شهريار
شهرزاد
الشيخ
مقهى الأمراء
صنعاء الجمالي
جمصة البلطي
الحمال
نور الدين ودنيازاد
مغامرات عجر الحلاق
أنيس الجليس
Halaman tidak diketahui
قوت القلوب
علاء الدين أبو الشامات
السلطان
طاقية الإخفاء
معروف الإسكافي
السندباد
البكاءون
شهريار
شهرزاد
الشيخ
Halaman tidak diketahui
مقهى الأمراء
صنعاء الجمالي
جمصة البلطي
الحمال
نور الدين ودنيازاد
مغامرات عجر الحلاق
أنيس الجليس
قوت القلوب
علاء الدين أبو الشامات
السلطان
Halaman tidak diketahui
طاقية الإخفاء
معروف الإسكافي
السندباد
البكاءون
ليالي ألف ليلة
ليالي ألف ليلة
تأليف
نجيب محفوظ
شهريار
عقب صلاة الفجر، وسحب الظلام صامدة أمام دفقة الضياء المتوثبة، دعي الوزير دندان إلى مقابلة السلطان شهريار .. تلاشت رزانة دندان، خفق قلب الأبوة بين جوانحه، غمغم وهو يرتدي ملابسه: «الآن تقرر المصير .. مصيرك يا شهرزاد!»
Halaman tidak diketahui
مضى في الطريق الصاعد إلى الجبل على برذون يتبعه نفر من الحراس ويتقدمه حامل مشعل في جو مشعشع بالندى وبرودة مستأنسة .. ثلاثة أعوام مضت بين الخوف والرجاء، بين الموت والأمل .. مضت في رواية الحكايات، وبفضل الحكايات امتد الأجل بشهرزاد ثلاثة أعوام .. غير أن للحكايات نهاية ككل شيء، وقد انتهت أمس، فأي قدر يرصدك يا ابنتي الحبيبة؟!
دخل القصر الرابض فوق الجبل .. اقتاده الحاجب إلى شرفة خلفية تطل على الحديقة المترامية .. بدا شهريار في مجلسه على ضوء قنديل واحد، سافر الرأس، غزير الشعر، أسوده، تلتمع عيناه في وجهه الطويل، وتفترش أعلى صدره لحية عريضة .. قبل دندان الأرض بين يديه .. داخلته رهبة - رغم طول المعاشرة - لرجل حفل تاريخه بالصرامة والقسوة ودماء الأبرياء .. وأشار السلطان بإطفاء القنديل الوحيد، فساد الظلام، ولاحت بوضوح نسبي أشباح الأشجار الفواحة .. تمتم شهريار: ليكن الظلام كي أرصد انبثاق الضياء.
تفاءل دندان شيئا ما وقال: متعك الله يا مولاي بأطيب ما في الليل والنهار.
صمت .. لم يستطع دندان أن يستشف ما وراء وجهه من رضا أو سخط حتى قال بهدوء: اقتضت مشيئتنا أن تبقى شهرزاد زوجة لنا.
وثب دندان واقفا، ثم انحنى على يد السلطان فلثمها بامتنان، ودمع الشكر يتحرك في أعماقه. - فليؤيد الله سلطانك إلى أبد الآبدين.
قال السلطان وكأنما تذكر ضحاياه: العدل له وسائل متباينة؛ منها السيف، ومنها العفو، ولله حكمته. - سدد الله خطاك إلى حكمته يا مولاي.
فقال بارتياح: حكاياتها السحر الحلال، تفتحت عن عوالم تدعو للتأمل.
ثمل الوزير بفرحته صامتا، فقال السلطان: وأنجبت لي وليدا فسكنت عواصف النفس الهائجة. - لتهنأ يا مولاي بالسعادة في الدارين.
تمتم السلطان باقتضاب: السعادة!
قلق دندان لسبب غامض .. ارتفع صياح الديكة .. قال السلطان وكأنما يخاطب نفسه: الوجود أغمض ما في الوجود!
Halaman tidak diketahui
غير أن نبرته تخففت من الحيرة وهو يقول: انظر!
نظر دندان نحو الأفق فرآه يتورد بالسرور المقدس.
شهرزاد
استأذن دندان في مقابلة ابنته شهرزاد .. قادته قهرمانة إلى حجرة الورد ذات السجادة والستائر الموردة .. ذات الدواوين والوسائد المشربة بالحمرة .. هناك استقبلته شهرزاد وأختها دنيازاد .. قال الرجل: ينوء ظهري بالسعادة، فالحمد لله رب العالمين.
