وظللت على غفلتي حتى فتح عيني صديقي الطبيب البارع حين ذهبنا يوما إلى دار السينما، حيث شهدنا فيها مباراة في الملاكمة جرت بين ملاكمين قيل إنهما مشهوران معروفان في العالم أجمع - وإن كنت لم أعرف عنهما شيئا - وحول منصة المباراة جلست أو وقفت ألوف مؤلفة من المتفرجين، على أشد ما يكون الناس تحمسا واهتياجا، فكانوا يقفون ويقعدون، ويلوحون بأيديهم ويخبطون الأرض بأقدامهم ويصيحون على نحو عنيف مثير، كأنه يوم الحشر قد نفخ له في الصور.
عندئذ ملت نحو صديقي أهمس في أذنه: كيف تبلغ حرارة التحمس عند هؤلاء الناس كل هذا المدى؟ ألسنا مثلهم ننظر إلى اللاعبين فنرى ما يرون؟ لماذا - إذا - ننظر في هدوء وصمت، وينظرون هم في هذه الضجة الكبرى؟ كيف يكون بين الناس كل هذه الفروق والمشهد واحد أمامهم؟!
فضحك صديقي الطبيب البارع ضحكته الرزينة الهادئة، وقال: إن هؤلاء لا يتفرجون على الملاكمة وكفى كما نفعل نحن، وإلا لما كان هناك كل هذا الفرق بيننا وبينهم، لكنهم قد راهنوا بأموالهم على اللاعبين، فأصبح الأمر عندهم أمر كسب أو خسارة، ومن ثم هذا الهيجان العنيف وهذا التحمس الشديد. •••
وأشهد أني منذ تلك الملاحظة اليسيرة العابرة، التي قالها لي الصديق الطبيب، قد فهمت من مجرى السياسة المصرية ما لم أكن أفهمه من تيارات ودوافع، وانكشف لي عن كثير من سرها الذي ليس بالسر عند النابهين المتنبهين الذين تمتلئ عروقهم بدم الحياة ويشتعلون حرارة بوقدة العيش، وإنما هو سر ينتظر الكشف عند الغافلين المغفلين الذين يجعلون أيامهم عملا وأكلا ونوما.
في حلبة السياسة المصرية تجيء وزارة وتمضي وزارة، كالجياد رأيناها في حلبة السباق تجيء وتمضي، وبين الوزراء يجيئون ويمضون، ما بين الجياد: فمنهم وزراء عاملون قائمون على الحكم، يشبهون الخيل وهي تجري شوطها لاهثة من الجري ، ومنهم وزراء متعطلون يقضون فترة الراحة، فتراهم في الأندية والدور يطعمون وينعمون استجماما واسترخاء؛ استعدادا لدورتهم القادمة - فثلاثون عاما من أعوام السياسة المصرية قد علمتهم أن الوزارة دورات متتابعة يتولاها فريق بعد فريق، رضي الناس أو كرهوا.
أما الغافلون المغفلون فيقرءون خبر وزارة تجيء ووزارة تمضي، على نحو ما كنت مع صديقي الطبيب أشهد الملاكمة، يقرءونه خبرا من الأخبار كما يقرءون - مثلا - أن مواعيد القطارات الذاهبة إلى الإسكندرية قد تغيرت مع قدوم الصيف أو حلول الشتاء، فيترتب على ذلك تغيير يسير جدا في حياتهم، أو لا يترتب عليه شيء قط إن لم يكونوا من أصحاب السفر والانتقال - وهم في كلتا الحالتين يقرءون الخبر بجنان ثابت وأعصاب هادئة، ولا يكادون يفرغون من قراءته، حتى يلقوا بالجريدة جانبا، ليمضوا فيما هم ماضون فيه من عمل وأكل ونوم.
وأما النابهون المتنبهون فليست هذه حالهم، فهم أشباه هؤلاء الألوف الذين شهدناهم حول حلبة السباق يراهنون بجهدهم كله ومالهم كله على هذا الحصان أو ذاك، ثم يقفون بعد ذلك في تشوف وتطلع وقلق وأرق وانتظار، ترى هل يكتب لهم في ميدان السباق صعود أم هبوط؟ ترى هل يخرجون من الزحام ظافرين أم خاسرين؟
ويختلف المراهنون في ميدان السياسة المصرية أحزابا على نحو ما رأينا المراهنين في حلبة السباق يختلفون مذاهب: ألم تر فريقا من المراهنين على الجياد يفضل الرهان على جواد كسبه قليل لكنه أكثر ضمانا من غيره لأنه سباق؟ وفريقا آخر يؤثر الرهان على جواد مغمور بعض الشيء لكن كسبه غزير موفور إن صادفه التوفيق وحالفه النجاح.
فهكذا يتخير المشتغلون بالسياسة المصرية أحزابهم: هل يناصر هذا الحزب أو ذاك؟ أما هذا الحزب فأشياعه كثيرون والرجحان في الكسب من ورائه قليل، وأما ذلك الحزب فأشياعه قليلون واحتمال الكسب من ورائه كبير، وذلك الحزب الآخر لا رجال فيه، فطريق الوزراء لأعضائه البارزين مفتوح. وهكذا يأخذ المشتغلون بالسياسة المصرية في المفاضلة بين حزب وحزب، ثم يختلفون في اختيارهم باختلاف أمزجتهم وطباعهم، فمن الناس من يحب المغامرة الجريئة التي إما رفعتهم إلى قمة الجبل الشاهق أو جاءتهم بالهلاك، كهؤلاء الذين نقرأ عنهم في الأساطير من طلاب الكنوز المدفونة في الجزر البعيدة، تراهم يركبون في سبيل بغيتهم كل صعب، فإما كنز يقعون عليه فتدين لهم الدنيا أو يهلكون، لكن الناس فيهم إلى جانب هؤلاء المغامرين من أذلهم الحرص فأرادوا السير الهين السلس وإن أبطأ.
ورءوس الأحزاب المصرية على أتم علم بجوانب الموقف ما ظهر منها وما استتر، فهم يعلمون حق العلم أن ليس الأمر بين الناس مرهونا باختلاف الآراء وتشعب الفلسفات، ليس الأمر عند المشتغلين بالسياسة المصرية موقوفا على اختلاف المنهج، فوزارة تجيء لأنها اشتراكية والناس قد صوتوا في الانتخاب للحكم الاشتراكي، أو لأنها محافظة على النظام الاقتصادي القديم والناس قد أرادوا عند التصويت لهذا النظام القديم أن يبقى، إنما الأمر كله كسب شخصي وغنائم، الأمر كله رهان في حلبة السباق: أي الجياد أقرب إلى أن يملأ جيوبي بالمال وجوفي بالطعام فأراهن عليه ... وأدرك رؤساء الأحزاب المصرية ذلك أتم إدراك، فراحوا - كلما جاء الحكم إلى فريق منهم - يغدقون على أنصارهم ألوان النعيم جزاء ما رهنوا، ولقاء ما بذلوا من جهد جهيد في الصياح والهتاف والقلق والأرق.
Halaman tidak diketahui