Duroos li al-Shaykh Abdul Rahman Al-Mahmoud
دروس للشيخ عبد الرحمن المحمود
Genre-genre
أثر التوحيد
التوحيد هو ذلك العقد المتين الذي إذا وقر في قلب المسلم انبعث نوره في جميع الجوارح، فصار العبد متحررًا من عبودية النفس والهوى والشيطان والدنيا، وكان عبدًا خالصًا لله ﵎، فتسلم أعماله فما ينقصها أو ينقصها، وينشرح صدره بما قدر له وعليه في هذه الدنيا، وتعلوه السكينة والوقار.
وقد جعل الله التوحيد أصل الدين، فلا قيام للدين بدون توحيد، ولا فلاح ولا نجاح في الدنيا والآخرة مع غياب التوحيد، وبه ينجو الفرد والمجتمع من عذاب الله وأليم عقابه.
1 / 1
بيان معنى التوحيد المطلوب من العبد
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فلا شك أن الدروس التي تنظم عددًا من الجمل في قضية مهمة مثل قضية التوحيد؛ لا شك أنها دروس لها أهميتها بالنسبة لنا وبالنسبة للمسلمين جميعًا، ومن هنا فإن الدرس التالي سنعرض فيه إن شاء الله تعالى لأثر التوحيد.
وأحب في مقدمة هذا الدرس أن أبين عدة أمور: أولها: أن التوحيد الذي نتحدث عن أثره هو ذلك التوحيد الذي جاء به رسول الله ﷺ، وجاءت به الرسل من قبله، وسلك أتباعهم رضوان الله عليهم منهاجهم، وعلى رأس أتباع الرسل صحابة محمد ﷺ، فإنهم فهموا حقيقة التوحيد، وطبقوها في حياتهم كلها، ومن ثم كان لذلك التوحيد أثر عظيم في نفوسهم وفي حياتهم، بل وفي البشرية كلها، لهذا فإن التوحيد الذي نقصده هو التوحيد على منهاج السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
فهو -أولًا- يقوم على أسس التوحيد الكبرى، توحيد الربوبية المقتضي للإيمان والإقرار بأنه لا خالق ولا موجد ولا رازق ولا مدبر لهذا الكون إلا هو ﵎، فله الخلق، وهو ﷾ بيده الرزق، وإليه يرجع الأمر كله، كما قال تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ﴾ [هود:١٢٣]، أما البشر فلا يملكون من أمورهم شيئًا، فضلًا عن أن يملكوا من أمور غيرهم شيئًا، إذًا: هو توحيد يقوم أولًا على الربوبية.
ويقوم ثانيًا على توحيد الأسماء والصفات بإثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله ﷺ، وهذه الأسماء والصفات فيها تعريف وإخبار ووصف للواحد القهار، نتعرف من خلالها على ربنا ﷾؛ لأننا في هذه الدنيا إنما نؤمن بالله وهو غيب، بل هو أعظم الغيب؛ لأننا لم نره ولن نراه في الدنيا، وإنما تكون رؤيته يوم القيامة لأهل الجنة، فأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين الفضل والرؤية لله ﷾.
لكن نعرف ربنا بأسمائه وصفاته، فنعلم أنه على العرش استوى، وأنه في العلو فوقنا، وأنه مطلع علينا عليم بنا، وأنه قريب منا، وأنه ﷾ هو العزيز الحكيم، وهو الغفور الرحيم، وهو شديد العقاب، وهو المتكبر الجبار، وهو السلام المؤمن المهيمن، فهو ﷾ له الأسماء الحسنى والصفات العليا، نثبت كل ما ثبت في كتاب الله وما صح في سنة رسوله ﷺ من ذلك.
ثم -أيضًا- هو توحيد يقوم على النوع الثالث الأساسي من التوحيد، وهو توحيد الإلهية الذي بعث الله به رسله جميعًا عليهم الصلاة والسلام، أنه لا إله إلا الله، هذه هي كلمة التوحيد، وهي رأس الأمر، وهي التي قامت عليها السماوات والأرض، بها دعا كل نبي، فكان يأتي إلى قومه المشركين يقول لهم: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف:٥٩]، يا قوم قولوا لا إله إلا الله.
وهذه الكلمة العظيمة هي الكلمة التي ثقلت في السماوات والأرض، وهي الكلمة التي رجحت بالسماوات والأرض حين وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة، فرجحت بهن لا إله إلا الله.
إذًا: هي كلمة التوحيد التي تجعل العبد يتوجه بقلبه في جميع أموره للواحد القهار، يعبده ويدعوه، ويتوجه إليه بجميع أنواع العبادة مخلصًا له ﷾، فهو سبحانه هو الذي يحب، وهو الذي يُرجى، وهو الذي يُدعى، وهو الذي يتوكل عليه وحده، وهو الذي يذبح له وينذر له وحده، وهو الذي يستغاث به في الشدائد ولا يستغاث بغيره.
هذا هو التوحيد، توحيد ينظم العبد في جميع أموره ويربطه بالواحد القهار، فيؤمن به تصديقًا، ويتوجه بقلبه وأعمال جوارحه إليه عبادة وعملًا وطاعة.