أجلسته شهرزاد إلى جانبها على حين انسحبت دنيازاد إلى مقصورتها .. قالت شهرزاد: نجوت من المصير الدامي برحمة من ربنا.
فغمغم الرجل شاكرا، فقالت بمرارة: ليرحم الله العذارى البريئات. - ما أحكمك وما أشجعك!
فقالت هامسة: ولكنك تعلم يا أبي أني تعيسة! - حذار يا ابنتي؛ فإن الخواطر تتجسد في القصور وتنطق!
فقالت بأسى: ضحيت بنفسي لأوقف شلال الدم.
فتمتم: لله حكمته.
فقالت بحنق: وللشيطان أولياؤه.
Halaman tidak diketahui
قال بتوسل: إنه يحبك يا شهرزاد. - الكبر والحب لا يجتمعان في قلب، إنه يحب ذاته أولا وأخيرا. - للحب معجزاته أيضا. - كلما اقترب مني تنشقت رائحة الدم. - السلطان ليس كبقية البشر. - لكن الجريمة هي الجريمة .. كم من عذراء قتل، كم من تقي ورع أهلك، لم يبق في المملكة إلا المنافقون.
فقال بحزن: ثقتي بالله لم تتزعزع قط. - أما أنا فأعرف أن مقامي في الصبر كما علمني الشيخ الأكبر.
فقال دندان باسما: نعم الأستاذ ونعم التلميذة.
الشيخ
يقيم الشيخ عبد الله البلخي في دار بسيطة بالحي القديم .. تنطبع نظرته الحالمة في قلوب الكثيرين من تلاميذه القدامى والمحدثين، وتنطبع بعمق أبدي في قلوب المريدين .. العبادة الكاملة عنده مقدمة ليس إلا؛ فهو شيخ الطريق، وقد بلغ منه مقام الحب والرضا .. عندما غادر خلوته إلى حجرة الاستقبال أقبلت عليه زبيدة ابنته المراهقة والوحيدة، وقالت بسرور: المدينة فرحانة يا أبي.
فتساءل دون مبالاة: ألم يصل بعد الطبيب عبد القادر المهيني؟ - لعله في الطريق يا أبي، لكن المدينة فرحانة؛ لأن السلطان رضي بشهرزاد زوجة له، وعدل عن سفك الدماء.
لا شيء يخرجه من هدوئه .. الرضا في قلبه لا ينقص ولا يزيد .. وزبيدة ابنة وتلميذة ولكنها ما زالت في أول الطريق .. وسمعت على الباب طرقا فمضت قائلة: جاء صديقك لزيارته المعتادة.
دخل الطبيب عبد القادر المهيني، فتعانقا، ثم اقتعد شلتة إلى جانب صديقه .. ودارت المناجاة كالمعتاد على ضوء مصباح في كوة .. قال عبد القادر: عرفت - لا شك - الخبر السعيد.
فقال باسما: عرفت ما يهمني معرفته.
فقال الطبيب: الحناجر تدعو لشهرزاد بينا أنك أنت صاحب الفضل الأول.
Halaman tidak diketahui
فقال بعتاب: الفضل للمحبوب وحده. - إني مؤمن أيضا، ولكني أتابع المقدمات والنتائج، لولا أنها تتلمذت على يديك صبية ما كانت شهرزاد .. لولا كلماتك ما وجدت من الحكايات ما تصرف به السلطان عن سفك الدماء.
قال الشيخ: يا صديقي، لا عيب فيك إلا أنك تغالي في تسليمك للعقل. - إنه زينة الإنسان. - من العقل أن نعرف حدود العقل.
فقال عبد القادر: من المؤمنين من يرون أنه بلا حدود. - لقد فشلت في جذب كثيرين إلى الطريق، أنت على رأسهم. - الناس مساكين يا مولاي، في حاجة إلى من يتعامل معهم ويبصرهم بحياتهم.
فقال الشيخ بثقة: رب روح طاهرة تنقذ أمة كاملة.
فتساءل الطبيب بامتعاض: علي السلولي حاكم حينا، كيف تنقذ الحي من فساده؟!
فقال بأسى: لكن المجتهدين مراتب.
فقال بإصرار: إني طبيب، وما يصلح الدنيا هو ما يهمني.
فربت على يده برقة، فابتسم الطبيب وقال: ولكنك الخير والبركة.
