الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
كوخ العم توم
كوخ العم توم
تأليف
هارييت بيتشر ستو
تحرير
جريس دافي بويلان
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
هاني فتحي سليمان
الفصل الأول
كان كوخ العم توم عبارة عن مبنى خشبي صغير قابع بجوار «المنزل الكبير»، وهو الاسم الذي يطلقه الزنوج على مسكن سيدهم. في مقدمته كانت هناك حديقة أنيقة تنمو فيها الخضراوات والفواكه في كل صيف في ظل عناية شديدة. وكانت مقدمة الكوخ بأكملها مغطاة بكرمة بيجونيا قرمزية اللون، وورد متسلق جميل ملتو ومتشابك لدرجة أنه يكاد لا يبقي شيئا ظاهرا من الخشب المصنوع منه الكوخ.
أما وجه العمة كلوي المستدير الأسود اللامع فكان براقا لدرجة أنها بدت وكأنها غسلت وجهها ببياض البيض، مثل إحدى قطع بقسماط الشاي الخاص بها. وكانت ملامحها الممتلئة تشع بهجة وفرحة تحت عمامتها المبسوطة؛ ذلك أن سيدها اليافع جورج كان موجودا، وكان من المؤكد أنه سيثني على طعام العشاء الذي أعدته؛ مما سيعطيها إحساسا كبيرا بالرضا. «بهذه الطريقة كتبت الحرف
q . ألا ترى؟»
كانت العمة كلوي طباخة ماهرة بكل تأكيد، وكانت تعشق الطبخ بكل جوارحها. كان يهابها كل الدجاجات والديوك الرومي والبط في الحظيرة حين يرونها تتقدم نحوهم، وكانوا يفكرون في نهايتهم. وفي الواقع كانت العمة كلوي تفكر دوما في أمور الحشو والشواء، لدرجة كانت تبث الرعب في نفوس الدجاج لو كان ذا عقل. وكانت كعكة الذرة التي تعدها بكل أشكالها المتنوعة - الهوكيك والكعك المحلى والمافن - تعد لغزا محيرا لكل الطباخين الأقل منها مهارة، وكانت تهز خاصرتها السمينة فرحا حين يحاول أحد الخدم الآخرين إعداد وجبة لأي من أصدقاء سيدها. كان وصول الرفاق إلى المنزل، وترتيب طاولات الطعام في الغداء والعشاء بطريقة أنيقة يوقظ في العمة كلوي طاقاتها، ولم يكن هناك منظر محبب إليها أكثر من وجود مجموعة من حقائب السفر على الشرفة؛ ذلك أنها كانت ترى حينها فرصة جديدة لبذل المزيد من المجهود وتحقيق انتصارات جديدة.
وفي إحدى زوايا الكوخ كان هناك سرير مغطى بلحاف أنيق لونه ثلجي، وعلى قطعة من سجادة ذات حجم معقول تغطي جزءا من الأرضية أمام السرير، كانت العمة كلوي تقف في مهابة مثيرة للإعجاب. كانت تلك الزاوية الصغيرة هي الصالون بالنسبة للكوخ. أما السرير على الجانب الآخر فكان هو المصمم للاستخدام، وعليه كان الأطفال السود الصغار يلعبون ويتقافزون كيفما يحلو لهم، من دون كلمة استنكار واحدة من أمهم.
وعلى مقعد صلب بجوار الموقد العريض كان هناك طفلان ذوا شعر يشبه الصوف يحاولان تعليم طفلة صغيرة أخرى كيفية المشي. كانت الطفلة الصغيرة السوداء تقف على قدميها، وتسعى للحفاظ على توازن جسدها للحظات، ثم تقع مرة أخرى بينما يضحك الطفلان الآخران ويهللان لها.
وكانت هناك طاولة آيلة للسقوط كالطفلة الصغيرة سالفة الذكر، كانت تلك الطاولة مركونة في مكان مريح أمام نار الموقد، ومغطاة بقماش وموضوعا عليها فناجين الشاي وأطباقها. جلس العم توم - وهو رجل أسود طويل تبدو عليه علامات الجلد والقوة - إلى الطاولة وكان يحاول نسخ حروف الهجاء على ورقة مقطوعة، وكان السيد جورج ذو الثلاثة عشر عاما يحاول أن يجعل العم توم يفهم هذه الحروف. كان أطفال المنزل الكبير جميعهم يحبون توم ويثقون به. كان يكبر أباهم بقليل، ولم يسأموا أبدا من سماعه وهو يقول كيف أن «السيد شيلبي العجوز» وهو جدهم قد وضع الطفل الصغير الذي أحبه للغاية بين ذراعيه السوداوين حين كان في سن السادسة وقال: «هذا هو سيدك الصغير يا توم. اعتن به والعب معه، ومت في سبيله إذا لزم الأمر. تذكر أنك ملك له.»
