله ورسوله ﵇، ويقول الله سبحانه: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [النساء:٥٩]، ويقول سبحانه: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى:١٠]، ويقول سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور:٦٣] يقول الإمام أحمد: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ؛ فيهلك.
لأن قول الرسول ﷺ لا يرد، بل يجب أن يتبع، وهذا مقتضى شهادة أن محمدًا رسول الله؛ لأن شهادة أن محمدًا رسول الله ليست كلامًا يقال على الألسنة فقط، بل لها مدلول لابد من وجوده لتحقيق هذه الشهادة، وقد لخص هذا المدلول أحد علماء المسلمين فقال: طاعته ﷺ فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع.
فيصدق العبد بكل خبر يخبر به ﵊، سواء كان ماضيًا أو مستقبلًا أو موجودًا لا نشاهده ولا نعاينه، فكل ما ثبت عن رسوله ﷺ من خبر فالواجب علينا التصديق، وهذا معنى شهادتنا بأن محمدًا رسول الله، فإذا أمر فيجب السمع والطاعة، وإذا نهى فيجب السمع والطاعة، ولا يجوز لنا أن نتعبد الله بعبادات محدثة ما شرعها رسول الله، بل لابد من طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يعبد الله إلا بما شرع، وهذا هو معنى أشهد أن محمدًا رسول الله.
والإنسان في قبره لا يسأل إلا عن ربه، وعن رسوله ﵊.
فإذًا: طاعة الله وطاعة الرسول ﷺ لازمة ومتعينة، ولا خيار فيها، والواجب إنما هو الاستسلام والانقياد، وهذا هو معنى كون الإنسان مسلمًا؛ لأن المسلم هو المستسلم المنقاد لله، طبقًا لما جاء عن رسوله ﵊.
إذًا: عرفنا أن الحق إنما هو العمل بما كان عليه القرن الأول، فالذي كان عليه القرن الأول هو الذي كان عليه الناس في القرن الثاني، وهو الذي كان عليه الناس في القرن الثالث، وهو الذي يجب أن يكون الناس عليه إلى يوم الدين؛ لأن القرن الأول هم خير القرون، وقد كان طريقهم في العمل، وطريقهم في التلقي هو البحث عن الدليل.
إذًا: هذا الذي كان في القرن الأول هو الواجب أن يكون في كل زمان ومكان.
1 / 12
وجوب احترام العلماء وتقديرهم
وأما ما هو الموقف من المذاهب الأربعة وغير الأربعة من الأشياء التي دونت، كفقه أبي بكر الصديق ﵁، وفقه عمر بن الخطاب ﵁، وفقه عثمان، وفقه علي، وغيرهم من الصحابة الذين دون فقههم، وكذلك فقه إبراهيم النخعي، وفقه سعيد بن المسيب، وفقه سعيد بن جبير، وفقه النخعي، وفقه فلان وفلان، ما هو الواجب تجاههم؟ ف
الجواب
الذي علينا بالنسبة للأئمة الأربعة وبالنسبة لغير الأئمة الأربعة أننا نجلهم، ونحترمهم، ونقدرهم، ونعرف أنهم من خيار علماء المسلمين، وأن كل واحد منهم اجتهد وبذل وسعه في البحث عن الحق، وأن كل واحد منهم لا يعدم أجرًا أو أجرين؛ فإن وفق للصواب فهو صاحب أجرين: أجر لاجتهاده، وأجر لإصابته، وإن لم يوفق للصواب في مسألة معينة فإنه مأجور على اجتهاده، وخطؤه مغفور، كما قال ﵊ في الحديث الصحيح: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد).