فقال الشيخ: أحمد الله فلا السرور يستخفني، ولا الحزن يلمسني. - أما أنا فحزين يا صديقي العزيز .. كلما تذكرت الأتقياء الذين استشهدوا لقول الحق، واحتجاجا على سفك الدماء ونهب الأموال ازددت حزنا!
قال الشيخ: شد ما تأسرنا الأشياء!
Halaman tidak diketahui
فقال عبد القادر في رثاء: استشهد الشرفاء الأتقياء ، أسفي عليك يا مدينتي التي لا يتسلط عليك اليوم إلا المنافقون، لم يا مولاي لا يبقى في المزاود إلا شر البقر؟! - ما أكثر عشاق الأشياء الخسيسة!
وترامت إليهما من أطراف الحي أصوات زمر وطبل، فأدركا أن الأهالي يحتفلون بالخبر السعيد .. عند ذاك قرر الطبيب أن يذهب إلى مقهى الأمراء.
مقهى الأمراء
يتوسط المقهى الجانب الأيمن من الشارع التجاري الكبير .. وهو مربع الأركان واسع الساحة، يفتح مدخله على الطريق العام، وتطل نوافذه على حوار جانبية .. تقوم في جوانبه الأرائك للسادة وتستقر في دائرة من وسطه الشلت للعامة .. يقدم مشروبات شتى ساخنة وباردة تبعا للفصول، وبه أيضا أجود صنوف المنزول والحشيش .. تشهد لياليه كثيرين من السادة أمثال صنعان الجمالي وابنه فاضل، وحمدان طنيشة وكرم الأصيل وسحلول وإبراهيم العطار وابنه حسن، وجليل البزاز ونور الدين وشملول الأحدب .. كما تشهد كثيرين من العامة أمثال رجب الحمال وزميله السندباد وعجر الحلاق وابنه علاء الدين وإبراهيم السقاء ومعروف الإسكافي .. غلب المرح على الجميع في تلك الليلة السعيدة، وسرعان ما انضم الطبيب عبد القادر المهيني إلى مجلس يضم إبراهيم العطار وكرم الأصيل صاحب الملايين وسحلول تاجر المزادات والتحف .. أفاقوا ليلتهم من خوف متسلط، واطمأن كل أب لعذراء جميلة، فوعده النوم بأحلام تخلو من الأشباح المخيفة .. وترددت أصوات. - الفاتحة على أرواح الضحايا ... - من العذارى والرجال الأتقياء. - وداعا للدموع. - الحمد والشكر لله رب العالمين. - وطول العمر لدرة النساء شهرزاد. - شكرا للحكايات الجميلة. - ما هي إلا رحمة الله حلت.
تواصل المرح والحديث حتى علا صوت رجب الحمال متسائلا: أمجنون أنت يا سندباد؟
فسأل عجر الشغوف بدس أنفه في كل شيء: ماذا جننه في هذه الليلة السعيدة؟ - يبدو أنه كره عمله وضاق بالمدينة، لا يريد أن يكون حمالا بعد اليوم. - أيطمع في أن يتولى إمارة الحي؟ - ذهب إلى ربان سفينة وما زال به حتى قبله خادما بها!
فقال إبراهيم السقاء: مجنون حقا من يعرض عن رزق مضمون على البر ليجري وراء رزق مجهول فوق الماء.
فقال معروف الإسكافي: الماء الذي يستمد غذاءه من الجثث منذ قديم الزمان.
فقال السندباد بتحد: ضجرت من الأزقة والحواري، ضجرت من حمل الأثاث والنقل، لا أمل في مشهد جديد، هناك حياة أخرى؛ يتصل النهر بالبحر، يتوغل البحر في المجهول، يتمخض المجهول عن جزر وجبال وأحياء وملائكة وشياطين، ثمة نداء عجيب لا يقاوم، قلت لنفسي جرب حظك يا سندباد وألق بذاتك في أحضان الغيب.
فقال نور الدين بياع العطور: الحركة بركة.
Halaman tidak diketahui
فقال السندباد: تحية جميلة من زميل الصبا.
فسأل عجر الحلاق ساخرا: هل تتمسح في السادة يا حمال؟
فقال نور الدين: جلسنا جنبا لجنب في الزاوية نتلقى الدرس على يد مولانا عبد الله البلخي.
فقال السندباد: وقنعت بمبادئ القراءة والدين شأن الكثيرين.
فقال عجر مواصلا سخريته: لن ينقص بذهابك البر ولن يزيد البحر.
