الصعاب، ونقاسي العذاب، على أن سكان هذه المدينة لا يربو عددهم على عشرة الآلاف.
ثم انطلقا إلى الثانية، فإذا بها تموج بسكانها، فوقفا في سوقها الكبرى وقفة كان فيها الغناء عن كل شيء. كشف لهما من أخلاق القوم ما كشف لنا اليوم من أخلاق أهل هذه الحاضرة، فآنسا منهم الأثرة مكان الإيثار، والتدابر مكان التكافل، فلم يلبثا أن كرا راجعين، وما هي إلا دورة من دورات الفلك حتى خفقت راية ذلك الفاتح على أسوار تلك المدينة، وامتنعت عليه الصغيرة حتى هم بالانصراف عنها لولا حيلة دبرها الوزير فكان فيها الفتح.
ذلك مثل المدينتين، فانظر إلى أهل هذا البلد، واعلم أنهم يتناصرون، ولكن على التخاذل ويتعاونون، ولكن على تسويد الغريب، فهم لا يملكون لأنفسهم إلا الضر، حتى أوشك أن يصح فيهم قول كاتبهم الكبير،
21
عفا الله عنه: هذا بلد لا يخاف المرء فيه إلا من نفسه.»
وطيب الله ثرى فقيد الإسلام الأستاذ الإمام؛ فقد سمعت عنه كلمة من مأثور القول أفرغتها الحكمة في قالب الاختبار: هذه الأمة حياتها في موتها، قلت: وعلى ذكره - رحمه الله - أروي لك عنه ما يكشف عن اعتقاده الراسخ في أفراد هذه الأمة: «صحبته مرة في إحدى روحاته إلى عين شمس، وكانت لي عليه دالة ترفع عني مئونة الاحتشام، وكنت أتبسط معه على الحديث، فكان مما ذكر لي في هذه الليلة، أنه ألقي إليه كتاب كتبه صاحبه وإبليس جاثم بين كتفيه، ينذره فيه بالقتل ويتوعده بالاغتيال. ذكر ذلك كمن يذكر نبأ من الأنباء التي يسوقها الحديث، فلم ألمح على وجهه ما ينم عما وقع في نفسه من أثر ذلك الكتاب، ثم خاض في غير ما أخذ فيه، حتى انتهينا إلى طريق مقفر قامت على عطفيه طائفة من النخيل، وكان لا بد لنا من ركوب ذلك الطريق للوصول إلى الدار، فسرينا فيه تحت الليل، والظلمة تقبض البصر، وتدعو في كل خطوة إلى الحذر، فقلت له وهو يخوض في أحشاء الظلام: ألا يخشى مولاي - حرسه الله - أن يقوم صاحب الكتاب بالوفاء، فيكمن له في لقمة من لقم هذا الطريق، ويبلغ منه ما بلغ أبو لؤلؤة من الفاروق، فيطعن الإسلام طعنة ثانية تذهب بهذه البقية الباقية؟
فنظر إلى نظرة لمعت في تلك الظلمة لمعانا ساورتني منه الهيبة، وقال لي: أين يذهب بك يا بني، فتالله إني لأهنئ نفسي إذا وجدت في هذه الأمة من يقدر أن يقول لي أخطأت في وجهي، فكيف بي إذا وجدت من يقوى على رفع يده لقتلي؟»
ذلك كان اعتقاده في أمة وادي النيل، ولم يكن رحمه الله منفردا بهذا الرأي، فقد سمعت غير واحد من الحكماء والأدباء يبالغون في وصف ما نحن فيه، حتى وعيت عن بعضهم كلمة ما درى صاحبها بأي درة رمى: لقد نزلت هذه الأمة منزلة من الخمول هبطت بها إلى مصاف العجماوات، حتى خشيت أن يخطئها البعث في يوم البعث. فما ظنك يا سيدي بأمة أصبح بعضها يخشى عليها ألا تحشر مع الأمم، اللهم إن هذا منتهى أمد الخذلان؛ موت في الدنيا، وموت في الآخرة.
ثم قمنا إلى مسجد فقضينا فيه الصلاة، وعطفنا بعده على مطعم، فتناولنا ما نمسك به الرمق، واستأنفنا المسير، وبينا نحن في طريق عابدين إذا لفيف من التلاميذ يهرولون، وهم من أمرهم على عجل، وإذا لفيف آخر على آثارهم.
فقال لي صاحبي: ما لي أراهم يسرعون وإلى أين هم ذاهبون؟ قلت: إنهم يؤمون الاحتفال الذي تقيمه نظارة المعارف للألعاب، فتتسابق فيه التلاميذ تسابق الجياد، ويتبارون في الألعاب الرياضية كما يقولون، وهو احتفال يشهده عميد الدولة الإنكليزية، ويتأنق في تزيينه بطل رجال الإنكليز مستشار المعارف المصرية؛ ذلك الذي أبلى البلاء الحسن في قتل النفوس، وإحياء الجسوم، وجعل الجوائز السنية لكل سابق في هذا المضمار؛ لذلك ترى نظار المدارس لا هم لهم في غير تعهد الأشباح، والويل لمن يعثر به الجد في يوم ذلك المهرجان، فلا يفوز تلاميذه بجوائز الامتحان. ولقد بلغ من ولوع المستشار برؤية هذا المشهد أنه يستقدم التلاميذ من أطراف البلاد، فيجمع تلميذ رأس التين بتلميذ عابدين، والطالب في أسوان بمثله في حلوان، وحكومة البلاد تقوم بالنفقات على هذه الملاعب وتلك التنقلات.
Halaman tidak diketahui