إذًا: الأئمة الأربعة هم كغيرهم من الأئمة، أي أنهم أئمة مجتهدون بذلوا وسعهم في الأخذ بالدليل والعناية بالدليل، وأن كل واحد منهم لا يعدم أجرًا أو أجرين، وهذا هو الذي يجب اعتقاده في حق أئمة المسلمين، ولا يجوز الغلو ولا الجفاء؛ فالحق وسط بين الإفراط والتفريط، ولا يجوز لأحد أن يقول: أنا ألتزم مذهب هذا الإمام، وأتابعه في كل مسألة من المسائل، ولا أخرج عنه، سواء كان هناك دليل عن الرسول أو لا؛ لأني ليس عندي القدرة على معرفة الحق، فأنا أتعبد الله وفقًا لمذهب معين، فهذا غلو، وهذا يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله ﵊، ويخالف ما جاء عن الأئمة أنفسهم والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
1 / 13
معاوية بين المتعسفين والمنصفين
إن الله ﷿ قد اصطفى خير خلقه ليكون خاتم الرسل إلى خير أمة، واصطفى من خير هذه الأمة صحابة له لمؤازرته ونصرته ونشر دين الله في الأرض، فأبلوا بلاءً حسنًا، وبذلوا النفوس والأموال، وجاهدوا وصبروا، حتى أكمل الله الدين وأتم النعمة، وظهر الحق واندحر الباطل، ومن هؤلاء الصحابة معاوية ﵁.
ففضلهم على من بعدهم عظيم، وقدرهم عند الله كبير، فقد بشرهم بالجنة والرضوان وبالمغفرة، وهم ليسوا معصومين، ولا عن الخطأ منزهين، لكن خطأهم مغفور، وسيئاتهم غارقة في بحور حسناتهم، لما لهم من سابقة حسنة وقدم صدق، وما علينا إلا الترضي عليهم، وإحسان الظن بهم، والدعاء لهم، ومعرفة حقهم وفضلهم، حتى يجمعنا الله بهم إن شاء الله في الجنة، إنه جواد كريم.
2 / 1
خطر الطعن في الصحابة رضوان الله عليهم
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:١ - ٧] آمين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم وارض عن الصحابة أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم بمنّك وكرمك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًاّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
سيكون الحديث بعنوان: (معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما بين المنصفين والمتعسفين) ولن يكون الحديث عن نسبه وحياته وحديثه وما إلى ذلك مما يتعلق به، وإنما سيكون مقصورًا على ناحية معينة، وهي كلام أهل الإنصاف فيه، الذين وفقهم الله ﷾ لأن يسلكوا المسلك القويم، وأن يتكلموا فيه بما يليق به دون أن يقعوا فيما وقع فيه أناس لم يحالفهم التوفيق، ولم يحصل لهم ما يكون فيه سلامتهم ونجاتهم وسعادتهم.
معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه هو أحد الصحابة الذين أكرمهم الله بصحبة نبيه محمد ﷺ، وكل كلام يقال في الصحابة -فيما يتعلق بفضلهم وما يجب لهم عمومًا- فإن معاوية رضي الله تعالى عنه يدخل في ذلك، ولهم فيه كلام يخصه ويتعلق به مما ينبغي أن يوصف به وأن يتكلم فيه بالنسبة له رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
والكلام الآتي ليس لي منه إلا مجرد النقل من كتب بذل أصحابها جهودًا مشكورة في خدمة السنة النبوية، وفي بيان ما يجب للصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، فأنا سآتي بكلام عام في الصحابة جميعًا -ويدخل فيهم معاوية بن أبي سفيان - ثم بالكلام الخاص الذي يتعلق بـ معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه.
وقد يقول قائل: لماذا اخترت معاوية بن أبي سفيان فخصّصته بالحديث دون غيره؟ والجواب على ذلك: أن أحد التابعين قال قولة مشهورة، وهي: إن معاوية بن أبي سفيان ستر لأصحاب رسول الله ﷺ، فمن كشف الستر اجترأ على ما وراءه.
فالذي يجرؤ على أن يتكلم في معاوية ﵁ بكلام لا يليق فإنه من السهل عليه أن يتكلم في غيره، ولن يكون الأمر مقتصرًا عليه بل سيتجاوزه إلى من هو خير منه ومن هو أفضل منه، بل إلى من هو أفضل البشر بعد الأنبياء والمرسلين: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة.
وفي الحقيقة أن ما حصل لهم من كلام يليق بهم فهم أهله، وهو اللائق بهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، وهو محمدة لمن تكلم به ولمن حصل منه؛ ولهذا كان ذكر الأسلاف الذين أثنوا على الصحابة الأخيار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم مترددًا دائمًا وأبدًا على الألسنة، فيأتي كل جيل يذكر كلامهم الجميل، ويترحم عليهم، ويثنى عليهم؛ لكونهم قاموا بما يجب لأصحاب رسول الله ﷺ رضي الله تعالى عن الصحابة أجمعين.
أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فهو في الحقيقة لم يضرهم وإنما ضر نفسه، وذلك أنهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم قَدِموا على ما قَدَّموا، وقد قدموا الخير الكثير، وقدموا الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله ﷺ، فالذي يتكلم فيهم بما لا ينبغي لا يضرهم وإنما يضر نفسه، بل يكون ذلك زيادة في حسناتهم، ورفعة في درجاتهم؛ لأنه إذا تكلم فيهم بغير حق فإنهم يأخذون من حسناته إذا كان له حسنات، فيكون ذلك رفعة في درجاتهم، وإن لم يكن له حسنات فإنه (لا يضر السحاب نبح الكلاب) كما يقولون.
2 / 2
الصحابة هم الواسطة بين النبي ﷺ وبين الناس
أرسل الله ﷾ رسوله محمدًا ﷺ، وختم به الرسالات، وجعل رسالته ﷺ كاملة شاملة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد خصه الله ﷾ بأصحاب اختارهم لصحبته، فشاء أن يوجدوا في زمانه، وقد قاموا بما أمكنهم من جد واجتهاد في الجهاد معه في سبيل الله، ونشر دعوته وسنته، وتلقي ما جاء عنه ﵊، فصاروا هم الواسطة بين رسول الله ﷺ وبين من جاء بعدهم، ومن يقدح فيهم إنما يقدح في الواسطة التي تربط المسلمين برسول الله ﷺ، ويقدح في الصلة الوثيقة التي تربط الناس برسول الله ﷺ.
وهذه لهم ميزة وخصيصة، وهي أنهم اختيروا لصحبة رسول الله ﷺ، فشّرفهم الله في هذه الحياة الدنيا بالنظر إلى طلعته، وما حصل ذلك لأحد سواهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وشرفهم الله ﷾ بأن سمعوا كلامه من فمه الشريف ﷺ، فتلقوا منه الخير والنور والهدى، وأدوه إلى من بعدهم، فكل إنسان يأتي بعدهم فلهم عليه منّة، ولهم عليه فضل؛ لأن هذا الهدى والنور وهذا الخير الذي حصل لمن بعدهم لم يحصل إلا بواسطة أولئك الأخيار رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا)، فهذا الحديث الشريف لأصحاب رسول ﷺ منه القسط الأكبر والحظ الأوفر؛ وذلك لأنهم هم الذين تلقوا هذا الهدى وهذا النور من رسول الله ﷺ، وأدوه إلى من بعدهم، فكل من استفاد منه فلهم مثل أجره إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقبلهم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، الذي جاء بهذا الخير وهذا الهدى، فكل من اهتدى وكل من استفاد وكل من دخل في دين الله وعمل صالحًا فإن الله يثيب نبيه ﷺ بمثل ما يثيب به ذلك العامل، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء؛ لأن الرسول ﷺ هو الذي دعا الناس إلى هذا الهدى، فله مثل أجور من استفاد خيرًا بسببه صلوات الله وسلامه عليه.
وأصحاب رسول الله ﷺ هم الذين تلقوا هذا الهدى، فهم الذين جمعوا القرآن، وهم الذين حفظوه، وهم الذين أوصلوه إلى من بعدهم، وهم الذين تلقوا سنة رسول الله ﷺ حتى أدوها إلى من بعدهم، فصار لهم الثواب الجزيل، والأجر العظيم، ولهم الحظ الأوفر من دعوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الصحيح الذي قال فيه: (نضّر الله امرأً سمع مقالتي، فوعاها وأداها كما سمعها)، فإنهم هم الذين سمعوا منه مباشرة وبدون واسطة، وهذه خصيصة حصلت لهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
إذًا: هؤلاء الأخيار وهؤلاء الأسلاف هم الصلة الوثيقة التي تربطنا برسول الله ﷺ، ومن قدح فيهم؛ فقد قطع الصلة بينه وبين رسول الله ﷺ، وكفى بذلك ضلالًا وخذلانًا والعياذ بالله!
