Lessons from the Migration - Attia Salem
دروس الهجرة - عطية سالم
Genre-genre
تآمر المشركين على قتل الرسول ﷺ
ثم تآمرت قريش بكاملها على الضربة الأخيرة، فقد عجزوا عن رسول الله، وبعض أصحابه قد ذهبوا إلى الحبشة، ولم يبق معهم إلا رسول الله ﷺ، فاجتمعوا في دار الندوة ليتآمروا في ذلك.
وعند اجتماعهم طُرِق عليهم الباب، فإذا بشيخ يرتدي ثياب أهل نجد فقالوا: من أنت وماذا تريد؟ قال: أنا رجل من أهل نجد، علمت باجتماعكم ولن تعدموا مني رأيًا، فسمحوا له بالدخول، وكانوايعرفون أن أهل نجد أهل رأي ومشورة، وكان هذا شيطانًا في صورة إنسان، فقال: علمت أنكم اجتمعتم من أجل محمد، قالوا: نعم، قال: ماذا عندكم؟ قال واحد منهم: نحبسه ونقيده ونتركه حتى يموت، وقال آخر: نخرجه بعيدًا عنا ونستريح منه، فإذا بهذا يقول: كل هذه آراء غير سليمة، فقال آخر: نقتله ونستريح، قال: بنو هاشم لا يتركون دمه، وإذا أنتم حبستموه فسيأتي بنو هاشم ويخلصونه، وإن أنتم أخرجتموه فبحلاوة كلامه وطلاوة لسانه سيألب الناس عليكم، ثم يعود ويغزوكم بمن معه، وإن قتلتموه قاتلتكم بنو هاشم، قالوا: ما هو الرأي عندك؟ قال: الرأي عندي أن تندبوا عشرة شباب من عشرة قبائل، ويبيتونه على باب بيته، فإذا خرج ضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، ولا تستطيع بنو هاشم أن تقاتل القبائل كلها، فإذا تفرق دمه في القبائل فسيقولون: نريد دم ولدنا، فتقولون: نحن كلنا قتلناه، فيتركون طلب القصاص، ويرضون بالدية، والدية دية واحدة، قالوا: هذا هو الرأي.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠] يثبتوك أي: يحبسوك، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ صفة المكر من حيث هي مجردة هي صفة ذم؛ ولكن عندما تقول: فلان مكر بفلان، لكن فلان كان أمكر منه، يكون هذا من المدح، أي: كان أذكى منه، وكان أقدر منه على المكر، فتصير صفة مدح للثاني؛ لأنه أبطل مكر الأول، وهنا يقول علماء الكلام وعلماء البلاغة: هذا من أسلوب المشاكلة، ولذا أجمع علماء الكلام على أنه لا يجوز أن تسمي الله بالماكر؛ لأنه قال: ﴿وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ في مقابل.
(ومكروا)، لا تقلها وحدها، بل قلها مع أختها، حتى يتبين الفرق ويتبين فيها المدح، واستدلوا بقول الشاعر شاعر: قالوا اختر طعامًا نجد لك طبخة فقلت اطبخوا لي جبة وقميصًا كان هذا الشاعر في الشتاء، فقال له قوم: نكرمك بالأكل والشرب، فكأنهم يريدون إكرامه وإظهار الجود عليه، فقالوا اختر طعامًا نجد لك طبخه، أي: اختر الطعام الذي تريد أن نطبخه لك، فقال لهم: اطبخوا لي جبة وقميصًا، والجبة والقميص لا تطبخ، ولكن هذا في مقابل قولهم: نجد لك طبخه، أي: أنتم ترون هذا البرد وتقولون: اختر طعامًا، فقوله: اطبخوا لي، وقعت بدلًا من خيطوا لي، وهو في مقابل قولهم: نجد لك طبخه، وهنا قال الله: ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾، فهذه صفة جلال وكمال لله؛ لأنه أبطل مكر الآخرين.
اتفق المشركون على ذلك، فماذا كانت النتيجة؟ رب العزة لم يتخل عن رسوله، وجاء جبريل إلى الرسول ﷺ قال له: (لا تبت في فراشك الليلة) وجعل رسول الله ﷺ عليًا ينام مكانه، وخرج ﷺ تحت ظلال تلك السيوف، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ﴾ [يس:٩]، وكانوا عشرة قد ألقى الله عليهم النعاس، وكانوا واقفين مستندين على الجدران، والسيوف في أيديهم، فمر من أمامهم ولم يره أحد منهم، ولم يخرج ويتركهم في حالهم، بل أخذ التراب من تحت أقدامهم وجعله على رءوسهم، زيادة في إذلالهم، واعتزازًا بدين الله، وبتأييد الله له.
إن إيذاء المشركين للمسلمين جعلهم يهاجرون، والإيذاء كما وقع على أفراد المسلمين، كذلك وقع على رسول الله ﷺ، وكان آخر ذلك الإيذاء التآمر على قتله! لم تكن الهجرة هروبًا بدون موجب، ولا خروجًا بدون صبر، بل تحملوا وصبروا إلى أقصى ما يمكن، عثمان بن مظعون الذي قال: إن عيني السليمة في حاجة إلى ضربة مثل الثانية، هل يوجد صبر أكثر من هذا؟ وآخر يطرح في الصحراء في الرمل الحار وتوضع الصخرة عليه ليرجع عن الدين فيقول: (أحد، أحد و) أم عمار تُغرّق في الماء وتعذب، ثم تقتل بالحربة بطعنة في فرجها! فصبروا إلى ما لا نهاية، وبعد هذا جاء الفرج.
إذًا: الهجرة من سنن الأنبياء، ونحن لماذا نشرح السيرة بهذا الأسلوب؟ أنا أرجو أن يكون هذا الأسلوب أخف ما يكون لطلبة العلم، وعامة لكل الحاضرين والمستمعين؛ لأن الهجرة ليست مجرد أرقام، أو سرد أحداث، أو مجرد وقت نمضيه، بل في كل جانب من جوانبها دروس وعبر، وسبق أن كتبنا في الثمانينات معالم على طريق الهجرة، وذكرنا في كل خطوة منها معلمًا إسلاميًا للدعوة، وعرفنا أن الهجرة من سنن الأنبياء، وعرفنا أن الهجرة سببها الإيذاء، وإذا كان المسلم يعيش في جو إيذاء وإرهاب فهل يستطيع أن يؤدي عبادة الله؟ لا يقدر، إذًا: عليه أن يطلب موطنًا آخر يمكن أن يؤدي فيه حق الله بطمأنينة.
3 / 16