ثم أيضًا هو توحيد تنبثق منه طاعة لله ﷾؛ لأن العبادة هي ذل وخضوع للواحد القهار، والذل والخضوع لله ﵎ لا يمكن أن يتم إلا بالطاعة التامة لله وحده لا شريك له، وتكون طاعته ﵎ بامتثال شرعه، بأن لا يعبد العبد ربه ولا يطبق في شأن من شئون حياته إلا على مقتضى ما شرعه ربه ﵎ في كتابه العزيز وفي سنة رسوله ﷺ.
وبذلك تكون حياة الموحد من أولها إلى آخرها، في عباداته، وفي معاملاته، وفي أخلاقه، وفي تعامله مع أعدائه، وفي أوضاعه الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والدولية، وكل شأن من شئون الحياة؛ تكون كلها منبثقة من هذا التوحيد العظيم القائم على كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
ولهذا فإن هذا التوحيد ينبثق أول ما ينبثق من إيمان قلبي يستقر في النفس المؤمنة استقرارًا مكينًا، فيتحول هذا الإيمان وتلك الأعمال القلبية إلى أعمال الجوارح، ولهذا فإن هذه العبادة تقوم على ثلاثة أسس: الحب لله وحده، والخوف من الله وحده، والرجاء لله وحده.
حب وخوف ورجاء، شبهت بالطائر، فالحب هو الرأس، والخوف هو الجناح الأيمن، والرجاء هو الجناح الأيسر، ويطير الطائر محلقًا في السماء، وكذلك يسير القلب محلقًا إلى ربه ﷾ عابدًا له خاضعًا له خائفًا منه راجيًا، فيتعوذ به منهم ويتعوذ بمعافاته من عقوبته، ويتعوذ برضاه من سخطه، فلا ملجأ منه إلا إليه، يفر من الله ومن العقوبات ويلجأ إلى الله معلنًا التوبة منيبًا بالطاعات، هذا هو العبد بينه وبين ربه ﵎.
1 / 2
أهمية التوحيد ومثاله في قلب المؤمن
بعد أن بينا ما هو التوحيد الذي نقصده نقول ثانيًا: إن حديثنا عن أثر التوحيد لا ينبغي أن يفهم منه أن التوحيد قضية من القضايا الصغيرة أو مسألة من المسائل، فنحن نتحدث عن أثرها كما نتحدث عن أثر أمر من الأمور ونبحثه، لا والله، فإن التوحيد الذي نتحدث عنه وعن أثره هو الحياة من أولها إلى آخرها، بل هو الحياة التي تشمل الدنيا والآخرة.
ونقول ثالثًا: إن التوحيد هو أساس الإيمان، ولذلك فإن الناس يتفاوتون في هذا التوحيد، فإيمانهم وتصديقهم وعملهم وغير ذلك يتفاوتون فيه، وعلى قدر إيمانهم وتصديقهم يتفاوت أثر هذا التوحيد.
ثم نقول أيضًا: إن أثر هذا التوحيد شامل للفرد والجماعة، بل هو شامل للعالم أجمع، شامل لجميع حاجات النفس وأوضاعها الداخلية والخارجية، وهو أيضًا لا يقتصر أثره على الدنيا وإنما يمتد طويلًا ليشمل الحياة الآخرة ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ [العنكبوت:٦٤].
ثم أقول أيضًا: أيها الأخ! إن الله ﷾ شبه غرس حقيقة التوحيد في القلوب بشجرة طيبة، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم:٢٤ - ٢٥]، فالإيمان والتوحيد هو القائم على كلمة (لا إله إلا الله)، فقد قيل في تفسير قوله: (كشجرة طيبها أصلها ثابت وفرعها في السماء): إن هذه الكلمة الطيبة هي (لا إله إلا الله)، فهي أولًا تثمر هذه الكلمة الطيبة، وأعظم ثمراتها العمل الصالح، كما تثمر الشجرة الطيبة.
ثم بعد ذلك هذه الكلمة الطيبة أصيلة (أصلها ثابت)، بمعنى أنها ليست كلمة تقال باللسان، بحيث ينطقها الإنسان ولا يوقن بها ولا يقوم بأركانها وشرائطها، ولكنها كلمة مؤصلة مغروسة في تخوم الأرض، وكذلك أيضًا هذه الكلمة مغروسة في تخوم قلب العبد المؤمن، ثم بعد ذلك هي سامقة مرتفعة في السماء، يعتز صاحبها بالانتساب إليها، لا يهون ولا يلين، ولا يحس بأي ضعة أو نقص أو غير ذلك، وهو يقول صارخًا أمام العالم أجمع: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ولهذا فإن تشبيهها بتلك الشجرة يبين لنا أمرين مهمين لا بد أن يتدبرهما المؤمن: أولهما: أن الشجرة المغروسة لا بد من تعهدها بالسقي، وكذلك أيضًا هذه الكلمة الطيبة لا بد من تعهدها بالسقي، وسقيها إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح والقرب من الله تعالى، فهي كلمة تحتاج من المؤمن إلى سقي دائم وإلى مراعاة.