2 / 3
أقوال العلماء في الصحابة ﵃
بعد هذا أذكر بعض النقول التي تكلم بها سلف هذه الأمة في حق صحابة رسول الله ﷺ عمومًا، ويدخل فيهم معاوية رضي الله تعالى عنه، وكذلك ما تكلموا به في حق معاوية رضي الله تعالى عنه على وجه الخصوص.
يقول الطحاوي في عقيدته المشهورة: (ونحب أصحاب رسول الله ﷺ، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).
وقال شارح الطحاوية: (فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين، بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة، قيل لليهود: من خير أهل ملّتكم؟ قالوا: أصحاب موسى.
وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى.
وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ فقالوا: أصحاب محمد! ولم يستثنوا منهم إلا القليل، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة).
وقال البغوي في شرح السنة: (قال مالك: من يبغض أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ وكان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ قوله ﷾: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ [الحشر:٧] إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ [الحشر:١٠] الآية.
وذُكر بين يديه رجل ينتقص أصحاب رسول الله ﷺ فقرأ مالك هذه الآية: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [الفتح:٢٩] إلى قوله: ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح:٢٩]، ثم قال: من أصبح من الناس في قلبه غل على أحد من أصحاب النبي ﷺ فقد أصابته هذه الآية).
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:١٠] قال الشوكاني بعد أن فسّر الذين جاءوا من بعدهم -أي: بعد المهاجرين والأنصار- بأنهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين: (أمرهم الله سبحانه بعد الاستغفار للمهاجرين والأنصار أن يطلبوا من الله سبحانه أن ينزع من قلوبهم الغل للذين آمنوا على الإطلاق، فيدخل في ذلك الصحابة دخولًا أوليًا؛ لكونهم أشرف المؤمنين، ولكون السياق فيهم، فمن لم يستغفر للصحابة على العموم، ويطلب رضوان الله لهم؛ فقد خالف ما أمره الله به في هذه الآية، فإن وجد في قلبه غّلًا لهم فقد أصابه نزغ من الشيطان، وحل به نصيب وافر من عصيان الله، بعداوة أوليائه وخير أمة نبيه ﷺ، وانفتح له باب من الخذلان يفد به على نار جهنم إن لم يتدارك نفسه باللجأ إلى الله سبحانه، والاستغاثة به بأن ينزع من قلبه ما طرقه من الغل لخير القرون وأشرف هذه الأمة.
فإن جاوز ما يجده من الغل إلى شتم أحد منهم فقد انقاد للشيطان بالزمام، ووقع في غضب الله وسخطه، وهذا الداء العضال إنما يصاب به من ابتلي بمعلّم من الرافضة أو صاحب أحدًا من أعداء خير الأمة، الذين تلاعب بهم الشيطان، وزين لهم الأكاذيب المختلقة، والأقاصيص المفتراة، والخرافات الموضوعة، وصرفهم عن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وعن سنة رسوله ﷺ المنقولة إلينا بروايات الأئمة الكبار في كل عصر من العصور، فاشتروا الضلالة بالهدى، واستبدلوا الخسران العظيم بالربح الوافر.
وما زال الشيطان الرجيم ينقلهم من منزلة إلى منزلة ومن رتبة إلى رتبة حتى صاروا أعداء كتاب الله ورسوله وخير أمته، وصالحي عباده وسائر المؤمنين، وأهملوا فرائض الله، وهجروا شعائر الدين، وسعوا في كيد الإسلام وأهله كل السعي، ورموا الدين وأهله بكل حجر ومدر، والله من ورائهم محيط).
هذا ما قاله الشوكاني ﵀ في تفسيره عند هذه الآية.
ثم قال: (أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: الناس على ثلاث منازل، قد مضت منزلتان، وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه: أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، ثم قرأ: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ [الحشر:١٠] الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في (المصاحف) وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (أُمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي ﷺ فسبوهم) ثم قرأت هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر:١٠]).
قلت: وقد أخرج مسلم ﵀ في أواخر صحيحه هذا الحديث بدون تلاوة الآية.
وقال النووي في شرحه: (قال القاضي: الظاهر أنها قالت هذا عندما سمعت أهل مصر يقولون في عثمان ما قالوا، وأهل الشام يقولون في علي ما قالوا، والحرورية في الجميع ما قالوا.
