Malam Jiwa yang Tersesat
ليالي الروح الحائر
Genre-genre
هنا بلغت العظة الكبرى، ورأيت أجل القبور، وهو جدث عال عليه جلال وليس حوله زهور ولا سياج، إنما نحت من صخرة تمثال كتاب ذي صفحات، وكتب على إحدى الصفحتين الباديتين بأحرف سوداء واضحة: «إنني أنتظرك 1899، بيير بيلي»، وعلى الثانية: «ها أنا ذا لوربيلي 1901.» وقفت باهتا أمام ذلك القبر العجيب، بل ذلك الكتاب الحجري الذي قرأت فيه آية من آيات الحياة، وإنها لأبلغ من آيات الحكمة، وأي حكمة أجل من حكمة الموت! هاتان نفسان اتحدتا في العالم الفاني، واتحدتا في العالم الثاني، وكما كان يضمهما فراش واحد أصبح يضمهما جدث واحد، وبعد أن كان قلب أحد هذين الإنسانين يخفق وينقبض لفراق أليفه هدأ بعد أن اطمأن من شر البعد؛ لأن اللحد لا يخرج من يدخله! ولكن كيف قضيت يا بيير هذين العامين منتظرا؟! لقد لحقك الضجر لا محال إذا كان الموتى يضجرون، كنت تسلي نفسك بأن صاحبتك لن تخلف الميعاد مهما كان أمد الانتظار طويلا، وأنت يا لور كيف قضيت هذين العامين؟ أكنت تذكرين كلمة رفيقك العزيز في كل يوم فتفكرين في الموت صباح مساء وتستبطئين الفزع الأكبر، وتودين لو يأتي سراعا لتلحقي بزوجك المسكين؟ أم كنت تنفرين من الذكرى إذا عرضت لك وتفضلين ألا تزوري المقابر لئلا تدعوك الزيارة لوفاء الدين؟
هذه مقبرة الإنجليز وصلت إليها! فإذا هي على حدة. قاتلهم الله! يحبون الاستقلال حتى في الموت وينكرونه على غيرهم في الحياة! قبر طفل ولد في أستراليا وتوفي في لوزان، ما أبعد الشقة يا هذا الصغير! لقد نشأت في تلك القارة السحيقة المحاطة ببحار الجنوب ذات السهول الشاسعة والصحاري القاحلة والوديان العميقة والأنهر المتدفقة والحقول الغنية والأحراش التي لم تطرقها قدم إنسان ولم يجس خلالها إلا الكنجرو ووحش البقر، ولربما ولدوك في كوخ بديع محاط ببستان أنيق تغرد على غصونه بلابل الصباح، ولربما كنت تلعب في طفولتك الأولى على ضفاف نهير تسيل أمواجه عسجدا، وحملوك إلى بلاد قصية قطعت في البلوغ إليها أشهرا، شققت عباب تلك البحار، وقطعت أوصال تلك القفار؛ لترقد على ضفاف بحيرة ليمان في ظلال الجبال الشاهقة، فلو علمت أنك سائر إلى حيث يخط لك مضجعك الأخير أفلا كنت تفضل أن يشق لك لحد في أرض الذهب؟
هذا قبر إنجليزي آخر كتب عليه: «عاش حرا، ومات حرا.» إيه لك أيتها الحرية، فإنهم يتغنون باسمك حتى في الموت، ويودون أن ينسبوا إليك ولو في القبور!
وهاك قبر نيكولا روسي، مات في عام 1840 شهيد وطنه، جاهد في سبيل توحيد بلاده، ومات وهو يذكرها بقلبه ولسانه «نم هادئا يا روسي؛ فقد وحدت بلادك واستقلت، وأصبح علم الحرية يخفق على ربوعها، وكمن عدوكم في قصره لا يخرج من بابه، وقد مجدوا ذكر أستاذك العظيم، فبلغه ذلك إن كنتم تلتقون، لقد وفق غيركم - رجلان - من بني جنسك إلى تحقيق أمانيكم، إنك لم تر بلادك حرة متحدة، ولكن رآها غيرك، فهنيئا لك ولأمثالك المجاهدين، تبذلون نفوسكم في سبيل أوطانكم وغيركم يبذلون أوطانهم في سبيل نفوسهم، إنهم الخاسرون! نم يا روسي؛ فإن أمثالك كثيرون، رحمة الله عليكم أجمعين.» •••
سمعت خلفي صوت فأس تشق فؤاد الأرض، فنظرت فإذا أنا أرى على بعد رجلين يحفران قبرا. أهلا بك أيها القادم الجديد، لقد ودعت عالما كله نفاق وشقاق، عالما كله معاص وذنوب وجرائم تشمئز منها النفوس النقية، لا يسمع فيه إلا اللغو، ولا تذاق في جواره سوى الآلام والأحزان، يهضم فيه الحق، ويداس فيه الضعيف ويهمل، ويفوز فيه القوي ببطشه وبأسه، عالما يسود فيه الأنذال والجهال وتقوم لهم دولة وصولة، ويحقر فيه أهل الفضل؛ لأنهم عاجزون عن مجاراة الأسافل الأشرار في ميادين الخبث والدهاء، لقد ودعت عالما يبحثون فيه منذ نشأته عن الحقيقة ولن يجدوها، ويتقون فيه الباطل ولكنهم يجدونه في كل زمان ومكان، عالما يستعبد فيه الحر باسم الإنسانية، ويقتل فيه العاجز؛ تحقيقا لمذهب القائلين ببقاء الأنسب، وتقترف فيه الآثام باسم الجهاد في سبيل الحياة، هذا هو العالم الذي ودعته، ولست أدري كيف يكون العالم الذي أنت عليه قادم، ولكنني أعلم أنك هنا ترقد هادئا تظلك الأشجار وتهب عليك نسيم الصبا حاملة روائح الزهور والرياحين، فنم واعلم أن في عالم الأحياء من يحسدونك على تلك النعمة كثيرون.
دنوت ممن يحفر القبور، وهو لا شك شخص مخيف في نظر بعض البله والمجانين، وبعضهم يتشاءم إذا رآه في الطريق أو مر بداره ظنا منه أنه رسول الموت وحامل لواء عزرائيل، لا يدب إلا ويقتفي أثره قابض الأرواح، ولا يزور قوما في الغسق إلا والموت ببابهم قبيل الصباح، فنظرت في وجه الرجل كأنني أبحث عن آثار الشؤم، فإذا هو وجه حسن التقسيم، ولولا خوفي من تهمة الإغراق قلت إنه وجه مبارك ميمون. فقلت له: عم مساء يا أخي، أيغلق الباب هنا عن قريب؟
قال: يغلق الباب عند الغروب لولا ما دعانا اليوم إلى التأخير، وها أنت ترانا نحفر لحدا.
قلت: وهل يجوز أن يدفن الموتى بعد الغروب؟
قال: إنها وحشة ابتدأت منذ أمس ولن تنتهي، فلا فرق بينها فوق الأرض وتحتها.
قلت: نعم ما تقول، أتسمح لي أن أسألك سؤالا يتردد في نفسي من زمن طويل؟
Halaman tidak diketahui