ثانيهما: أن هذه الشجرة يخالطها أنواع من النبات الغريب فيفسدها، فلا بد من تنقية الشجرة، وكذلك (لا إله إلا الله) تخالطها أنواع من الشركيات، يخالطها الرياء، ويخالطها التعلق بغير الله في بعض الأمور، ويخالطها نقص التوكل، ويخالطها التطير أحيانًا، فلا بد من أن يتعهدها المؤمن تعهدًا عظيمًا حتى يكون ممن سلمت كلمة التوحيد عنده وصار ممن يعتقدها ويؤمن بها، فلم يخالطها شرك أكبر ولا أصغر.
1 / 3
آثار التوحيد في حياة الفرد
1 / 4
طمأنينة قلب العبد وراحته
وبعد هذه المقدمات ننتقل إلى أثر التوحيد، ونقسم هذا الأثر إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول منها: أثره على الفرد: وأعظم أثر للتوحيد على الإنسان هو طمأنينة القلب، فهو طمأنينة القلب وغذاء الروح في هذه الحياة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: وحقيقة المرء قلبه وروحه، ولا صلاح له إلا بتوحيد ربه وعبادته وخوفه ورجائه، وفي ذلك أعظم لذة المرء وسعادته ونعيمه؛ إذ ليس في الكائنات شيء غير الله ﷿ يسكن القلب إليه، ويطمئن به، ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه، فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما دلت عليه السنة والقرآن وشهدت به الفطرة.
نعم والله، إن كل ما يتعلق براحة النفس وطمأنينة القلب وسعادة المرء وقوته وثباته وصلاح حاله، لا يمكن أن يتم إلا بأن ترتبط هذه الأمور كلها بـ (لا إله إلا الله)، وبالعبودية الحقة لله الواحد القهار، ولهذا ورد عن النبي ﷺ في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر بن العاص ﵄: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الحاكم، وحسنه الهيثمي في مجمع الزائد، وذكره الألباني في الصحيحة برقم خمسة وثمانين وخمسمائةٍ وألف.
أيها الأخ المسلم! لا ملجأ من الله إلا إليه، فطمأنينة القلب لا تكون إلا بالله، وضعف الإيمان يولد عند الإنسان ضيق الصدر، وكيف ينجو من ضيق الصدر؟ لا ينجو من ضيق الصدر إلا بالتعلق بالله ﷾، ولهذا قال ﷺ في الحديث الذي رواه مسلم عن العباس بن عبد المطلب ﵁: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا) نعم -والله- ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمحمد ﷺ رسولًا، وهل يمكن أن يذاق طعم الإيمان بغير ذلك من الدنيا بشهواتها وبملذاتها؟ لا والله، لا يمكن أن يذوق الإنسان ذلك الطعم الحقيقي إلا بهذا، ولهذا قال ﷺ في حديث أنس: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) متفق عليه.
وانظر كيف ارتبطت هذه الأمور كلها بالحب، فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ويحب المرء لا لأي شيء إلا لله، ويكره الكفر والكافرين، ويخاف من أن يقع في الكفر كما يخاف من أن يقذف في النار، وذاك لا ينشأ إلا من تحقيق كلمة التوحيد، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل ذلك.
ولهذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى يرون الدنيا تموج بأهلها وشهواتهم، فذاك متعلق بسلطانه، وهذا منقبض على شهواته، وذاك يبحث عن تجارته وأمواله، وهذا يبحث عن الشرف والشهرة، لكن أهل الإيمان قد سكنت وركنت نفوسهم إلى الواحد الديان فتعلقوا به ﵎، فعبروا عبارات تدل على الطمأنينة النفسية في قلوبهم، يقول فضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا غربت الشمس فرحت بالظلام لخلوتي بربي، وإذا طلعت حزنت لدخول الناس علي.
يفرح بالخلوة ويحزن بدخول الناس عليه، لأنه يجد لذته في الخلوة أعظم من لذته وهو عند الناس.
ويقول أحدهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال بعضهم: ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجاة.
ولهذا قال ﷺ: (وركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها).
تعالوا إلى الميزان، إذ الركعتان تؤديهما لله وحده لا شريك له، تغرسان في قلبك إيمانًا ولذة وسعادة لا يمكن أن تحصل عليها بالملايين، ولا يمكن أن يحصلها الملك، ولا يمكن أن يحصلها الشرف، ولا يمكن أن تحصلها السيارات الفارهة، ولا القصور الضخمة ولا تحصلها إلا ركعتان عبادة لله الواحد القهار.
ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه: لولا ثلاث ما أحببت الحياة، ولأحببت أن أنتقل إلى لقاء ربي.
ما هي هذه الثلاث؟ قال: (لولا أنني أحمل في سبيل الله)، يعني الجهاد في سبيل الله، فهذه الأولى.
قال: (وأضع جبهتي على الأرض).
أي: الصلاة.
فهو يفرح بكل صلاة تحضر، يرتاح ويلتذ بها، وقد كان ﷺ يقول: (أرحنا بالصلاة يا بلال).
