على أنه قد أفنى ثلاث عمائم ألوانا، فوقف على أبواب الفناء، وهم سراج حياته بانطفاء.
قال صاحبي: عجبت لهذه الحكومات تسرع بالحجر على السفهاء من المبذرين، وتتثاقل عن الحجر على هؤلاء المبخلين! قيل لعمر بن الخطاب: قد جمع فلان مالا، فقال: وهل جمع له أياما؟! ويلي على هذا الغني تنفق من عمره الأيام، وتهدم من بناء هيكله الليالي، فتسهل عليه النفقة من عمره، وتعز عليه النفقة من ماله، ولو أنصفت الحكومات لسارعت بالحجر على أمثال هذا الغني البخيل!
قلت: هب أن تلك الحكومات قد قالت: ليت المشرعين الذين يتفننون في أساليب ما يضعون يقفون لمحة أمام هؤلاء الأغنياء؛ ليعلموا أن الشرائع التي وضعتها يد البشر لا تزال في حاجة إلى الكمال!
قال الراوي: ثم ساد بيننا السكوت. ونمر بدار قد سطت عليها غياهب الليل، وخيم تحت سمائها الذل والويل، فيقول لي صاحبي: لمن هذه؟ قلت: هي لرجل كان مكفي المئونة في دهره، مستور المعيشة في عمره، فأبى إلا المتاجرة فيما يخرج عن الطوق، فأكل الطمع منه رأس المال، ورده إلى ما ترى من سوء الحال.
قال صاحبي: لقد نظرت في سواد هذه الأمة، فلم أجد إلا أحد رجلين: رجل ركب في طبيعته حب العمل، وركز في طباعه التهور في كل ما يأخذ فيه، وهو لا يملك إلا مائة من الذهب، يرمي بنفسه في غمار الاتجار بما يخرج عن طوقه، فيسوقه التهور إلى الاستدانة، وتوسيع هالة عمله، فلا يلبث أن تذهب بمائته المقاضاة، ورجل بني على الحرص، وفطر على الخمول، وهو يملك الألوف، فيدعوه الحرص إلى حبسها، ويقعد به الخمول عن استثمارها، فلا هو ينتفع بألوفه، ولا الناس تنتفع بوجوده.
ثم حانت منه التفاتة إلى السماء، فإذا الظلمة تنجلي عن أطرافها انجلاء الخضاب عن القذال الأشيب، فصاح بي: على رسلك أيها الصاحب؛ فلقد أفجرنا. ألا تنظر بربك إلى الأفق، وقد نظم الفجر حواشيه، فوضح للعين ما قاله فيه صاحب هذا التشبيه:
وقد رفع الفجر الظلام كأنه
ظليم على بيض تكشف جانبه؟
فانطلق بنا إلى بيت من بيوت الله نقضي فيه الصلاة.
فانطلقنا إلى مسجد قريب قضينا فيه صلاتنا، ولم نبرحه حتى برحت الشمس خدرها، فقلت له: أعزم سيدي على الرجوع إلى أبيه، أم على الأخذ فيما كنا بالأمس فيه؟
Halaman tidak diketahui