لمحت يده تتجه نحوي بزجاجة، فأسرعت أحول بينه ونزع سدادتها، متسائلا: «باردة؟»
تطلع إلي باستنكار وقال: «كالثلج!»
تحسست الزجاجة بيدي فألفيتها دافئة، فقلت: «لا، أريد واحدة باردة.»
قدم الزجاجة إلى أحد الواقفين وهو يبدي تأففه مني. مددت يدي أقلب بين الزجاجات فاكتشفت أن أغلبها دافئ، وأن المياه تخلو من كل أثر للثلج. وانشغل البائع عني بملاحقة العطشى الذين كانوا يمسحون عرقهم، ويزفرون من الحر، فيعالجهم بالزجاجات الدافئة.
راقبتهم يرشفون السائل السحري وهم يتحسسون الزجاجات بأيديهم كأنما ليتأكدوا من قدرتهم على التمييز بين الساخن والبارد، ثم يزدردون محتوياتها في استسلام حتى النهاية، ويدفعون الثمن الذي طالبهم به البائع، وهو ضعف الثمن المعلن عنه، بذريعة الثلج الوهمي، ودفعه كل منهم صاغرا وهو يتطلع أمامه في جمود.
حولت اهتمامي إلى البائع الذي كان يتحرك بنشاط وشيء من الشراسة، وقدرت أنه سيدرك مبتغاه سريعا، ولن تلبث الدكان الخالية أن تمتلئ بالسجائر والحلويات الأجنبية، ثم السلع المستوردة الأخرى، من شرائط وأجهزة وعلب محفوظة.
استغرقني الأمر فلم أنتبه إلا وفي يدي زجاجة دافئة منزوعة الغطاء، فرفعتها إلى شفتي دون وعي.
دفعت الثمن الذي دفعه الآخرون، وواصلت السير على مهل إلى محطة الأوتوبيس، فوقفت مع الواقفين حتى جاء أوتوبيس «كارتر».
أما السبب في إطلاق اسم الرئيس الأمريكي على هذا النوع من سيارات الأوتوبيس، فلا يعود إلى شكلها المميز الذي يشبه دودة كبيرة مكتئبة الوجه، أو طولها غير العادي، أو الضجة المرتفعة التي تحدثها أثناء سيرها، أو ارتفاع أجر ركوبها (خمسة أضعاف الأجر العادي)، أو كونها صنعت في الولايات المتحدة؛ وإنما إلى العلامة المثبتة على جانبها، بجوار الباب الأمامي مباشرة، وتمثل علما أمريكيا يعلو يدين متصافحتين، تعبيرا عن الصداقة.
وهذا - في الغالب - هو السر في فرحة الناس بظهورها في الشوارع منذ عامين أو يزيد؛ إذ اعتبروها أولى بشائر الرخاء الموعود الذي طال بهم انتظاره . وبدوا مستعدين للتغاضي عن الضجة التي تحدثها على أساس أن الضجة شيء مألوف في بلد متخلف كبلدنا، وعن ارتفاع أجرها على أساس الارتفاع العام في الأسعار العالمية، وعن دخان العادم المنبعث منها بكثافة، على أساس أن تلوث البيئة هو من مشاكل الدول المتقدمة وحدها، وعن انعدام المساند والعلاقات؛ مما يؤدي إلى تأرجح الواقفين وتراقصهم، على أساس افتقار حياتنا الجافة إلى شيء من الترفيه.
Halaman tidak diketahui