وأما الثالثة فقال: (ومجالسة أقوام يلتقطون أطايب الكلام كما يلتقط أطايب الثمر)، أي مجالسة أهل العلم الذين يقربون العبد من الله ﷾.
فهذا هو الأثر الأول.
1 / 5
التحرر من العبودية لغير الله تعالى
الأثر الثاني بالنسبة للفرد: تخلص العبد من العبودية لغير الله تعالى، وهذه هي الحرية الحقيقية، فالحرية الحقيقية أن تكون عبدًا لله، وبضدها تتميز الأشياء.
فبعض الناس تعلق قلبه بغير الله، فصار عبدًا لذلك الغير، بعضهم تعلق بالقبر أو بالولي فلان، وتعلق بعضهم ببرجه برج الثور أو العقرب أو غير ذلك، تعلق قلبه بغير الله ﷾ فصار عبدًا له يرجوه في جميع حاجاته ويخافه، أما الذي يتحرر من ذلك كله فهو من رضي بالله ربا وعبد الله وحده لا شريك له.
بعض الناس تعلق قلبه بالدنيا وشهواتها، يطاردها ليلًا ونهارًا، يحزن لأجلها ويفرح لأجلها، أحيانًا لا ينام الليل، إما فرحًا بحصول شيء من الدنيا أو حزنًا على فوات شيء من الدنيا، قال ﷺ: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، تعبد لغير الله ﷾ فوكله الله إلى ذلك، لكن من هو الحر الحقيقي؟ إنَّه الذي جعل الدنيا في يديه لكن ملأ قلبه بالإيمان بالله، فهو ما ترك الدنيا، لكن جعلها في يديه يستخدمها في طاعة الله تعالى، قيل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: أيكون الإنسان عنده ألف دينار وهو زاهد؟ قال: نعم، قالوا: كيف ذلك يا إمام؟ قال: إذا زادت لا يفرح وإذا نقصت لا يحزن.
فالعبد المتعبد لله وحده لا شريك له يكون غنيًا، ويكون ملكًا، ويكون ذا شرف، ويكون ذا مكانة، لكن هذه الأمور كلها يضعها في يديه، أما ما في قلبه فهو حب الله وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ.
وبعضهم يتعلق قلبه بكل شيء؛ لأنه لا قلب له، في كل يوم له إله يعبده من دون الله تعالى، تتقلب به الدنيا هائمة، ونسأل الله ﷾ أن يعافينا من حال أهل الحيرة والشكوك.
أيها الأخ في الله! ما هي الحرية الحقيقية؟ هي أن تكون عبدًا للواحد القهار، ولهذا ذكر الله محمدًا ﷺ وهو رسوله المصطفى، وهو سيد الأولين والآخرين؛ ذكره ربه ﷾ باسم العبد في أعظم المنازل، فقال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء:١]، فانظر إلى منزلة الإسراء حين بلغ سدرة المنتهى ﷺ، فمن الذي أسرى به ربه؟ ولما أنزل عليه هذا القرآن قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف:١].
ولما تحدث عن مقام الدعوة إلى الله وهو أعظم المقامات قال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن:١٩].
فالعبودية لله وحده لا شريك له هي الحرية الحقيقية.
1 / 6
توكل العبد على الله تعالى
ومن آثاره بالنسبة للفرد توكله على ربه واعتصامه به ليريحه من مشاكل الحياة، فلا يخاف إلا الله ﷾، لكن إذا تعلق القلب بغير الله تعالى ولم يحقق التوحيد صار عنده خوف ورهبة من الخلق.
وانظر إلى أحوال كثير من الناس لما ضعف إيمانهم -خاصة في الأزمنة المتأخرة- خافوا من غير الله، فبعض الناس صار يخاف من الجن من دون الله ويرعب منهم، حتى إن بعضهم إذا أراد أن يسكن بيتًا جديدًا يذبح لهم ذبيحة وينثر دمها، فإذا قيل له: لماذا تنثر دمها؟ قال: يقال إنها تطرد الجن، وبعض الناس خاف من السحرة، وصار الواحد لو هدده بشيء من ذلك لأرعب وصار له هم يملؤه ليلًا ونهارًا.
فهل هؤلاء يملكون شيئًا؟ من هو الذي بيده النفع والضر؟ من هو الذي بيده الموت والحياة؟ من هو الذي بيده الأمراض والشفاء؟ إنه الله ﷾، لكن هؤلاء لما ضعف الإيمان ولم يحققوا التوحيد وتعلقوا بغير الله ﷾ خافوا منهم.
بل إن بعض الناس يخاف من العين، والعين حق كما قال ﷺ، لكن أن يتولد هذا إلى شكوك في الناس وطعن فيهم، وأحيانًا ترك للأعمال الخيرة خوفًا منهم؛ فهذا لا شك أنه نقص في تحقيق التوحيد، والرسول ﷺ قال: (ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين) يعني: لا تسبق العين القدر، والساحر والكاهن والمشعوذ والجن كلهم لا يملكون من الأمر شيئًا.
