وقد يسأل سائل: ولماذا انعدم «الحس المشترك» بيننا؟ وأجيب جوابا سريعا بأن ذلك يرجع أول ما يرجع إلى التباين الثقافي الواسع المدى، الذي تراه منعكسا في تباين الأزياء وتباين المساكن والمآكل والمشارب. إنك تسير في البلد الأوروبي فيستوقف نظرك التشابه في المساكن حتى لكأن كل إنسان يسكن بيتا لا يكاد يختلف في باب أو نافذة عن بيت زميله، وحتى لتظن أن لا موضع بينهم لاختلاف الفقر والغنى، وتأكل في بيت الأسرة المتواضعة وفي بيت الأسرة الغنية فيدهشك التشابه الشديد بين ألوان الطعام هنا وهناك وطريقة الأكل، حتى لتظن أن القوم كلهم من طبقة واحدة، تخرجوا كلهم في معهد واحد.
أما نحن ...!
الفكرة الواضحة
«ستيوارت تشيس» كاتب معاصر ومصلح وفيلسوف، يروي لنا عن نفسه قصة تستوقف النظر، لها دلالة بعيدة المدى، خلاصتها أنه قد بدأ حياته العاملة مصلحا اجتماعيا متحمسا، لكنه ما لبث أن وجد وسائل الإصلاح «بالكلام» لا تجدي فتيلا، فأخذه العجب: لماذا لا يتأثر الناس بما يقوله وما يكتبه، مع أنه واضح صادق؟ وسرعان ما وجد لنفسه الجواب، وهو أن الأفكار التي يظنها هو، ويظنها معه الناس واضحة، ليست كذلك، فلا بد له - إن أراد إصلاحا حقيقيا - أن يبدأ بأبحاث تحليلية يوضح بها الألفاظ التي يكثر دورانها على الألسن، حينما يتحدث الناس عن إصلاح حالهم. فاسمع إليه يقول: «لما كنت في سن الشباب، أحاول الإصلاح، أخذت أنظم الاجتماعات، وأكتب النشرات، وألقي المحاضرات، وأرسم الخطط، وأنشر الدعاية على نطاق واسع في حماسة حارة، لكن رجائي قد خاب، حين نظرت فوجدت أن الناس ما زالوا على حالهم، لم يتحولوا قيد أنملة عما كانوا عليه حين بدأت حملتي، وكلما مضت بي الأعوام، ازددت يقينا، بأنني فيما كنت أبذل فيه جهدي، إنما كنت أضيع وقتي سدى، فرسالتي - التي لا أزال أعتقد أنها رسالة رحمة وإنسانية - لم تبلغ القلوب؛ إذ الطريق بيني وبين من أخاطبهم مغلق مسدود.»
وصادف هذا الذي قرأته عن «ستيوارت تشيس» هوى في نفسي؛ لأنني في أعوامي الأخيرة، قد تنبهت في شدة وحماسة، إلى أن غموض الأفكار عند الناس هو أس البلاء، فالرءوس ملأى بالأشباح بسبب ما فيها من أفكار غامضة، والتعصب لهذه العقيدة أو تلك قد أنزل بالناس الكوارث، بسبب أفكارنا الغامضة، وحدة الغضب التي تأخذنا عند اختلافنا في الرأي، سببها الأفكار الغامضة، ومجهودات المصلحين تذهب صيحة في واد بسبب الأفكار الغامضة، ولو وضحت الأفكار، لاختفت الأشباح من الرءوس «المسكونة»، وزال التعصب للرأي والعقيدة تعصبا أعمى، وخف الغضب وهدأ الانفعال حين يختلف الناس في وجهة النظر، ووجدت أقوال المصلحين أرضا خصبة صالحة للنماء والإثمار.
فما هي الفكرة الواضحة؟
أول ما أسارع إلى إثباته في الإجابة عن هذا السؤال، هو أننا كثيرا ما ننخدع بالإلف والعادة، فنألف كلمة معينة ونعتاد قولها وسماعها، حتى ليخيل إلينا أنها فكرة واضحة، مع أنها قد لا تكون من الوضوح في شيء، ولا تزيد على كونها «صوتا» مألوفا لأسماعنا، وإني لأحسب أن ديكارت نفسه - وهو على رأس من نادوا في التاريخ الحديث بالتزام التفكير الواضح - قد أخطأ هذا الخطأ الذي أشرت إليه، وهو أن يظن الكلمة المألوفة فكرة واضحة، بدليل أنه قد جعل عبارته المشهورة «أنا أفكر» مقياسا للفكرة الواضحة، يصح أن تتخذ مقياسا لما ينبغي أن يكون عليه الوضوح في غيرها من العبارات، أي أن الفكرة التي تبلغ عنده من درجة الوضوح ما بلغته هذه الفكرة، تؤخذ على أنها هي الأخرى واضحة.
مع أن عبارته هذه تحتوي على كلمتين: كلمة «أنا» وكلمة «أفكر» هما أبعد ما تكون الكلمات عن الوضوح ، ومن ذا الذي يستطيع حتى اليوم أن يقول إنه قطع برأي يقيني جازم في حدود الشخصية الإنسانية وعناصرها التي نجمعها جميعا تحت كلمة «أنا»، أو يقول إن «التفكير» قد عرف معناه على وجه التحديد الذي لا إبهام فيه ولا غموض؟ - كلا، إنما خدع ديكارت بالإلف والعادة، فما دامت كلمة «أنا» مألوفة، وما دامت كلمة «تفكير» معهودة مكرورة، فهما - في ظنه - واضحتان، والعبارة التي تتألف منهما واضحة لا تحتاج إلى مزيد من بيان.
ولدي من التعليق على معنى الوضوح عند ديكارت كلام طويل عريض، لا أجد هنا مكانا لذكره؛ لأنني لا أحب أن أدخل القارئ في مناقشة فلسفية قد لا يكون به ميل إليها، وكل ما أردته هو التحذير من هذا الخطأ الذي سرعان ما يزل فيه الإنسان، حين يظن أن الفكرة واضحة، ما دامت الكلمة المعبرة عنها مألوفة للأسماع.
إذا فمتى تكون الفكرة واضحة؟
Halaman tidak diketahui