عند ذلك قال له الطبيب عبد القادر المهيني: اذهب مصحوبا برعاية الله، ولكن اشحذ حواسك، ليتك تسجل ما يصادفك من بديع المشاهدات؛ فقد أمرنا الله بذلك. متى تسافر؟
فقال متمتما: صباح الغد، أستودعكم الله الحي الباقي.
فقال رجب الحمال زميله: ما أحزنني لفراقك يا سندباد!
صنعاء الجمالي
1
Halaman tidak diketahui
الزمن يدق دقة خاصة في باطنه فيوقظه .. مد بصره نحو نافذة قريبة من الفراش فرأى من خلال خصاصها المدينة مسربلة في الظلام .. النوم سلبها الحركة والصوت فاستكنت في صمت مفعم بهدوء كوني .. انفصل من جسد أم السعد الدفيء هابطا إلى الأرض .. انغرزت قدماه في زغب سجادة فارسية .. مد ذراعه ملتمسا موقع الشمعدان، فارتطمت بكثافة صلبة فجفل متسائلا: ما هذا؟!
جاء صوت غريب، لم يطرق أذنيه مثله من قبل .. لا صوت إنسان هو، ولا صوت حيوان .. اجتاح حواسه، وكأنما انتشر في المدينة كلها .. ونطق الصوت في غضب: دست رأسي يا أعمى؟!
صرعه الخوف .. ما به من الفروسية ذرة .. ما يجيد إلا البيع والشراء والمساومة .. أكد الصوت قائلا: دست رأسي يا جاهل.
قال بنبرات مرتجفة: من أنت؟ - أنا قمقام. - قمقام؟! - عفريت من أهل المدينة.
أوشك أن يتلاشى من الرعب فانعقد لسانه. - آلمتني فحق عليك العقاب.
عجز لسانه عن أي دفاع، فواصل قمقام حديثه: سمعتك أمس يا منافق وأنت تقول إن الموت علينا حق، فما بالك تبول من الخوف؟!
نطق أخيرا بضراعة: ارحمني، أنا رب عائلة. - لن يحيق عقابي إلا بك أنت. - ما فكرت لحظة واحدة في التعرض لك. - يا لكم من مخلوقات مزعجة! لا تكفون عن الطمع في استعبادنا لتحقيق أغراضكم الدنيئة .. ألم يشبع نهمكم باستعباد الضعفاء منكم؟ - أقسم لك ...
فقاطعه: لا ثقة لي في قسم تاجر.
فقال: أسألك الرحمة والعفو. - أي سبب يدعوني لذلك؟
فقال بلهفة: قلبك الكبير. - لا تحاول خداعي كما تخدع زبائنك. - افعلها لوجه الله. - لا رحمة بلا ثمن، ولا عفو بلا ثمن.
Halaman tidak diketahui
فشرق بالأمل المباغت فقال بحرارة: إني أفعل ما تشاء. - حقا؟
فقال بلهفة: بكل ما أملك من قوة.
فقال بهدوء مخيف: اقتل علي السلولي.
غرقت الفرحة في خيبة غير متوقعة، كسلعة وردت بعد أهوال من وراء البحار، ثم تبين عند الفحص فسادها .. تساءل بذهول: علي السلولي حاكم حينا؟ - دون غيره. - لكنه حاكم، ويقيم في دار السعادة المحروسة، وما أنا إلا تاجر.
فهتف: إذن فلا رحمة ولا عفو. - سيدي .. لم لا تقتله بنفسك؟
قال بحنق: استأنسني بسحر أسود، وهو يستعين بي في قضاء مآرب لا يرضى عنها ضميري. - لكنك قوة تفوق السحر الأسود! - نحن بعد نخضع لقوانين معينة، دع المناقشة، لك أن تقبل أو أن ترفض.
قال صنعان بحرارة: أليس لك رغبات أخرى؟ لدي مال موفور وسلع من الهند والصين. - لا تبدد الوقت سدى أيها الأحمق.
اشتد به الإغراء من جديد فنطق به اليأس قائلا: إني طوع أمرك. - حذار أن تحاول خداعي. - سلمت الأمر لقدري. - ستكون في قبضتي ولو أويت إلى جبال قاف.
عند ذاك شعر صنعان بألم حاد في ساعده فصرخ صرخة جرفت أعماقه.
