فسرحنا الناظر في تلك الربى والرياض، وشرحنا الخاطر في تلك الخمائل والغياض، وأصغينا إلى نغمات طيورها الصَّوادح، واستنشقنا أرجَ نسيمها الفائق الفائح، والأطيار قد أخذت في الأفنان بفنون ألحانها، وخلعت القلوب بشدوها على دفها وعيدانها، وناحت فناجت كل مشوق بأنواع الأشواق، وفرحت وقَرِحَت فأخذت الأحزان عن يعقوب والألحان عن إسحاق، وصدحت فصدعت قلب كل متيم ومشتاق، وشدت فشذت في حسن الرَّمل فهيجت بلابل العشاق، وناحت في
النواحي تشكو ألم الفراق، ولها ألف ألف، ولم تكن كالعاشق المسكين ينوح على غصن القوام، ويبكي على خصرٍ وردف، (وفي هذا المعنى، ما يزيد على المغنى):
وهاتفةٍ في البان تُمْلِي غرافها ... علينا وتتلو من صبابتها صُحُفَا
عجبتُ لها تشكو الفراقَ جهالةً ... وقد جاوبتْ من كُلِّ ناحية إِلفا
فلو صدقتْ فيما تقول من الأسى ... لما لبستْ طوقًا وما خضبتْ كفَّا
ولم يكن عندي - إذ ذاك - باعث غرام، ولا لي همة إلى التّتُّيم والهيام، ولا بي من الشّغف ما يذود عن جفني المنام، ولا بي من الهوى ما يقودني إلى الرّدى بزمام، ولا لي تطلُّع إلى التَّضلُّع من ارتشاف رضاب الثُّغُور، ولا عندي من الحنين ما يشب الجنين إلى ضمَّات
1 / 12