فإذا أراد الله لك خيرًا فوالله لا يستطيع أحد أن يمنعه، وإذا أراد الله بك ضرًا فوالله لا يستطيع أحد أن يمنعه، فتعلق القلب بالله تعالى يعطي الإنسان طمأنينة وحياة حقيقية تريح الإنسان في كثير من الأمور، ولهذا تجد أولئك الذين يتعلقون بغير الله أو يتطيرون أو غير ذلك أمورهم وأحوالهم كلها مضطربة، نسأل الله السلامة والعافية.
ثم بعد ذلك أيضًا في حال الشدائد يتعلق القلب بالواحد القهار، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، ففي حال الشدة لا ملجأ لك من الله إلا إليه، فيتعلق القلب بالله ﷾، ثم بعد ذلك لا يخاف مما يخافه الناس مما يتعلق بالآجال والأرزاق والصحة والمرض وغير ذلك، فالمؤمن بالله يتعلق قلبه بالله وحده لا شريك له، لكن ضعيف الإيمان يظن أنه إذا قطع الراتب مات هو وأولاده، يظن أنه إذا خسر التجارة الفلانية تحطم مستقبله ومستقبل أولاده، يظن أنه إذا صدع بكلمة الحق أوذي وجرى له ما جرى، ولا والله، فالمؤمن بالله ﷾ هو الذي يعلم أن الحياة بيد الله، والرزق بيد الله، والأجل بيد الله، وكل شيء بيد الله وحده لا شريك له، فيطمئن قلبه ويرتاح، أسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء.
1 / 7
اعتزاز الموحد بربه تعالى
ثم الأثر الرابع من آثار كلمة التوحيد على الفرد هو عزة المؤمن بربه تعالى؛ لأنه موحد لله تعالى، فهو واثق من نفسه وعقيدته المتينة؛ لأنها قائمة على أساس مكين.
ولهذا تجد المؤمن معتزًا بدينه، تجد المؤمن ينظر إلى الكافرين المغرورين على رغم ما عندهم من سلطان مادي، وعلى رغم ما عندهم من تقدم علمي، وعلى الرغم ما عندهم مما خدعوا به الأمم جميعًا، ينظر إليهم المؤمن من علو على أنهم كافرون، وأنهم حطب جهنم.
هكذا يقول المؤمن، إنهم -والله- كالأنعام بل هم أضل، هكذا يستقر في قلب المؤمن عزة بدين الله تعالى، وطمأنينة تجعل العبد المؤمن الصادق يعتز بالله ويعتز بهذه العقيدة، وينظر إلى الآخرين بعين الرحمة، وإن كانوا مغرورين نظر إليهم من علو، وإن نظر إلى أحوالهم تمنى لهم الهداية؛ لأنه يعلم أنهم على ضلال مبين، ولهذا قال تعالى للمؤمنين: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:١٣٩].
1 / 8
الشجاعة في الحق والثبات عليه
ومن آثاره أيضًا على الفرد الشجاعة في الحق والثبات عليه: فالشجاعة في الحق والثبات عليه لا تقوم إلا حينما يعتصم المؤمن بتوحيده وعقيدته.
إن أصحاب النبي ﷺ كانوا أعظم الناس شجاعة، وإن أعظم دليل على شجاعتهم أنهم ﵃ وأرضاهم امتدت فتوحاتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها وليس معهم إلا الزاد القليل، وليس معهم مركوب إلا الإبل.
إن الواحد منا لو أراد أن يسافر سفرهم بوسائل النقل الحديثة لتضايق أشد التضايق، فبالله عليك كيف رحلت تلك النفوس على الجمال الشهور الطوال في مدلهمات الظلم وفي الفيافي المقفرة في مشارق ومغاربها فاتحة؟! إنها والله شجاعة الموحد، إنها شجاعة المؤمن الذي وقف أمام زعيم الفرس وهي أكبر دولة في وقته معتزًا بدينه يقول: جاء الله بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
أترى أولئك العرب الصعاليك في جاهليتهم كانوا سيصنعون شيئًا وهم يرفعون راية القومية وراية القرشية وراية التراب والوطن؟ لا والله ما صنعوا في جاهليتهم ولن يصنعوا، لكن كيف تغيرت أحوالهم؟ كيف تحول أولئك الفقراء المساكين إلى قادة؟ ما حولهم -والله- إلى قادة راية قومية ولا راية جاهلية، وإنما حولتهم راية عظمى تقوم على أنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
لهذا -أيها الأخ المؤمن- فإننا نشاهد اليوم لضعف تحقيقنا لكلمة التوحيد أننا أصبحنا ضعافًا غير شجعان، صرنا نخاف من غير الله تعالى، صار الناس يخوفوننا بالذين من دونه، كما قال تعالى: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ [الزمر:٣٦] يخوفوننا بالشرق والغرب، كيف تحولت أحوالنا إلى هذه الحال؟ إنه ضعف الإيمان.