وفي نهاية قصته هذه كان توم يقول دوما: «ولم أخذل سيدي أبدا بأي طريقة كانت.»
وقال توم لجورج بينما كانا ينتظران نداء العمة كلوي معلنة عن موعد العشاء: «لقد كنا معا في الطفولة والبلوغ، وسنظل معا في العالم الآخر، حين تفتح السماء أبوابها، وأطفال السيد آرثر الصغار كذلك - إني أحبهم كحبي لأطفالي.»
أجابه جورج: «نحن نحبك تماما كما تحبنا أيها العم توم. لقد علمتني كل شيء أعرفه - أن أسبح وأمتطي الحصان وكل شيء - كما تصنع لي طائرات ورقية أفضل من أي شخص آخر.»
ضحك العم توم وقال: «هذا فتاي! لكنني يا سيدي جورج لم أواجه أبدا صعوبة في صنع ذيول هذه الطائرات الورقية كما أواجه صعوبة في رسم ذيل الحرف
g
الغريب هذا. إنني فقط لا أتذكر كيف كنا نرسم ذيله.»
قال الصبي: «ليس بهذا الشكل أيها العم توم؛ ليس بهذا الشكل.» بينما رسم العم توم ذيل الحرف بطريقة خاطئة. واستكمل جملته قائلا: «بهذه الطريقة كتبت الحرف
q . ألا ترى؟»
قالت العمة كلوي بإعجاب: «بحق السماء، أترى أيها الصبي؟! ليس هناك أطفال في مثل ذكائه! لقد أعددت شيئا رائحته رائعة يا عزيزي؛ رائحته في غاية الروعة!» «حسنا أيتها العمة كلوي؛ إنني جائع أكثر من ذئب يتضور جوعا! كيف الحال أيها العم توم؟»
كانت أصابع الرجل السوداء الكبيرة تتحرك بشكل أخرق بينما أجاب توم: «سأصبح أفضل من كتب بيده يوما.»
وقال جورج: «أيتها العمة كلوي، لقد كنت أتباهى بك أمام العم توم لينكوم. كنت أقول له إن طباخه لا يمكن أن يضاهيك.»
جلست العمة كلوي في كرسيها، وراحت تضحك كثيرا من روح الدعابة التي يتحلى بها سيدها الصغير، وظلت تضحك حتى تدحرجت دموعها على خديها الأسودين اللامعين، وبينما هي كذلك كان يتخلل ضحكها جمل من قبيل «سيد جورج» و«يا لك من فتى!» مخبرة إياه مازحة أنه حالة يخشى منها وأنه ربما يقتلها، بل من المؤكد أنه سيقتلها يوما ما. وبين كل توقع وآخر من هذه التوقعات كانت تغرق في نوبة ضحك كبيرة، وكل نوبة منها أطول وأقوى من الأخرى، حتى بدأ جورج يظن فعلا أنه بارع في إطلاق الدعابات إلى حد كبير، وأنه من الأفضل أن يكون حذرا في حديثه «بطريقة هزلية قدر ما أمكنه.» «أهكذا قلت لتوم؟ أكنت تتباهى هكذا في وجهه؟ يا إلهي! سيدي جورج، يمكنك أن تجعل حتى الحشرات تضحك!»
قال جورج: «أجل، قلت له: «توم، ينبغي أن تتذوق بعض الشطائر التي تعدها العمة كلوي؛ إنها الأفضل.» وأنوي أن أطلب من توم الحضور هنا في يوم ما من الأسبوع المقبل، ثم تقومين أنت بصنع أفضل ما يمكنك أيتها العمة كلوي، وسنذهله.»