2
Halaman tidak diketahui
فتح صنعان عينيه على صوت أم السعد وهي تقول «ماذا أخرك في النوم؟» .. أشعلت الشمعدان فجعل ينظر فيما حولها بذهول .. إن يكن حلما فما له يمتلئ به أكثر من اليقظة نفسها؟! .. إنه حي لدرجة تجلب الذعر .. رغم ذلك ابتل ريقه برحيق النجاة فهيمن عليه هدوء وامتنان .. رد العالم إلى نظامه بعد خراب شامل ونعم بعذوبة الحياة بعد عذاب الجحيم .. تنهد قائلا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
نظرت أم السعد نحوه وهي تدس خصلات مبعثرة من شعرها داخل منديل رأسها وقد طمس النوم على رونق وجهها بطبقة زيتية، فقال ثملا بالنجاة: الحمد لله الذي أنقذني من كرب عظيم. - الله يحفظنا يا أبا فاضل. - حلم فظيع يا أم السعد. - خيرا إن شاء الله.
وقادته إلى الحمام فأشعلت مصباحا في كوة، وتبعها وهو يقول: قضيت شطرا من الليل مع عفريت. - كيف وأنت الرجل التقي؟ - سأقصه على الشيخ عبد الله البلخي، اذهبي الآن بسلام لأتوضأ.
راح يتوضأ .. عندما هم بغسل ساعده اليسرى توقف مرتعدا. - رباه!
جعل ينظر بذهول إلى جرح كالعضة .. ليس وهما ما يرى؛ فمن مغارز الأنياب يبض الدم.
دار رأسه وغمغم: هذا هو المستحيل.
فزع قائما وهرول نحو المطبخ، تساءلت أم السعد وهي توقد الكانون: توضأت؟
مد إليها ساعده قائلا: انظري!
شهقت المرأة متسائلة: ماذا عضك؟ - لا أدري.
فاستحوذ عليها القلق وقالت: نمت على خير حال! - لا أدري ماذا حصل. - لو حدثت في النهار ...
Halaman tidak diketahui
قاطعها: لم تحدث في النهار.
تبادلا نظرة قلقة مضطربة بالخواطر المكتومة .. قالت بفزع: حدثني عن الحلم.
فقال بضيق: قلت إنه عفريت .. ولكنه حلم.
تبادلا النظرة مرة أخرى .. وتبادلا معاناة القلق .. قالت أم السعد بحذر: ليكن الأمر سرا.
أدرك سر مخاوفها المتجاوبة مع مخاوفه .. إذا جرى ذكر العفريت فلا يدري ماذا يحيق بسمعته كتاجر غدا، ولا ماذا تتعرض له سمعة كريمته حسنية وابنه فاضل، قد يلد الحلم خرابا شاملا .. ثم إنه ليس على يقين من شيء .. قالت أم السعد: الحلم حلم .. وسر الجرح يعلمه الله وحده.
فقال بيأس: هذا ما يجب التسليم به. - المهم الآن أن تبادر إلى العلاج، فاذهب إلى صديقك إبراهيم العطار.
كيف يهتدي إلى الحقيقة؟ .. أرهقه القلق حتى أحنقه فجاش بالغضب .. شعر بأنه يمضي من سيئ إلى أسوأ.. وجدانه جميعه يشحن بالغضب والحنق، وطبعه يسوء؛ فكأنه يخلق من جديد على حال تناقض دماثته القديمة الراسخة، ولم يعد يطيق نظرات المرأة، فكره نظراتها ومقت خواطرها ووجد رغبة في تحطيم كل قائم .. وفي غفلة من ذاته الضائعة طعنها بنظرة غاضبة حانقة مستفزة كأنما هي المسئولة عن محنته، ثم تحول عنها ذاهبا وهي تغمغم: ليس هذا بصنعان الذي كان!
وجد في الصالة فاضل وحسنية على ضوء كاب نضحت به ثقوب المشربية .. ارتسم في وجهيهما انزعاج دل على ارتفاع صوته الهائج، فازداد غضبا، وصاح بهما بلا سبب وعلى غير عادة: اغربا عن وجهي.
رد باب حجرته وراءه وراح يتفحص ساعده .. لحق به فاضل بشجاعة .. قال بقلق: لعلك بخير يا أبي.
فقال له بفظاظة: دعني وحدي. - كلب عضك؟ - من قال لك ذلك؟ - أمي.
Halaman tidak diketahui
أدرك حكمتها في إعلان ذلك فرضي، ولكن حاله لم تتحسن .. قال: أمر تافه، إني بخير، ولكن دعني وحدي. - لا بد من الذهاب إلى العطار.
فقال بضيق: لا حاجة بي إلى من يذكرني بذلك.
في الخارج قال فاضل لحسنية: شد ما تغير أبي!