1 / 9
آثار التوحيد في حياة الأمة
1 / 10
استقلال الأمة
أيها الأخ المسلم! أقول في القسم الثاني: إن أثر هذه العقيدة لا يقتصر على الفرد، وإنما يتعداه إلى الجماعة والأمة، ولن نعرض لجميع القضايا المتعلقة بذلك ولكن نشير إلى لمحات، فنقول: أولًا: استقلال الأمة لا يتم إلا باستقلالها في توحيدها وعقيدتها، فالأمة التي لا تستقل بعقيدتها وما ينبثق من عقيدتها من شريعة لا يمكن أن تستقل أبدًا.
إن الأمة التي لا تعتصم بتوحيدها وعقيدتها تعيش حياة التبعية لغيرها، وهذه تجارب التاريخ أمام أعيننا مثل الشمس، كان العرب تابعين إما للفرس وإما للروم، وكانت التبعية حقيقية، وكانوا يرفعون كثيرًا من خلافاتهم القبلية إلى أولئك ليحكموا بينهم ويصلحوا بينهم، فلما جاء الله بعقيدة التوحيد وأرسل بها رسوله ﷺ، وآمن بها أولئك الصحب الكرام، ونشأت دولة الإسلام في المدينة، فحررت واستقلت عن جميع أمم الأرض.
نعم والله، استقلت حتى من أهل الكتاب وهم في قلب جزيرة العرب، من اليهود أصحاب التراث الضخم الكبير في ذلك الوقت، وتحرروا من النصارى في نجران وفي بلاد الروم، وتحرروا من الجاهلية والوثنية، وتحرروا من أمم الأرض واستقلوا، والاستقلال للأمة لا يتم إلا بأن تغرس هذه العقيدة في هذه الأمة بشتى الوسائل التي تجعل الناس صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم على مختلف مسئولياتهم عبيدًا لله الواحد القهار لا عبيدًا لغيره، وهذا هو الاستقلال الحقيقي.
1 / 11
الأمن العام للأمة
الأثر الثاني: الأمن: يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢]، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي ﷺ، وقالوا: يا رسول الله! وأينا لم يظلم نفسه؟ فأخبرهم ﷺ بإن الظلم هنا هو الشرك، مذكرًا إياهم بقول العبد الصالح لقمان: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣].
إذًا فالآية ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام:٨٢]؛ هذا الأمن يبدأ من أمن الفرد وينتقل إلى أمن الأمة.
وهنا أقف وقفة مع هذه القضية؛ فإنها قضية مهمة جدًا: كانت قريش تعيش حياة الرعب، فلما جاء أبرهة لهدم الكعبة فرت قريش إلى الجبال، وفتحت الطريق أمام عدوها، بغير عقيدة يفتحون الطريق لأعدائهم أن يغزوا بلدانهم! هربت قريش إلى الجبال وتركت الأمر، فمن الذي أنقذ البيت الحرام؟ أنقذه الله ﷾، وذلك بأن أرسل عليهم طيرًا أبابيل ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [الفيل:٤]، فكانت تلك الحادثة العظمى إرهاصًا لبعثة محمد ﷺ، حيث تحولت مكة إلى بلد آمن؛ لأن جميع القبائل لما سمعوا بقصة ذلك الجيش العرمرم وكيف أن الله أهلكه وقتله شر قتلةٍ صار الواحد منهم يقول: هذا البيت له قدسيته، وهذه الطائفة وهذه القبيلة لأنها تحمي البيت لها مكانتها، فصارت القبائل لا تفكر أبدًا بأن تغزو قريشًا ولا أن تنالهم بأذى، ولهذا قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل:١ - ٥].
فبعد هذه السورة قوله تعالى: ﴿لِإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش:١ - ٤]، فتحولت قريش إلى أمان، نعمة من الله ﷾.
فانظر أيها الأخ المسلم! إلى الانتكاسة الفكرية كيف تكون، فحين كانت قريش في أمنها سعيدة وهي على شركها وعلى طغيانها، إذا بمحمد ﷺ يبعثه الله ويرسله صادعًا بالحق يقول لقريش: قولوا لا إله إلا الله.
فماذا صنعت قريش؟ هل استجابت أو أبت؟ رفضت أن تستجيب لرسول الله ﷺ، وليس غريبًا هذا، وإنما الغريب أنها عللت عدم استجابتها بتعليل عجيب، فماذا قالوا؟ يقول الله تعالى عن قريش: ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص:٥٧] يعني: يا محمد! إن نؤمن بك تهجم علينا القبائل، ويعادوننا ويحاربوننا ويغزون بلادنا ونحن نعيش في أمان، فإن اتبعناك فإن الأمم الكافرة وغيرها تغزونا.
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص:٥٧]، فماذا كان الجواب؟ ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [القصص:٥٧]، أي: كيف تقولون: (نتخطف من أرضنا) والله هو الذي أعطاكم الأمان؟! فمن أين جاءكم الأمان؟ من الله، وهذا رسول الله، فما جاء به لن يزيد أمانكم إلا أمانًا.
وفي زمننا هذا يقول كثيرٌ من الناس: إذا تمسكنا بديننا، وإذا أعلنا الولاء والبراء، وإذا طبقنا شريعتنا؛ حاربتنا الأمم وغزونا وتسلط علينا الكفار وصاروا يحاربوننا ويقاتلوننا ويريدون أن يغزوا بلادنا إلخ.