قالت العمة كلوي بنبرة مبتهجة: «أجل، أجل، بكل تأكيد. سترى. يا إلهي! ذكرتني ببعض وجبات العشاء التي أعددتها! أتذكر شطيرة الدجاج الرائعة التي أعددتها حين كان الجنرال نوكس يتناول عشاءه عندنا؟ كنت أنا والسيدة نتجادل بشأن ما إن كانت الشطيرة مقرمشة أم لا. لا أعرف ماذا يصيب السيدات أحيانا؛ لكن في بعض الأحيان حين يحمل المرء عبء مسئولية كبيرة ملقاة على عاتقه ويكون تحت ضغط كبير ومشغولا دوما، فإنه كثيرا ما يتجول في الأرجاء ويتدخل في أمور الطبخ نوعا ما! والآن كانت السيدة تريد أن أفعل كذا، وأن أنجز كذا؛ وفي النهاية انزعجت وقلت: «أيتها السيدة، انظري إلى يديك البيضاء الجميلة، وتلك الأصابع الطويلة التي تتلألأ فيها الخواتم، وكأنها زنابق بيضاء يتلألأ الندى عليها؛ وانظري إلى يدي الكبيرتين وأصابعي البدينة القصيرة. والآن ألا تعتقدين أن الرب كان يريدني أنا أن أعد الشطيرة مقرمشة، وكان يريد منك أن تمكثي في صالون الاستقبال؟» يا إلهي! كنت في غاية الفظاظة أيها السيد جورج.»
قال جورج: «وماذا قالت أمي؟» «قالت: لقد ابتسمت ولمعت عيناها - تلكما العينان الرائعتان - وقالت: «حسنا أيتها العمة كلوي، أعتقد أنك محقة في هذا.» وذهبت إلى الصالون. كان بإمكانها أن تشق رأسي لكوني بهذه الفظاظة؛ لكن هكذا أنا؛ لا يمكنني أن أتعامل بلباقة مع السيدات في المطبخ!»
قال جورج: «حسنا، وقد أبليت بلاء رائعا في ذلك العشاء؛ أتذكر أن الجميع كان يقول ذلك.»
قالت العمة كلوي بينما اعتدلت في جلستها: «أليس كذلك؟ لقد وقفت خلف باب حجرة الطعام في ذلك اليوم، وشاهدت الجنرال وهو يمرر طبقه ثلاث مرات طالبا المزيد من شطيرة التوت تلك. وقال: «لا بد أنك تمتلكين طباخة ماهرة أيتها السيدة شيلبي.» يا إلهي! كنت أضحك حتى كدت أقتل نفسي؛ فذلك الجنرال يعرف الكثير من فنون الطبخ. إنه رجل رائع، ذلك الجنرال. إنه ينحدر من سلالة أحد أفضل العائلات في ولاية فيرجينيا! وهو يميز بين الأشياء، مثلي تماما؛ فكما تعرف، هناك مقادير لكل شطيرة أيها السيد جورج، لكن ليس كل شخص يعرف ماهية هذه المقادير. لكن الجنرال يعرف، وقد عرفت ذلك بسبب الملاحظات التي ذكرها.»
في هذه اللحظة كان السيد جورج قد وصل إلى تلك النقطة التي يمكن أن يصل إليها حتى الطفل الصغير، ذلك أنه لم يستطع حقا أن يأكل قضمة أخرى؛ ومن ثم كان لديه من الفراغ ما يمكن أن يسمح له بملاحظة الأطفال ذوي الشعر الصوفي والعيون اللامعة تتابع صنع الكعك بنظرات جائعة من الزاوية المقابلة.
فقال وهو يقطع لقيمات ويلقي بها إليهم: «هاك يا موس ويا بيت. تريدون بعضا من هذا، أليس كذلك؟ هيا أيتها العمة كلوي، أعدي لهما بعض الكعك.»
وانتقل جورج وتوم إلى كرسي مريح في زاوية المدخنة، بينما أخذت العمة كلوي طفلتها على حجرها - بعد أن خبزت بعض الكعك - وبدأت تحشو فم الطفلة وفمها بشيء منه، وبدأت توزع على موس وبيت، اللذين فضلا أن يتناولا الكعك وهما يتدحرجان على الأرض تحت الطاولة، ويدغدغ أحدهما الآخر ويشدان الطفلة الصغيرة من أصابع قدميها بين الحين والآخر.
قالت الأم: «أوه، توقفا أيها الصغيران! ألا يمكنكما أن تتأدبا في حضور السيد الأبيض؟ توقفا عما تفعلانه الآن! من الأفضل لكما أن تنتبها إلى تصرفاتكما، وإلا فسأعاقبكما حين يغادر السيد جورج!»
قال العم توم: «إنهما يتقافزان طوال اليوم ويتداعبان، ولا يستطيعان أن يتأدبا.»