3
غادر صنعان الجمالي داره دون صلاة لأول مرة في حياته مذ صار صبيا .. ذهب من توه إلى دكان إبراهيم العطار .. صديق قديم وجار في الشارع التجاري .. ولما رأى العطار ساعده قال متعجبا: أي كلب هذا؟! ولكن ما أكثر الكلاب الضالة!
وعكف على انتخاب جملة من الأعشاب، وهو يقول: عندي وصفة لا تخيب.
غلى الأعشاب حتى ترسبت مادة لزجة .. غسل الجرح بماء الورد .. غطاه بالمادة وبسطها عليه بملعقة خشبية، ثم عصب الساعد بشاش دمشقي وهو يتمتم: بالشفاء إن شاء الله.
وإذا بصنعان يقول رغما عنه: أو فليفعل الشيطان ما يريد.
تفرس إبراهيم العطار في وجه صاحبه المحتقن فعجب من تغيره وقال: لا تدع جرحا تافها ينال من طبعك الحلو.
فمضى مكفهر الوجه وهو يقول: لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم.
Halaman tidak diketahui
ما أشد جزعه! .. كأنما اغتسل بماء شطة حامية .. الشمس حارة غليظة .. وجوه العباد كئيبة .. وكان فاضل قد سبقه إلى الدكان فاستقبله بابتسامة مشرقة ضاعفت من غيظه .. لعن الجو رغم ارتياحه المعروف لجميع الأجواء .. لا يكاد يرد تحية .. ولا يرحب بأحد .. لا يستبشر بكلمة أو وجه .. لا يضحك لدعابة .. لا يتعظ بعبور جنازة .. لا يسره وجه مليح .. ماذا جرى؟ ضاعف فاضل من نشاطه ليحول ما أمكن بين أبيه والزبائن .. وأكثر من زبون سأل فاضل همسا: ما بال أبيك اليوم؟
فيقول الفتى بامتعاض: به وعكة، لا أراك الله من سوء.
4
سرعان ما تكشف حاله لرواد مقهى الأمراء .. يقصدهم متجهما، يجلس صامتا، أو يحاور محاورة الشارد .. كف عن تعليقاته الضاحكة .. يضجر سريعا فيغادر المقهى .. يقول إبراهيم العطار: عضه كلب متوحش.
فيقول جليل البزاز: لقد فقدناه تماما.
ويقول كرم الأصيل صاحب الملايين وذو وجه القرد: حاله التجارية مزدهرة جدا.
فيقول الطبيب عبد القادر المهيني: قيمة المال تتبخر عند المرض.
فيقول عجر الحلاق الوحيد بين الجالسين على الأرض الذي يدس نفسه أحيانا في أحاديث السادة، يقول متفلسفا: ما الإنسان؟ .. عضة كلب أو قرصة ذبابة.
ولكن فاضل صنعان صاح به: أبي بخير، ما هي إلا وعكة تزول قبل شروق الصبح! •••
لكنه توغل في حال يتعذر الهيمنة عليها .. وفي ليلة التهم من المنزول قدرا مجنونا وغادر المقهى متوثبا لاقتحام المجهول .. كره الذهاب إلى داره فراح يتخبط في الظلام مشعث العقل والإرادة تسوقه أخيلة معربدة .. تمنى فعلا يمتص توتره الثائر ويريحه من العذاب .. وتذكر نساء من أهله شبعن موتا فتمثلن له عاريات في أوضاع جنسية تطفح بالإغراء فأسف على أنه لم ينل من إحداهن وطرا .. ومر بعطفة الشيخ عبد الله البلخي، ففكر لحظة في زيارته والاعتراف بين يديه بما وقع له ولكنه أسرع مبتعدا .. وعلى ضوء مصباح مدلى من هامة أحد أبواب الدور رأى بنتا في العاشرة ماضية في طريقها تحمل بين يديها سلطانية .. اندفع نحوها معترضا سبيلها متسائلا: أين تذهبين يا عروس؟
Halaman tidak diketahui
فقالت ببراءة: راجعة لأمي.
فغاص في الظلام حتى فقد البصر، وقال تعالي أريك شيئا طريفا.
حملها بين ذراعيه حتى اندلق ماء المخلل على جبته الحريرية، ومضى بها إلى ما تحت سلم الكتاب .. حارت البنت في أمر حنانه الغامض، لم ترتح إليه، وقالت متشكية: أمي تنتظر.
