ولو كان هذا هكذا، ثم لو كان الأسلاف قد ألبسونا منظارهم، فقد جنوا علينا الجناية التي أودت بنا وستؤدي إلى مهوى الهلاك، فالبس المنظار الذي يطمس لك الفروق بين الأجزاء تجد أفراد المجتمع قد أصبحوا في عينك عجينة واحدة، لا شخصية لزيد ولا فردية لعمرو، ولا وجود لخالد، ومن ثم استبداد المستبد وطغيان الطاغية، ثم عد فالبس المنظار نفسه تجد النمل والبعوض والذباب كلها حشرات، والصقر والغراب والعصفور كلها طيور، والجير والرمل والبازلت كله صخور، وإذا فلا مشاهدات ولا تجارب ولا علوم، ثم عد مرة ثالثة والبس المنظار الموروث الذي يطمس لك الخصائص الجزئية بين يوم ويوم وساعة وساعة، تر الزمان كله قد انحصر في امتداد من فراغ وعدم؛ ومن ثم فلا تعلق بالدنيا الفارغة، ولنضع الرجاء في عالم آخر ...
فالجناية الكبرى التي جنى بها أسلافنا علينا، هي هذا المنظار الذي أورثونا إياه، فاستمسكنا به وتشبثنا كأنما نفقت سوق المناظير ، فلم يعد منظار سواه.
تعالوا نجرب منظار «العجم والروم» - على تعبير الشهرستاني - لتتبدل الدنيا في أنظارنا، فالعجينة المطموسة تصبح أفرادا متباينة الصفات والخصائص، والكون الخلاء يمتلئ في أعيننا ألوانا وأصواتا فيعمر خرابه، وهذه الحياة الزائلة الفانية تنقلب حياة خصبة مليئة تستحق أن نعمل لها كأننا سنعيش فيها أبدا.
ندوة الخميس
لو كان الله قد أتاح لندوة الخميس التي تنعقد في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر كل أسبوع، والتي لبثت على هذا النحو قرابة أربعين عاما، وكثيرا ما ضمت نفرا من أئمة الأدب وقادة الفكر في مصر، بل وفي بعض الشقيقات العربية أحيانا؛ أقول لو كان الله قد أتاح لهذه الندوة عاملين: عنصر المرأة المثقفة والقلم الذي يسجل، لكان لنا بذلك «صالون» أدبي قل أن يكون له نظير، ثم لكان لنا كذلك ديوان من أخصب دواوين الأدب والفكر المعاصرين، فالحديث في هذه الندوة يجري على غير نسق معلوم، ولا يتقيد المتحدثون فيه بشيء من التحفظ والتزمت اللذين يلازمان الكاتب إذا كتب للناس؛ ولذلك تراهم يرسلون أنفسهم إرسالا، هو أصدق ما يعبر عن خواطرهم ومشاعرهم، وهو بالتالي - لو رصده الراصد - مرآة لجانب حي من حياتنا الفكرية والأدبية على السواء.
وسأسوق للقارئ هنا خلاصة لحديث الندوة يوم الخميس الرابع من شهر أكتوبر عام 1952م، ذاكرا من أسماء المتحدثين أحرفها الأولى؛ لأني لم أستأذنهم في هذا النشر، على أنني إذا استطعت أن أنقل أمهات الأفكار التي دارت في الحديث، فلست بمستطيع أن أبث خلال ذلك ما يسود المجتمعين في هذه الندوة دائما من روح الفكاهة العابرة أحيانا، والساخرة أحيانا، فكأنما أنقل للقارئ هنا «رأسا» بغير «قلب»، و«عقلا» بغير «وجدان». إنني أسوق هنا إطارا، وللقارئ أن يملأه بما يسعفه به خياله من نبضات الحياة.
أ :
زارنا في هذه الندوة أديب صيني منذ سنوات، وأراد أن يعلم شيئا عن الاتجاهات الأدبية في مصر، فسأل عن كبار الأدباء الذين يكتبون الأدب «الكلاسيكي» - إذا صحت هذه الكلمة - ثم سأل عمن يكتبون للجمهور ويتصلون به اتصالا مباشرا، وعجب وأسف حين أنبأناه أن ليس بين أدبائنا من يتصل بالجمهور الشعبي هذا الاتصال المباشر الذي يريد.
ت :
إنه كان على خطأ؛ لأن الأديب الحق لا يتصل أبدا بغمار الناس اتصالا مباشرا، إن هذا الاتصال المباشر مهمة الصحفي لا الأديب، وينبغي أن نفرق بينهما تفرقة واضحة.
Halaman tidak diketahui