في هذه اللحظة خرج الطفلان من تحت الطاولة وبدآ يقبلان الطفلة بينما كان العسل يغطي أيديهما ووجهيهما.
قالت الأم وهي تحاول إبعادهما: «ابتعدا ! ستلتصقان كل منكما بالآخر ولن تستطيعا أن تنفصلا أبدا إذا ما لم تتوقفا عن ذلك. اذهبا إلى النبع واغتسلا!» قالت ذلك وهي تصفعهما صفعا تسبب في أن يضحك الطفلان ويقع أحدهما على الآخر وهما يخرجان من الباب.
قالت العمة كلوي: «هل سبق ورأيت طفلين مزعجين بهذا القدر؟» بينما كانت تخرج منشفة وتصب عليها بعض الماء من براد الشاي وبدأت تغسل العسل عن وجه الطفلة ويديها، وبعد أن نظفتها حتى أصبحت الطفلة تلمع، وضعتها في حضن توم، بينما انشغلت هي في رفع طعام العشاء عن المائدة. أما الطفلة فانشغلت في العبث بأنف توم ووجهه ولعبت بيديها البدينة في شعر توم الخشن، وهو شيء بدا أنه يرضيها أكثر.
قال توم بينما أمسكها ومد ذراعيه بها لينظر إليها نظرة كاملة: «أليست طفلة جميلة؟» ثم قام وأجلسها على كتفه وبدأ يثب بها ويراقصها، بينما داعبها السيد جورج بمنديله، أما موس وبيت اللذان كانا قد عادا فقد بدآ يزأران عليها وكأنهما دبان حتى صاحت العمة كلوي قائلة إنهما «كادا يصيبانها بالجنون» بسبب إزعاجهما.
قالت العمة كلوي: «أتمنى أنكما نلتما كفايتيكما» حين كانا يزأران ويتقافزان ويتراقصان، وبدأت تخرج سريرا متحركا على شكل صندوق قذر وقالت: «والآن ادخلا يا موس وبيت إلى السرير؛ لأننا سنعقد اجتماعنا الآن.» «أمي، لا نريد ذلك. نريد أن نحضر الاجتماع.»
قال السيد جورج بنبرة حاسمة وهو يدفع السرير: «لا أيتها العمة كلوي، أدخليه مكانه ودعيهما يحضران.»
احتفظت العمة كلوي بكياستها، وأظهرت سرورها البالغ لأن تدفع بسريرهما الصغير تحت السرير الكبير، وقالت وهي تفعل ذلك: «حسنا، ربما سيفيدهما ذلك.»
والآن كان يتعين النظر في أمر تجهيزات وترتيبات الاجتماع.
قالت العمة كلوي: «ماذا نصنع بأمر الكراسي الآن، أعترف بأنني لا أعلم.» وفيما كان الاجتماع يعقد في كوخ العم توم أسبوعيا ولمدة زمنية طويلة من دون فعل أي شيء يتعلق ب «الكراسي»، فقد بدا أن هناك تحفيزا يوقظ الأمل لاكتشاف طريقة لحل تلك المشكلة في اللحظة الراهنة.
قال موس مقترحا: «لقد كسر العم بيتر العجوز ساقي الكرسي كلتيهما الأسبوع الماضي.»
قالت العمة كلوي: «ابدأ أنت! سأحاول أن أعدل من وضع الكرسي.»
قال موس: «سيقف الكرسي مستقيما إذا ما أسندنا ظهره إلى الحائط.»
قال بيت: «إذن لا ينبغي للعم بيتر أن يجلس فيه؛ لأنه دائما ما يسقط من على الكرسي. لقد تدحرج في الغرفة حين سقط عن الكرسي في المرة السابقة.»
صاح موس: «لنقلده إذن! إنه يبدأ في غناء «تعالوا أيها القديسون والمخطئون، اسمعوني أغني.» ثم يسقط عن الكرسي.» ثم بدأ الصبي يحاكي النغمات التي تصدر عن أنف الرجل العجوز، وهو يسقط على الأرض، ليظهر بذلك ما يمكن أن يحدث.
قالت العمة كلوي: «توقف، ألا تشعر بالخجل؟»
لكن السيد جورج شاركه الضحك وأعلن أن موس كان «شقيا.»
قالت العمة كلوي: «حسنا أيها الرجل العجوز، سينبغي عليك أن تحمل تلك البراميل.»
