بعث صاحب الرسالة
صلى الله عليه وسلم
في عهد كان ربيعا للغة وآدابها، نضرت فيه الألفاظ، وأورقت المعاني، وقد مات من أمة العرب كل شيء إلا شعورها ولسانها؟ مات منها كل شيء، ولم ينقصها من مواد الحياة شيء، فجاء الكتاب يخاطب منهم ذلك الشعور الحي، ويكلم ذلك الوجدان اليقظ، فسرت في نفوسهم الدعوة سريان الكهرباء، ووقع منهم مغزى الآية في الأفئدة قبل وقوع لفظها في الأسماع، فكان مثل أحرف الكتاب وإن جلت عن المثل، كمثل أحرف البروق هذه مطيتها الأسلاك، تطوف حول المحيط طواف الفكر، وتلك مطيتها الشعور يبلغ بها غاية النفوس قبل رجع البصر.
صادفت الدعوة نفوسا غذتها اللغة، وروتها آدابها، فعرفت قدر الكلام، وبالغت في تكريمه حتى رفعته إلى مواطن الآلهة، وسجدت له سجودها للهبل الأعلى.
صادفت نفوسا تملكها الوجدان، فأصبحت ترقص لشطر البيت، فهي إن شاء حملها الشاعر إلى مواطن الفناء، وإن شاء وقف بها في مواقف الفخار. صادفت تلك النفوس فلم تصدف عن آياتها، وكان الفضل في ذلك للشعور الذي ولده فيها فهم أسرار اللغة، واستمراء لذة آدابها، وكان من أمر العرب بعد الدعوة ما قد علمت، ولولا آفة أصابت لسانها، وفترة أماتت شعورها، لرأيت أبيض الغرب وأصفر الشرق وصيفين في بيت ذلك العربي الأسمر.
هذا هو شأن الدولة التي أدعوكم إلى تأييدها، وهذا هو أثرها في النفوس، فلولاها ما رفعت دولة في الغرب رأسها، ولا خاف الناس بأسها. انظر نظرة في تاريخ دول الغرب، وأمعن قليلا في البحث عن أسرار مجدها، تجد سر ارتقائها في تضافر كتابها على بث روح التأثير في نفوس العامة، بما يزخرفون لهم من الأحاديث. وقد ساعدهم على ذلك أن الناس هنالك يكتبون باللسان الذي به يتكلمون، فتتسرب إلى نفوسهم معاني الشاعر، وتمتزج بأرواحهم روح الكاتب وإن كانوا لا يشعرون.
خذ خطيبا ذلق اللسان، كثير تزويق الكلام، ملما بالعربية، عارفا بالأعجمية، وتنقل به بين تلك الأمم الواقف على أسرار لسانها، ثم اندبه ليقف وقفة ويخطب في الناس، وتفرس بعد ذلك في وجوه السامعين، وما يرتسم عليها من أثر تحرك النفوس، وتنبيه العواطف، واحفظ ذلك في نفسك، ثم عرج به إلى مصر، ودعه يقف وقفته، ويستجمع قوته، ويخطب ما شاء من الصبح إلى المساء، وانظر كيف يختلف القياس بين صنوف الناس، فلو أنه نثر على رءوسهم التنزيل، وأتبعه بالتوراة والإنجيل، ما حرك منهم جامدا، ولا نبه خامدا.
وأصل هذا البلاء الذي استعصى معه الدواء، أن لهم لسانين قد تناكرا حتى اختصوا أولهما بالكلام، وجعلوا الثاني من نصيب الأقلام، فمنع اعوجاج هذا من استقامة ذاك، ووقع حاملهما في سوء الخلط والارتباك. فكم ترددت بينهما حيرة الشاعر، وأشفقت من العثار يراعة الناثر!
إذا أرضى الشاعر لسان الكلام، أغضب لسان الأقلام، وإذا نزع الكاتب إلى محاسنة العامة، جره ذلك إلى مخاشنة الحامة. دع ما تجنيه الصحف اليومية على لسان هذه الأمة العربية، وما تدخله عليه من لفظ عامي، وأسلوب أعجمي، حتى نعت اللغة نفسها على لسان صاحبكم حيث قال:
أرى كل يوم بالجرائد مزلقا
Halaman tidak diketahui