وهي كلمة قريش ﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾ [القصص:٥٧].
أيها الأخ المسلم! إن هذه دعوة غير صحيحة، فعقيدة التوحيد هي التي تغرس الأمان من الداخل للأمة كلها، وهي التي تغرس الأمان بإظهار وإبراز الرعب بالنسبة للعدو الخارج، فرسول الله ﷺ يقول: (ونصرت بالرعب مسيرة شهر)، والله تعالى يقول: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾ [الأنفال:٦٠]، عدو بعيد يرعب ما كان يفكر، وإنما خطر بباله أن يغزوكم فيرهب ويصاب بالرعب، وذلك حينما نؤمن بالله ﷾ الإيمان الحق.
إذًا فهذه العقيدة تولد الأمان في المجتمع؛ لأنها تولد الأمان الداخلي وتنزل الرعب بالعدو الخارجي مهما كانت قوته، ومهما اختلف ما بيننا وبينه من ناحية الاستعداد والقوى المادية، إن الله لم يطلب منا أن نكون مثل أعدائنا في القوى المادية، لكن طلب منا أن نستعد وأن نأخذ ما استطعنا، لكن ما لم نستطعه (فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)، وهل كانت انتصارات المسلمين لأن قواتهم مع أعدائهم كانت متكافئة؟ لا والله، فغالبًا ما يكون المشركون أضعافًا مضاعفة بالنسبة للمؤمنين، وبالنسبة لعددهم ولخيلهم وسلاحهم وكل شيء عندهم.
إذًا فالتوحيد يغرس الأمان، وإذا أردنا الأمان فعلينا أن نرجع، وإذا أردنا أن يتبدل أمننا خوفًا فنحن بالخيار، فنغير فقط ونعدل، نغير ما نحن عليه، ونتوكل على غير الله، ونحارب العقيدة، ونحارب الدعاة ونضيق عليهم، إذا أردنا هذا فالطريق سهل، لكن إذا أردنا الأمان الحقيقي فعلينا أن نعتصم بالله الاعتصام الحق، وأن لا نحابي أحدًا مهما كان، ومهما تكلم الغرب من شرقه وغربه واصمًا عقيدتنا وإيماننا بالأصولية وبالتطرف وبالإرهاب، لا والله لا نلتفت إلى هذا، لا نلتفت إلى أي شيء من ذلك، وإنما نلتفت إلى ربنا ﷾ فنراقبه في جميع أمورنا.
1 / 12
التحلي بفاضل الأخلاق والتخلي عن رذائلها
ومن آثاره بالنسبة للمجتمع غرس الأخلاق الفاضلة والبعد عن الأخلاق الرذيلة: وقد يقول قائل: وما علاقتها بالتوحيد؟ نقول: هي قائمة على أساس التوحيد؛ لأن التوحيد لله مقتضاه الطاعة، ومبناه على المحبة، ولهذا فإن غرس الأخلاق الفاضلة في المجتمع لا يمكن أن يتم إلا من خلال المراقبة الإيمانية، أما إذا جعلت المراقبة مادية فسرعان ما يحتال الإنسان على المراقبة المادية.
فانظر إلى أخلاق الغرب فهي أخلاق تجارية، لكن المؤمن ليس كذلك، فسواء رآه الناس أم لم يروه، أخفاه أو لم يخفه، لأنه يعلم أن الله هو الرقيب، لهذا فإن الميزة الكبرى للأخلاقية الإسلامية أنها تبني في النفس تلك الأخلاق بناء على حب الطاعة وكره المعصية، فذلك الإنسان لا يترك الزنا أو يترك شرب الخمر أو غير ذلك بناءً على قانون رادع، وإنما لأنها معصية لله فيبغضها، ولا يلتزم الصدق وحسن الخلق والرحمة بالآخرين لأن هذه صفات تجلب له شهرة، وإنما يلتزمها لأنها ترضي رب العالمين، وبهذا تتحول هذه العقيدة في قلب المؤمن حبًا وبغضًا إلى أن يكون ذلك المؤمن الصادق ممتثلًا للأخلاق حتى ولو ألزم نظامًا أو قانونًا بضدها.
1 / 13
تأليف قلوب المؤمنين وجمع كلمتهم وموقفهم
كذلك أيضًا من آثاره الكبرى: أنها تجمع المؤمنين من كل مكان: وهذا هو الأثر الرابع، قال تعالى: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ [الأنفال:٦٣]، فكلمة التوحيد هي التي جمعت، وإذا أردنا أن نجمع القلوب على أساس القومية أو الوطنية، أو المصالح المشتركة، أو العدو المشترك، أو الأرض، أو التراب أو الطين أو غير ذلك؛ فوالله لا تجتمع، لوا يجمعها إلا عقيدة التوحيد التي تجعل الأمة كلها من أولها إلى آخرها يدًا واحدة وجسدًا واحدًا وقوة واحدة، مهما غزاها عدوها ليفرق بينها لا يستطيع؛ لأنها لحمة واحدة.