قال موس لبيت على انفراد: «براميل أمنا هي مثل الملائكة الكريمة التي كان السيد جورج يقرأ عنها في الكتاب المقدس - إنهم لا يخذلون أبدا.»
قال بيت: «أنا واثق أن أحدهم انهار في الأسبوع الماضي، وخذلهم جميعا في وسط الغناء؛ كان هذا خذلانا، أليس كذلك؟»
وأثناء هذا الحديث الجانبي بين موس وبيت، تدحرج برميلان فارغان إلى داخل الكوخ، وتم إيقافهما عن الدحرجة بتثبيتهما عن طريق استخدام أحجار على كل جانب منهما، ووضعت بينهما ألواح من الخشب مع وضع عدة دلاء وأحواض صغيرة وكراس متهالكة، وبذا اكتمل التحضير.
قالت العمة كلوي: «السيد جورج قارئ بارع، وأعلم أنه سيبقى ليقرأ لنا. يبدو أن الأمر سيكون في غاية الإمتاع.»
وافق جورج على ذلك بسهولة كبيرة؛ ذلك أن الصبي مستعد دوما للقيام بأي شيء يجعل منه شخصا ذا أهمية.
قرأ السيد جورج الفصول الأخيرة من سفر الرؤيا.
سرعان ما امتلأت الغرفة، وبعد برهة بدأ الغناء مما أسعد جميع الحاضرين. ولم تكن حتى عوائق الإيقاع الأنفي قادرة على منع الأصوات الجميلة الطبيعية التي عجت بها الغرفة المليئة بالحيوية والحماسة. كانت الكلمات في بعض الأحيان هي الترانيم والتراتيل الشائعة والمعروفة التي يتم إنشادها في الكنائس، وفي بعض الأحيان الأخرى تكون الكلمات حماسية ومجهولة أكثر، ويتم اختيارها في اجتماعات المخيم.
وكان أحد الكوبليهات التي تم غناؤها بحماسة كبيرة يقول:
مت في ميدان المعركة،
مت في ميدان المعركة،
المجد لروحي.
وبناء على طلبهم، قرأ السيد جورج الفصول الأخيرة من سفر الرؤيا، وكان عادة ما يقطع قراءته صيحات تعجب وهتافات من قبيل «ها هي الغاية!» و«اسمعوا لتلك!» و«تفكروا في هذه!» و«هل كل هذا سيصبح واقعا؟ أحقا؟»
كان جورج - ذلك الفتى الألمعي الذي تلقى تدريبا دينيا جيدا على يدي والدته - يجد نفسه محط إعجاب الجميع في مثل هذه الاجتماعات التي يقيمها بين الحين والآخر بالكثير من الجدية والجاذبية، وبذلك كان يحصل على إعجاب الصغار ومباركة الكبار، وقد اتفق الجميع على أن «لا يمكن لرجل الدين أن يقرأ بطريقة أفضل منه» و«أنه فتى مذهل بحق!» وسار الفتى نحو منزله تحت ضوء القمر في شموخ كبير وقلبه يمتلئ بمشاعر الحب لأصدقائه المتواضعين في كوخ العم توم.
وفي المنزل الكبير، ووسط أصوات الغناء، جلس السيد شيلبي مع تاجر يحمل اسم هالي في غرفة الطعام، إلى طاولة مغطاة بأوراق وأدوات كتابة. كان وجه السيد شيلبي حزينا، لكنه كان مشغولا بإحصاء ورقات نقدية ثم تقديمها للتاجر الذي كان يحصيها هو الآخر بدوره.
قال الأخير: «حسنا، مضبوط. والآن لنوقع هذه الأوراق!»
سحب السيد شيلبي عقود البيع نحوه بسرعة ووقعها بطريقة رجل يريد أن ينتهي من عمل لا يريد القيام به، ثم دفعها عنه مع الورقات النقدية. ومن حقيبة بالية كانت معه، أخرج هالي ورقة اختطفها السيد شيلبي في لهفة كبيرة.
قال التاجر بينما كان ينهض: «حسنا، لقد تم الأمر.»
قال السيد شيلبي: «لقد تم الأمر.» ثم كررها مرة أخرى بينما كان يطلق زفيرا طويلا.
هالي.
أضاف التاجر قائلا: «لا يبدو لي أنك مسرور بما حدث.»
قال مالك المزرعة بنبرة جادة: «تذكر يا هالي أنك وعدتني أنك لن تبيع توم من دون أن تعلم عن الأشخاص الذين سيذهب إليهم.»