لكنه أثار حب استطلاعها بقدر ما أثار مخاوفها .. أغراها عمره - الذي ذكرها بأبيها - بنوع من الاطمئنان .. خالط ذلك قلق مجهول، وتوقع لحلم عجيب .. وندت عنها صرخة باكية تمزق لها وجدانه، وبعثت في مخيلته المظلمة أطيافا مرعبة، فسرعان ما كتم فاها براحته المرتعشة .. لطمته إفاقة مباغتة، فعاد إلى سطح الأرض وهمس متوسلا: لا تبكي .. لا تخافي.
وزحف اليأس حتى قوض أركان العالم .. ومن الخراب الشامل تناهى إليه وقع أقدام تقترب .. وبسرعة قبض على عنقها الرقيق بيدين غريبتين عنه، وتردى في الهاوية كوحش كاسر زلت قدمه .. أدرك أنه انتهى .. انتبه إلى صوت ينادي: بسيمة .. بنت يا بسيمة.
قال لنفسه في يأس كامل: لا مفر.
وضح الآن أن الأقدام تقترب من مكمنه .. وضوء فانوس يتخايل .. دفعته رغبة للخروج حاملا الجثة .. وإذا بوجود ثقيل يقتحم وجوده المتهافت فاقتحمته ذكرى الحلم .. وسمع الصوت الذي سمعه منذ يومين يتساءل: أهذا ما تعاهدنا عليه؟
قال مستسلما: أنت حقيقة إذن ولست حلما! - أنت مجنون ولا ريب. - أوافق على ذلك ولكنك أنت السبب!
فقال الصوت بغيظ: ما طالبتك بشر قط.
فقال بحرارة: لا وقت للمناقشة، أنقذني لأفي لك بما تعاهدنا عليه. - هذا ما جئت من أجله، ولكنك لا تفهم.
Halaman tidak diketahui
شعر بأنه يتحرك في فراغ في عالم شديد الصمت حتى سمع الصوت مرة أخرى: لن يعثر لك أحد على أثر، فتح عينيك تر أنك واقف أمام باب دارك .. ادخل آمنا، إني منتظر.
5
سيطر صنعان على ذاته بقوة خارقة، لم تشعر أم السعد بأن حاله قد ساءت أكثر .. اختفى وراء جفنيه في الظلام وراح يتذكر ما فعله .. إنه شخص آخر .. القاتل المغتصب شخص آخر .. نفسه تتمخض عن كائنات وحشية لا عهد له بها .. الآن يتجرد من ماضيه ويطوي آماله ويقدم نفسه للمجهول .. لم ينم ولم تند عنه حركة تنم عن أرقه .. في الصباح الباكر ترامى إليه صوت نعي .. غابت أم السعد ساعة ثم رجعت وهي تقول: لك الله يا أم بسيمة.
غض بصره متسائلا: ماذا جرى؟ - ماذا حدث للناس يا أبا فاضل؟ البنت اغتصبت وقتلت تحت سلم الكتاب، طفلة يا ربي ولكن تحت جلد بعض الآدميين وحوشا مفترسة.
حنى رأسه حتى تشعثت لحيته فوق صدره وتمتم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. - هؤلاء الوحوش لا يعرفون ربا ولا رسولا.
وأجهشت المرأة بالبكاء.
جعل يسائل نفسه أهو العفريت؟ .. أهو المنزول؟ .. أهو صنعان الجمالي؟!
6
خواطر الحي كله هائجة .. الجريمة حديث الحي التجاري كله .. قال له إبراهيم العطار وهو يجدد له الدواء: الجرح لم يندمل ولكن زال خطره.
ثم وهو يلف ساعده بالشاش: سمعت بالجريمة؟
Halaman tidak diketahui
فقال بامتعاض: أعوذ بالله. - المجرم ليس آدميا، أبناؤنا يتزوجون في حال بلوغهم! - إنه مجنون ولا شك. - أو إنه أحد الصعاليك العاجزين عن الزواج. إنهم يزحمون الطرقات كالكلاب الضالة. - كثيرون يرددون ذلك.
فتساءل العطار متهكما: ماذا يفعل علي السلولي في دار الإمارة؟
ارتجف لدى ذكرى الاسم، وتذكر العهد المعلق كالسيف فوق رأسه، ولكنه جاراه قائلا: مشغول بمصالحه الخاصة وإحصاء الهدايا والرشاوى.
فقال العطار: فضله علينا نحن التجار غير منكور، ولكن عليه أن يتذكر واجبه الأصلي ليبقى لنا.
فذهب وهو يقول: لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم.