وأما الأمر بالاستغفار الذي أشارت إليه فهو قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ﴾ [الحشر:١٠]، وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ لأن الله تعالى إنما جعله لمن جاء بعدهم ممن يستغفر لهم، والله تعالى أعلم).
ا.
هـ وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلًا وهو يتناول بعض المهاجرين، فقرأ عليه: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ [الحشر:٨] الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفأنت منهم؟ قال: لا.
ثم قرأ عليه: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾ [الحشر:٩] الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا.
ثم قرأ عليه: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر:١٠] الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو.
قال: ليس من هؤلاء من سب هؤلاء.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب السنة: (ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله ﷺ كلهم أجمعين، والكف عن الذي جرى بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله ﷺ أو واحدًا منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة).
وقال: (لا يجوز لأحد أن يذكر شيئًا من مساوئهم، ولا يطعن في أحد منهم، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ثم يستتيبه، فإن تاب قُبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلّده في الحبس حتى يتوب ويراجع).
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث: (ويرون الكف عما شجر بين أصحاب رسول الله ﷺ، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبًا لهم أو نقصًا فيهم، ويرون الترحم على جميعهم، والموالاة لكافتهم).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله ﷺ كما وصفهم الله في قوله: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:١٠]، وطاعة للنبي ﷺ في قوله: (لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) إلى أن قال: ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول وعمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم: منها ما هو كاذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُير عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون.
وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم -إن صدر- حتى إنه يُغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله ﷺ أنهم خير القرون، وأن المُدّ من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم.
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد ﷺ الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفّر عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور.
ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة، والنصرة، والعلم النافع والعمل الصالح.
ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِمَ يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا ي
2 / 4
أقوال العلماء في معاوية ﵁
هذه طائفة من أقوال المنصفين في معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه.
قال الموفق ابن قدامة المقدسي في لمعة الاعتقاد: (ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم).
وقال شارح الطحاوية: (وأول ملوك المسلمين معاوية، وهو خير ملوك المسلمين).
وقال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: (أمير المؤمنين، ملك الإسلام).
وروى البيهقي عن الإمام أحمد أنه قال: (الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
فقيل له: فـ معاوية؟ قال: لم يكن أحد أحق بالخلافة في زمان علي من علي، ورحم الله معاوية!).
وروى ابن أبي الدنيا بسنده إلى عمر بن عبد العزيز قال: (رأيت رسول الله ﷺ في المنام وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمت عليه وجلست، فبينا أنا جالس إذ أتي بـ علي ومعاوية، فأدخلا بيتًا وأجيف الباب وأنا أنظر، فما كان بأسرع من أن خرج علي وهو يقول: قُضي لي ورب الكعبة، ثم ما كان بأسرع من أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة!).
وروى ابن عساكر عن أبي زرعة الرازي أنه قال له رجل: إني أبغض معاوية.
فقال له: ولِمَ؟ قال: لأنه قاتل عليًا.
فقال له أبو زرعة: (ويحك! إن ربّ معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فإيش دخولك أنت بينهما رضي الله تعالى عنهما؟!).
وسئل الإمام أحمد عما جرى بين علي ومعاوية فقرأ: ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة:١٣٤]، وكذا قال غير واحد من السلف.
وسئل ابن المبارك عن معاوية فقال: (ما أقول في رجل قال رسول الله ﷺ: سمع الله لمن حمده، فقال معاوية خلفه: ربنا ولك والحمد).
ومعلوم أن (سمع) بمعنى: استجاب، ومعاوية حصل له هذا الفضل، وهو الصلاة خلف رسول الله ﷺ، والرسول ﷺ قال وهو يصلي: سمع الله لمن حمده، ومعاوية ﵁ ممن كان يصلي وراءه ويقول: ربنا ولك الحمد.
فقيل له -أي ابن المبارك -: (أيهما أفضل: هو أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: لتراب في منخري معاوية مع رسول الله ﷺ خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز).
وسئل المعافى بن عمران: (أيهما أفضل: معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟ فغضب، وقال للسائل: أتجعل رجلًا من الصحابة مثل رجل من التابعين؟! معاوية صاحبه وصهره، وكاتبه وأمينه على وحي الله).
وقال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل تنقص معاوية وعمرو بن العاص أيقال له: رافضي؟ فقال: (إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحد أحدًا من الصحابة إلا وله داخلة سوء).
وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنسانًا قط إلا إنسانًا شتم معاوية فإنه ضربه أسواطًا.
وقال أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي: (معاوية ستر لأصحاب محمد ﷺ، فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه).
وقد عقد الإمام البخاري ﵀ في كتاب فضائل الصحابة من صحيحه بابًا، قال فيه: باب ذكر معاوية رضي الله تعالى عنه.
وأورد فيه ثلاثة أحاديث: أحدها: عن ابن أبي مليكة قال: أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، فأتى ابن عباس فسأله فقال: دعه فإنه قد صحب رسول الله ﷺ.
وثانيها: عن ابن أبي مليكة: قيل لـ ابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: إنه فقيه.
وثالثها: عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال: (إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا النبي ﷺ فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنها) يعني: الركعتين بعد العصر.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه: (عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله: (ذِكْر) ولم يقل: فضيلة، ولا منقبة؛ لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، إلا أن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير.
وقد صنف ابن أبي عاصم جزءًا في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب، وأبو بكر النقاش، وأورد ابن الجوزي في الموضوعات بعض الأحاديث التي ذكروها، ثم ساق عن إسحاق بن راهويه أنه قال: لم يصح في فضائل معاوية شيء.
فهذه النكتة في عدول البخاري عن التصريح بلفظ منقبة اعتمادًا على قول شيخه، لكنه بدقيق نظره استنبط ما يدفع به رءوس الروافض.
وورد في صحيح مسلم أن رسول الله ﷺ قال في معاوية: (لا أشبع الله بطنه).
فروى بسنده إلى ابن عباس قال: (كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله ﷺ، فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة -يعني: ضرب بيده بين كتفي- وقال: اذهب وادع لي معاوية، قال: فجئت فقلت: هو يأكل.
ثم قال: اذهب فادع لي معاوية.
قال: فجئت فقلت: هو يأكل.
قال: لا أشبع الله بطنه).
وقد ختم مسلم ﵀ بهذا الحديث الأحاديث الواردة في دعاء النبي ﷺ أن يجعل ما صدر منه من سب ودعاء على أحد ليس هو أهلًا لذلك أن يجعله له زكاة وأجرًا ورحمة، وذلك كقوله: (تربت يمينك) (ثكلتك أمك) (عقرى حلقى) (لا كبرت سنك)، فقد أورد في صحيحه عدة أحاديث أحدها هذا الحديث، وقبله حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: (كانت عند أم سليم يتيمة - وأم سليم هي أم أنس - فرآها رسول الله ﷺ، فقال: أأنت هي؟! لقد كبرت لا كبر سنك.
فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكي، فقالت أم سليم: مالك يا بنية؟ قالت الجارية: دعا علي النبي ﷺ ألاّ يكبر سني أبدًا.
أو قالت: قرني.
فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله ﷺ، فقال لها رسول الله ﷺ: مالك يا أم سليم؟ قالت: يا رسول الله! أدعوت على يتيمتي؟ قال: وما ذاك يا أم سليم؟! قالت: زَعَمت أنك دعوت ألا يكبر سنها ولا يكبر قرنها.
قال: فضحك رسول الله ﷺ، ثم قال: يا أم سليم! أما تعلمين أني اشترطت على ربي فقلت: إنما أنا بشر، أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل، أن يجعلها له طهورًا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة).
وعَقِبَ هذا الحديث مباشرة أورد مسلم ﵀ الحديث الذي قال رسول الله ﷺ في معاوية: (لا أشبع الله بطنه)، وهذا من حسن صنيع مسلم ﵀، وجودة ترتيبه لصحيحه، وهو من دقيق فهمه، وحسن استنباطه ﵀.
وقد قال النووي ﵀ في شرحه: وقد فهم مسلم ﵀ من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقًا للدعاء عليه، فلهذا أدخله في هذا الباب، وجعله غيره من مناقب معاوية -يعني: وجعله غير مسلم من مناقب معاوية - لأنه في الحقيقة يصير دعاء له).