أجابه التاجر: «لقد فعلت ذلك لتوك. لقد بعتني إياه!»
الفصل الثاني
تربت إلايزا على يد سيدتها منذ نعومة أظفارها، فأصبحت مدللتها والمفضلة لديها. كانت إلايزا فتاة ذات شعر أشقر ووجه يكاد يكون أبيض اللون وعينين بنيتين، وكان شعرها مجدولا في شكل ضفائر مجعدة لها كتلة كبيرة تنسدل على جبهتها العريضة، وكانت وجنتاها ورديتي اللون، وكان أحد أجدادها الأربعة زنجيا. وقد تزوجت إلايزا من خلاسي نابه يحمل اسم جورج هاريس كان يعيش في مزرعة مجاورة وأنجبا صبيا جميلا له شعر مجعد قصير، وكان الصبي محط تدليل العائلة ولب قلب والدته الشابة.
في تلك الليلة ارتعشت أصابع إلايزا البنية النحيلة وهي تمسك بالضفائر الجميلة لشعر السيدة شيلبي، فرفعت السيدة نظرها ووجدتها تبكي.
فسألتها بنبرة عطوفة قائلة: «ما الأمر يا طفلتي؟ هاري على ما يرام، أليس كذلك؟»
تداعت إلايزا فنزلت على ركبتيها وقالت وهي تشهق: «أوه، سيدتي! كان هناك تاجر هنا، وكان يتحدث مع سيدي. لقد سمعته.» «حسنا، أيتها الطفلة الساذجة، فلنفترض أن ذلك صحيح.» «أوه، سيدتي. أتعتقدين أن سيدي سيبيع هاري؟»
ألقت الأم الشابة المسكينة بنفسها على الأرض عند قدمي سيدتها وبدأت تشهق وتبكي بحرقة.
قالت السيدة شيلبي بينما ربتت على كتف خادمتها: «يبيعه؟ أيتها الفتاة السخيفة! بالطبع لن يفعل! تعرفين أن سيدك لا يتعامل مع تجار العبيد هؤلاء، وهو لا يبيع أي عبد من عبيده ما داموا يحسنون التصرف. لماذا أيتها الفتاة السخيفة؟! أتعتقدين أن العالم كله يريد أن يأخذ صغيرك منك؟»
أجهشت بالبكاء قائلة: «أوه، سيدتي.» «لكن يا سيدتي ... أوه سيدتي! أنت لن توافقي أبدا، أليس كذلك؟» «هذا هراء يا فتاتي! لكن ولكي تطمئني بالا فلن أفعل. هاك، كفكفي دموعك واذهبي واحتضني طفلك بين ذراعيك. سأمشط شعري بنفسي الليلة.»
انحنت إلايزا وقبلت يد سيدتها البيضاء الصغيرة وذهبت باتجاه الباب، وعنده ترددت ونظرت خلفها وقالت: «أوه، سيدتي. هل أنت واثقة تمام الثقة؟» لمع ثغر السيدة شيلبي بابتسامة منها وأكملت إلايزا طريقها وهي تشعر بارتياح كبير.
كانت السيدة الرقيقة لا تزال مشغولة بضفائرها وجدائل شعرها حين دخل زوجها الحجرة. أخرج الرجل ورقة وجلس يزفر كما فعل من قبل، فقالت زوجته: «آرثر، من كان ذلك الرجل الكريه الشكل الذي كان هنا اليوم؟ أهو أحد تجار الزنوج؟» «لماذا يا عزيزتي؟ ما الذي جعلك تعتقدين هذا؟» «لا شيء، لكن أتت إلايزا إلى هنا بعد العشاء وكانت قلقة للغاية وتبكي. قالت بأنك كنت تتحدث إلى تاجر، وأنها سمعته يخبرك بعرض يخص طفلها.»
قال السيد شيلبي: «أحقا؟» ثم عاد ببصره إلى الورقة التي كان يمسكها والتي بدا أنه يركز في النظر إليها كثيرا، حتى إنه لم يلحظ أنه كان يمسكها مقلوبة رأسا على عقب.
قال في نفسه: «سينكشف الأمر في النهاية. هكذا يحدث دوما.»
قالت السيدة شيلبي بينما أكملت تمشيط شعرها: «لقد أخبرت إلايزا أنك لا تتعامل إطلاقا مع مثل هؤلاء. أنا أعرف أنك بالطبع لا تنتوي بيع أي من عبيدنا.»