فهل يستطيع عدوٌ أن يغزو جزءًا من جسدك بدون أن يتأثر بقية الجسد؟ لا يمكن، فلو أتى إلى إصبعك أو إبهامك أو طرف رجلك أو أي جزء من جسدك يؤذيه لا يمكن أن تقبل بقية الجسد، بل تتحول بقية الجسد إلى أسد هصور ينطلق للإنقاذ، ولو كانت وخزة إبرة لهب الجسد كالحصان الراكض يقول: ما هذه الوخزة؟ فكيف إذا أراد الإنسان أن يؤتى بشيء أكبر من ذلك، إنه المجتمع، فالمجتمع هو الذي يتحول بعقيدته إلى لحمة واحدة وجسد واحد كما وصفه رسول الله ﷺ.
1 / 14
حلول الخيرات والبركات
الأثر الخامس: نزول البركات من السماء والأرض: قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ﴾ [المائدة:٦٦].
إن البركات والخيرات إنما تتنزل على المؤمنين حينما يحققون عبوديتهم لله وحده لا شريك له، فيكون شعارهم الصدع بهذه الكلمة، والإيمان بها، والاعتصام بها، والثبات عليها، والتزام أحكامها وشريعتها.
إننا حينما نلتزم الشريعة ونطبقها ونحكم بين الناس بالكتاب والسنة، تتنزل علينا خيرات وبركات وعدالة وأمن واطمئنان، وتظهر الأرض خيراتها، إنها آثار كبيرة جدًا بالنسبة للمجتمع.
1 / 15
أثر التوحيد في الآخرة
أما القسم الثالث فهو أثر التوحيد في الآخرة: وأظنه معلومًا لدى الجميع؛ لهذا فإنني لا أطيل فيه، وإنما أقول: إن غاية الغايات حينما يحقق الإنسان التوحيد في هذه الدنيا أن يعلم الإنسان أنه حينما يقف بين يدي الله تعالى لن ينجو إلا بهذه الكلمة (لا إله إلا الله)، فبهذه الكلمة له الأمان في الآخرة حين يخاف الناس، وله الفوز بالجنة حينما تسعر نار جهنم وتقاد بسبعين ألف زمام.
فيوم القيامة يوم لا شك فيه، والجميع سيقف بين يدي الله ﷾، ولما كان الأمر كذلك والدنيا فانية والأيام قصيرة والأجل غير معروف والموت لا يفرق بين الصغير والكبير؛ جاء النداء: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ [الانشقاق:٦]، هي حقيقة كبرى، لهذا فالمؤمن يحقق التوحيد لأجل أن ينال الأمان والفوز يوم القيامة، يحقق التوحيد لأجل أن يكون يوم القيامة ممن يقال لهم على رءوس الأشهاد: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة:٢٤]، إنه الأمان الأكبر يوم الفزع الأكبر، إنه الفوز الأعظم يوم الخسارة الكبرى ﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾ [الزمر:١٥]، ذلك هو الخسران الكبير أيها الأخ في الله.
إذًا تحقيق التوحيد وتحقيق الإيمان وتحقيق العقيدة يحول الحياة في هذه الدنيا إلى طمأنينة، وكذلك يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أسأل الله ﷾ أن يجعلني وإياكم يوم القيامة من الآمنين، وأن يجعلني وإياكم ممن ختم له بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
1 / 16
الأسئلة
1 / 17
الكبائر وما يكفرها
السؤال
هل الأعمال الصالحة تكفر الكبائر أم لا بد لها من توبة؟
الجواب
الذي يظهر -والله أعلم- أن الكبائر لا بد لها من توبة، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فمعلوم أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فقد يشفع له النبي ﷺ فإنه قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي).
1 / 18
ذكر الله تعالى مع عدم مواطأة القلب للسان
السؤال
ما الحكم فيمن يذكر الله ولا يتوافق لسانه مع قلبه، وكيف يكون ذلك؟
الجواب
كلنا نشعر بهذا، لكن عليك بعلاج قلبك، وأن تكون ممن يراقب قلبه، فإذا ذكرت الله تذكر عظمة الله، وتذكر ربك ﷾، وتتدبر الآيات، وتدبر سورة الفاتحة، وتدبر هذه الأمور كلها، والله ﷾ يعينك ويوفقك، واسأل ربك وادعه؛ فإن الله ﷾ قد يجيب دعاءك ويلين قلبك ويبصره ويجعلك تتدبر وتتأثر.
1 / 19
قراءة سورة (يس) في المنزل لدفع العين
السؤال
هل قراءة سورة (يس) في المنزل الجديد مع أفراد الأسرة تدفع العين بإذن الله تعالى، وهل لهذا أصل في الشرع؟
الجواب
ليس لهذا أصل في الشرع؛ لأنه لم يرد عن النبي ﷺ شيء من ذلك، بل الذكر الليلي والنهاري، وذكر الدخول وذكر الخروج، وعند النوم وعند الاستيقاظ ونحو ذلك من الأذكار، هو الذي يُنجي بإذن الله تعالى، وهي أسباب.
1 / 20