السَّمَاء فابتسمت ثغور الْآفَاق عَن شنب قطرها. وأشرقت الأَرْض بِنور رَبهَا. وأرضعت حوامل المزن أجنة الأزهار فِي أحشاء الْأَرَاضِي. فالخلق كلهم فِي التكافي والتصالح والتراضي. وَلِهَذَا صَار لِوَاء النَّصْر فِي كل جَانب مديد. وخاب كل جَبَّار عنيد.
وَلما رَأَيْت فضلاء الأقطار وعلماء الْأَمْصَار يجلبون إِلَى حَضرته الرفيعة وساحته المنيعة مَا زَالَت ملْجأ للأفاضل، وملاذا للأواخر والأوائل، بضائع صنائع أفكارهم، وبدائع رسائلهم وأسفارهم [فصاروا مغمورين بذوارف عوارفه الَّتِي تصل إِلَيْهِم على الدَّوَام، ومنتظمين بهَا أَحْوَالهم غَايَة الانتظام، لَا سِيمَا الراحلين إِلَيْهِ القاطعين السباسب والفلوات عائذين بِهِ من مكاره الدهور والنكبات، فَلم أدر أَي شَيْء أجعله ذَرِيعَة للوصول إِلَى ذَلِك الجناب، وأتشرف بتقبيل أنامله الَّتِي تشاهد مِنْهَا آثَار الهطال من السَّحَاب] . فاستفضت من فياض ذوارف العوارف. واستعنت بالنُّون والقلم فِي تَبْيِين المعارف، [مَعَ مَا بِي من مقاساة الأحزان، ومعاداة الزَّمَان بِحَيْثُ أتجرع كؤوسا علق بهَا العلقم، بل أَشد سما من الأرقم، وأتطلب رضى الْأَيَّام، وَهِي عَليّ أضرّ حقدا من الْكبر، وأتلقى الخطوب عاديا من الْبَصَر فَامْتنعَ الرَّاحَة بِالْكِنَايَةِ بَكَيْت، كامتناع الْفَاء من خبر لَعَلَّ وليت، حَتَّى لقِيت يَوْمًا يَجْعَل الْولدَان شيبا، ووهن الْعظم مني واشتعل الرَّأْس شيبا]؛ فَقَامَ الْقَلَم فِي محراب أَطْرَاف البنان، وَركع وَسجد، على مصلى القرطاس واضطرب وارتعد قَائِلا:
(كَأَن فمي قَوس لساني لَهُ يَد ... كَلَامي لَهُ نزع بِهِ أملي نبل)
(كَأَن دواتي مطفل حبشية ... بناني لَهَا بعل وَنَفْسِي لَهَا نسل)
فَجرى مِنْهُ كتاب بديع الْمِثَال، منيع المنال، مُحِيط تنصب إِلَيْهِ الجداول وَلَا يزْدَاد، وتغترف من لجته السحب فَمَا لَهُ من نفاد، تزهى بِهِ الألسن، وترمق نَحوه الْأَعْين، ويحمله الحذاق على الأحداق. من سَافر فِيهِ نظر، وَكَانَ الذَّوْق السَّلِيم رَفِيقه، علم أَنه تأليف جليل، يضْرب بِهِ الْأَمْثَال على الْحَقِيقَة.
نعم قد جمعت فِيهِ مَا فِي تصانيف الأسلاف من الْقَوَاعِد وَلَا كالروض للأمطار، وتسارعت لضبط مَا فِيهَا من الْفَوَائِد وَلَا كَالْمَاءِ إِلَى الْقَرار، منقولة بأقصر عبارَة وأتمها،
1 / 17