قال زوجها: «في الواقع يا إميلي، كان هذا ما كنت أقوله دوما وما أفعله؛ لكن الحقيقة أنني واقع في مأزق ولا يمكنني الخروج منه؛ لذا فسأضطر إلى بيع أحد مساعدي.» «لذلك المخلوق؟ مستحيل! لا يمكنك أن تكون جادا!»
قال السيد شيلبي: «يؤسفني أنني جاد في هذا. لقد وافقت على بيع توم.»
قالت السيدة شيلبي بنبرة تنم عن الحزن والسخط: «ماذا! توم! ذلك الرجل الصالح والمخلص، الذي كان خادمك المخلص مذ كنت صبيا! لقد وعدته أن تعطيه حريته أيضا - لقد تحدث كلانا إليه مئات المرات عن هذا الأمر. حسنا، يمكنني الآن أن أصدق أي شيء - يمكنني الآن أن أصدق أنك ستبيع هاري، ابن إلايزا الوحيد!» «في الواقع، وبما أنك ستعلمين بالأمر كله، فهذا هو ما حدث فعلا. لقد وافقت على بيع كل من توم وهاري كليهما؛ ولا أعلم لماذا تحدثينني وكأنني وحش فقط لأنني أفعل ما يفعله الجميع كل يوم.»
قالت السيدة شيلبي وهي تستجمع رباطة جأشها: «عزيزي، أستميحك عذرا. لقد تسرعت في غضبي. لكنك فاجأتني وكنت غير مستعدة تماما لمثل هذا؛ لكنك بلا شك ستسمح لي أن أتشفع لهؤلاء المساكين. إن توم رجل مخلص وقلبه طيب، رغم أنه زنجي. أعتقد أنه لو كان أمامه خيار أن يفديك بحياته لفعل.» «يؤسفني شعورك هذا يا إميلي.»
قال السيد شيلبي: «أجل، أعلم ذلك؛ لكن ما فائدة كل هذا؟ لا يمكنني أن أجد حلا. أنا آسف حيال شعورك هذا يا إميلي - حقا أنا آسف. وأنا أقدر ما تشعرين به أيضا رغم أنني لا أزعم أنني أشاركك القدر نفسه من هذه المشاعر؛ لكنني أقول لك الآن وبكل صدق إنه لا جدوى من ذلك - لا يمكنني أن أجد حلا. لم أكن أنتوي أن أخبرك بذلك يا إميلي؛ لكن وبصراحة ليس هناك حل وسط بين بيع هذين الزنجيين وبيع كل شيء. إما هما أو كل شيء. لقد حصل هالي - وهو اسم ذلك التاجر - على ملكية رهن، وإن لم أسدده له مباشرة فسيأخذ كل شيء كمقابل له. لقد بحثت حقا هنا وهناك واقترضت المال وفعلت كل شيء عدا أن أستجديه، وكنت ما زلت في حاجة إلى ثمن هذين الزنجيين لكي أكمل المبلغ، وكان علي أن أبيعه إياهما. كان هالي يرغب في الطفل، وقد وافق على تسوية الأمر بهذا الشكل، وليس بأي شكل آخر. كنت تحت سيطرته، وكنت مضطرا إلى فعل ذلك. وإذا كان هذا هو شعورك تجاه بيعهما، فهل سيكون من الأفضل أن نتخلى عن كل شيء؟»
أصيبت السيدة شيلبي بذهول كبير، وفي النهاية استدارت نحو طاولة المزينة ووضعت وجهها بين كفيها وراحت تبكي.
قال السيد شيلبي: «أنا آسف يا إميلي، في غاية الأسف، لكن الأمر قد قضي؛ لقد وقعنا عقود البيع بالفعل وهي بحوزة هالي، وينبغي أن تكوني ممتنة أن شيئا سيئا لم يحدث. كان في مقدرة ذلك الرجل أن يدمرنا جميعا، والآن انصرف عنا. لو أنك كنت تعرفين الرجل كما أعرفه، لكنت فكرت في أننا لن نخرج من هذا المأزق إلا بصعوبة بالغة.» «أهو بهذه القسوة إذن؟» «ليس وقحا بالتحديد، لكنه رجل قاس - إنه يعيش فقط لكي يتاجر ويربح - إنه رجل هادئ وصارم لا يعرف التردد.» «والآن ذلك الصعلوك يمتلك توم وصبي إلايزا؟» «في الواقع يا عزيزتي، هذا أمر يشق علي كثيرا؛ إنني أكره أن أفكر في هذا. يريد هالي أن يعجل بالأمر، ويحوزهما غدا. سأخرج على صهوة جوادي في وقت مبكر للغاية وسأبتعد عن هنا. حقا لا يمكنني أن أرى توم وهو يغادر؛ ومن الأفضل لك أن تذهبي بالعربة إلى أي مكان وتصحبي إلايزا معك. أريد أن يحدث الأمر وهي بعيدة عن الأنظار.»