2 / 5
كلام الذهبي عما جرى بين علي ومعاوية ﵄
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء في الذي جرى بين معاوية وعلي رضي الله تعالى عنهما: (وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلونه، إما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء، وإما قد ولدوا في الشام على حبه، وتربى أولادهم على ذلك، وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة، وعدد كثير من التابعين والفضلاء، وحاربوا معه أهل العراق، ونشئوا على النصب -نعوذ بالله من الهوى- كما قد نشأ جيش علي ﵁ ورعيته إلا الخوارج منهم على حبه، والقيام معه، وبغض من بغى عليه، والتبرؤ منهم، وغلا خلق منهم في التشيع.
فبالله كيف يكون حال من نشأ في إقليم لا يكاد يشاهد فيه إلا غاليًا في الحب مفرطًا في البغض؟! ومن أين يقع له الإنصاف والاعتدال؟! فنحمد الله على العافية، الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتضح من الطرفين، وعرفنا مآخذ كل واحدة من الطائفتين، وتبصرنا فعذرنا واستغفرنا، وأحببنا باقتصاد، وترحمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطأ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علمنا ربنا: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر:١٠]، وترضينا أيضًا عمن اعتزل الفريقين: كـ سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسعيد بن زيد وخلق، وتبرأنا من الخوارج المارقين، الذين حاربوا عليًا، وكفروا الفريقين، فالخوارج كلاب النار قد مرقوا من الدين، ومع هذا فلا نقطع لهم بخلود في النار كما نقطع به لِعَبَدَة الأصنام والصلبان).
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا﴾ [الإسراء:٣٣]: (وقد أخذ الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة ولاية معاوية السلطة، وأنه سيملك؛ لأنه كان ولي عثمان، وقد قتل عثمان مظلومًا رضي الله تعالى عنه، وكان معاوية يطالب عليًا ﵁ أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم؛ لأنه أموي، وكان علي رضي الله تعالى عنه يستمهله في الأمر حتى يتمكن ويفعل ذلك، ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام، فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة، وأبى أن يبايع عليًا هو وأهل الشام، ثم مع المطاولة تمكن معاوية، وصار الأمر إليه كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة، وهذا من الأمر العجب!) انتهى كلام ابن كثير ﵀.
2 / 6
الكلام على كون حب علي آية الإيمان وبغضه آية النفاق
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبي ﷺ قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار)، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن هذا الفضل للأنصار يشاركهم فيه من كان مشاركًا في المعنى الذي من أجله حصل لهم ذلك الفضل، وهو نصرتهم لرسول الله ﷺ، ثم قال: وقد ثبت في صحيح مسلم عن علي أن النبي ﷺ قال له: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق)، وهذا جارٍ بالمراد في أعيان الصحابة لبتحقق مشترك الإكرام، لما لهم من حسن الغناء في الدين.
ثم قال: قال صاحب (المفهم): (وأما الحروب الواقعة بينهم، فإن وقع من بعضهم بغض لبعض فذاك من غير هذه الجهة، بل للأمر الطارئ الذي اقتضى المخالفة، ولذلك لم يحكم بعضهم على بعض بالنفاق، وإنما كان حالهم في ذلك حال المجتهدين في الأحكام: للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد، والله تعالى أعلم).
وقال الشيخ يحيى بن أبي بكر العامري اليمني في كتابه (الرياض المستطابة) في ترجمة أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: (ونقل السيد الإمام الشريف محمد بن إبراهيم بن المرتضى رضي الله تعالى عنه أن بغض علي إنما كان علامة النفاق في أول الإسلام؛ لأنه كان ثقيلًا على المنافقين؛ ولذلك جاء في الأنصار أن بغضهم علامة النفاق أيضًا، وحبهم وحب علي علامة الإيمان، واستدل على ذلك بأن الخوارج يبغضون عليًا ويكفرونه مع الإجماع على أنهم غير منافقين، وإن كان ذنبهم عظيمًا، ومروقهم من الإسلام منصوصًا، والباطنية يحبونه مع الإجماع على كفرهم، ثم كذلك الروافض يحبونه مع ضلالتهم وفسوقهم، وعلى كل حال فلا يصدر سب أهل السوابق من الصحابة، وتتبع عوراتهم، والتفتيش عن مثالبهم، عن ذي قلب سليم، ودين مستقيم، نسأل الله العافية والسلامة).
2 / 7