وقعت في حيرة شديدة؛ فلم يكن في وسعي أن أذكر حقيقة علاقتي باللجنة. فبالرغم من خطورتها وسعة نفوذها، فإنها من الناحية الرسمية لا وجود لها، وأي محاولة للتمسح بها لن تقابل إلا بالاستغراب والسخرية. وإذا كان من الممكن أن يدور الحديث حول هذا الموضوع بيني وبين «الدكتور» نفسه، فمن المستحيل أن أشير إليه في ورقة تأخذها السكرتيرة لتضعها أمام مدير المكتب. أما إذا أغفلت دور اللجنة، فماذا يتبقى؟ أحد هواة الكتابة المجهولين يبغي وضع كتاب عن شخصكم الكريم. وما الذي يضمن له أني لست سوى محتال يسعى للقائه طلبا لوظيفة أو صدقة.
انصرفت مهموما لأدرس الأمر، ورأيت أن الوقت يمضي بسرعة دون أن أتوصل لشيء، وأن محاولة الالتقاء بالدكتور ستستغرق عدة أيام وربما أسابيع، وفي النهاية قد لا تسفر عن شيء؛ لذلك غيرت خطتي مرة ثانية، وعزمت على التفرغ فورا لجمع كل ما نشر عنه بالصحف.
مضيت إلى المبنى الضخم الذي يضم مكاتب أهم الصحف اليومية وأكثرها توزيعا، وطلبت الاطلاع على أعدادها الصادرة منذ ربع قرن؛ فهذا هو التاريخ الذي رأيت أنه يصلح نقطة بدء لتتبع مسيرة «الدكتور» الحافلة.
اتخذت مكاني إلى إحدى الموائد في قاعة المكتبة، وأخرجت من حقيبتي الكراس الفارغ والقلم، بينما أحضر لي الموظف عدة مجلدات من الصحيفة يكسوها الغبار، فتناولت المجلد الأول، وفتحت غلافه، ثم بدأت أقلب الصفحات.
غصت على الفور في عالم غريب من الأحداث المثيرة، والرجال والنساء الذين ملئوا الأسماع والأصداء. وانبسطت أمامي الطموحات التي تأججت يوما في الصدور. استغرقتني صور الماضي، حتى إني كنت أنتزع عيني بصعوبة من الصفحات المغبرة مذكرا نفسي بالهدف الذي أسعى وراءه، فانتقلت إلى الصفحات التالية في تثاقل وكآبة، وأصبحت كمن يستعيد طفولته وصدر شبابه، ويتأمل ما داعبه ذات يوم من أحلام وآمال، ولا يلبث أن يشعر بالأسى عندما يتبين ما صار إليه حاله.
اعتورني دوار من جراء تقليب الصفحات، ونقل البصر بين العناوين والصور، واستنشاق الغبار. وبدأت أشعر بهول المهمة التي وضعتها لنفسي عندما لم أتمكن بعد ثلاث ساعات من استعراض أكثر من عشرة أعداد؛ عندئذ أصابني هبوط مألوف، وشعرت بحاجة ماسة إلى فنجان من القهوة أو كوب من البيرة، لكني لم أجد الهمة الكافية لأن أطلب شيئا من صبي المقصف الذي كان يطل برأسه من مدخل القاعة كل حين.
وحسم موظف المكتبة الأمر عندما أبلغني بانتهاء موعد العمل فتنهدت في ارتياح، وأعدت أوراقي إلى الحقيبة، بيضاء من كل سوء، وحملت الحقيبة وغادرت القاعة.
قمت بعملية حسابية بسيطة فرأيت أن الأعداد التي أريد الاطلاع عليها من هذه الصحيفة بالذات هي 365 × 25 سنة = 9125 عددا. وطبقا لمعدل اليوم، وبفرض أني عملت كل يوم دون انقطاع ودون أن أمرض أو تؤخرني المواصلات أو يعوقني انقطاع الكهرباء أو المياه أو غير ذلك من الطوارئ المألوفة، أكون بحاجة إلى حوالي الألف يوم؛ أي ثلاث سنوات. هذا بالنسبة لصحيفة واحدة.
ولم يكن بوسعي أن أعتمد على صحيفة واحدة فحسب؛ فرغم أن صحفنا القومية تنشر دوما نفس الأخبار والتعليقات، بل ونفس الصور، إلا أن أركان الأخبار الخفيفة وأنباء النوادي والسهرات تتميز بشيء من التنوع. وهي التي عولت عليها؛ فليس ثمة مكان لأنباء «الدكتور» على الصفحات الأولى، طالما أنه ليس بالشخصية السياسية أو السينمائية.
يضاف إلى ذلك المجلات الأسبوعية والشهرية، والصحف والمجلات الصادرة في المشرق والمغرب. ومعنى هذا كله أني إذا أردت أن أكون أمينا مع نفسي، فلا بد لي من التفرغ، تفرغا كاملا، لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات أو أربع، من أجل جمع مادة البحث فقط. وهناك بعد ذلك الوقت اللازم لدراستها وتحليلها، ثم صياغة النتائج التي سأتوصل إليها.
Halaman tidak diketahui