7
علم حاكم الحي علي السلولي بما يقال عن الأمن من كاتم سره بطيشة مرجان .. خشي أن تترامى الأقوال إلى الوزير دندان فيرفعها إلى السلطان، فاستدعى كبير الشرطة جمصة البلطي وقال له: هل أتاك ما يقال على الأمن في عهدي؟
لم يتغير هدوء كبير الشرطة الباطني لاطلاعه على أسرار رئيسه وانحرافاته وقال: عفوا يا سيدي الحاكم، ما أهملت ولا قصرت في بث العيون، ولكن الجاني لم يترك أثرا، لم نعثر على شاهد واحد، وقد حققت بنفسي مع عشرات وعشرات من الصعاليك والمتسولين، ولكنها جريمة غامضة لم أعرف لها مثيلا من قبل.
فصاح به: يا لك من جاهل! اقبض على جميع الصعاليك والمتسولين، وإنك خبير بوسائل التحقيق الفعالة.
فقال جمصة بحذر: ليس لدينا من السجون ما يتسع لهم.
Halaman tidak diketahui
فقال الحاكم محنقا: أي سجون يا هذا؟! أتريد أن تلزم بيت المال بإطعامهم؟، سقهم إلى الخلاء، استعن بالجند، وائتني بالمجرم قبل جثوم الليل.
8
انقض رجال الشرطة على الخرابات يقبضون على المتسولين والصعاليك، ثم يسوقونهم جماعات إلى الخلاء .. لم تجد شكوى ولا قسم ولم يستثن الشيوخ .. واستعمل معهم العنف حتى جأروا بالاستغاثة بالله ورسوله وآل البيت .. وراح صنعان الجمالي يتابع الأنباء بذهول وقلق .. إنه الجاني ما في ذلك من شك، ولكنه يمضي مطلق السراح مجللا بالوقار .. مئات من الأبرياء يتعذبون بفعلته النكراء، فكيف صار محور هذا الشقاء كله؟! .. وثمة مجهول يتربص به يهون بالقياس إليه جميع ما سلف .. وهو ضائع تماما ومستسلم بلا شروط .. أما صنعان القديم فقد مات واندثر .. لم يبق منه إلا ذاكرة حائرة تجتز ذكريات كالأوهام .. وانتبه على ضجة تجتاح الشارع التجاري .. ها هو علي السلولي حاكم الحي يخترق الطريق على رأس كوكبة من الفرسان .. إنه يذكر الناس بقوة الحاكم ويقظته ويتحدى البلبلة .. مضى يرد تحيات التجار عن يمين وشمال .. هذا هو الرجل الذي تعهد بقتله .. فاض قلبه بالخوف والمقت .. إنه سر عذابه .. ووقع الاختيار عليه هو ليحرر العفريت من سحره الأسود! .. هو العفريت دون سواه .. نجاته رهن بالقضاء عليه .. تسمرت عيناه في وجهه الغامق الريان ولحيته المدببة وجسمه المائل إلى القصر .. وعندما مر أمام دكان إبراهيم العطار هرع إليه المعلم إبراهيم فتصافحا بحرارة .. وعندما مر أمام دكانه حانت منه التفاتة نحوه فابتسم، فلم يجد صنعان بدا من العبور إليه والمصافحة! وإذا بالسلولي يقول له: سنراك قريبا بمشيئة الله!
رجع صنعان الجمالي إلى دكانه وهو يتساءل عما يعنيه .. هل يدعوه إلى مقابلة؟ .. لماذا؟ .. هل يجد السبيل ميسرا من حيث لم ينتظر؟ .. ربطت قشعريرة بين أعلاه وأسفله .. ردد قوله بذهول: سنراك قريبا بمشيئة الله!
9
ولما أخلد إلى النوم ليلا هيمن عليه الوجود الآخر وسمع الصوت يقول متهكما: تأكل وتشرب وتنام وعلي أنا الصبر!
فقال بتعاسة: إنها مهمة شاقة لا يدرك مشقتها من له مثل قوتك. - ولكنها أسهل من قتل البنت الصغيرة!
فتأوه قائلا: يا للخسارة ! .. طالما عددت من الصفوة الطيبة. - لا تخدعني المظاهر. - لم تكن مجرد مظاهر. - نسيت أشياء يندى لها الجبين.
فقال بارتباك: الكمال لله وحده! - لا أنكر أيضا مزاياك ولذلك رشحتك للخلاص!
فقال بجزع: لولا اقتحامك حياتي ما تورطت في الجريمة.
Halaman tidak diketahui