قالت السيدة شيلبي: «لا، لا. لن أشارك في هذا الأمر المؤلم بأي شكل. سأذهب لأرى توم العجوز المسكين؛ فليساعده الرب في محنته! ينبغي أن يرى العبيد أن سيدتهم تشعر بهم وتشاطرهم حزنهم. أما بالنسبة لإلايزا، فلا أمتلك حتى الجرأة في التفكير في الأمر. ليسامحنا الرب على ذلك!»
وكان هناك مستمع واحد فقط لهذه المحادثة لم يخطر ببال السيد والسيدة شيلبي أنه كان يصغي إلى كلامهما.
كان في حجرتهما خزينة كبيرة بها باب يفضي إلى الممر الخارجي. وحين صرفت السيدة شيلبي الفتاة إلايزا في ذلك المساء، اختبأت إلايزا بتلك الخزانة الكبيرة وضغطت أذنها على الصدع في الباب وسمعت كل كلمة دارت في المحادثة.
وحين صمتت الأصوات، انتصبت من مكانها وتسللت خلسة. كانت إلايزا تتحرك في المدخل وقد شحب لونها وارتعش جسدها وتصلبت ملامحها وضغطت بشفتيها إحداهما على الأخرى، ثم وقفت أمام باب حجرة سيدتها للحظة، ورفعت يدها وكأنها تستجدي السماء في صمت، ثم انسلت إلى حجرتها. كانت حجرتها هادئة وأنيقة وتقع في الطابق نفسه الذي تقع به حجرة سيدتها، وكانت بها نافذة جميلة تدخل منها الشمس. كانت إلايزا تجلس إلى جوارها وهي تحيك؛ وحقيبة صغيرة بها بضعة كتب وبضع أدوات إلى جانبها وكذلك هدايا عيد الميلاد؛ وكان بالحجرة أيضا خزينة ملابسها البسيطة ذات الأدراج - باختصار كانت هذه الحجرة هي منزلها وقد كان كاملا وهانئا. لكن على السرير كان يرقد صبيها ويغط في سبات عميق، كانت جدائل شعره الطويلة تلتف حول وجهه الغائب عن الوعي، وكان فمه وردي اللون نصف مفتوح ، وكانت يداه ممتدتين على مفرش السرير، وقد اعتلت وجهه ابتسامة مشرقة، فبدا وكأنه شمس منيرة.
قالت إلايزا: «طفلي المسكين! لقد باعوك! لكن أمك ستنقذك!»
وأخرجت ورقة وقلما وكتبت في عجالة:
يا سيدتي! سيدتي العزيزة! لا تظني بأنني ناكرة للجميل، لا تظني بأنني وضيعة - لقد سمعت الحوار الذي دار بينك وبين سيدي الليلة وسأحاول أن أنقذ صغيري - ولا تلوميني على ذلك! فليباركك الرب ويجزك عن طيبة قلبك!
وبعد أن طوت الورقة في عجالة ووضعتها، توجهت نحو أحد الأدراج وأعدت كومة صغيرة من الثياب لطفلها، وأحكمت وثاقها حول خصرها بمنديل.
قال الصبي حيث استيقظ حين اقتربت إلايزا من السرير وهي تمسك بمعطفه وقبعته: «إلى أين تذهبين يا أمي؟»
قالت: «اصمت يا هاري. لا ينبغي أن ترفع صوتك، وإلا فسيسمعوننا. هناك رجل شرير يريد أن يأخذ هاري الصغير من أمه ويذهب به بعيدا في الظلام، لكن والدتك لن تسمح له بذلك - ستلبس صغيرها معطفه وقبعته وستهرب معه؛ حتى لا يستطيع الرجل القبيح أن يمسك به.»
وحين قالت تلك الكلمات، كانت قد عدلت ملابس الطفل البسيطة وزررتها ووضعته على ذراعها وهمست له أن يحافظ على سكونه التام، ثم فتحت بابا في غرفتها يفضي إلى الشرفة الخارجية وانسلت عبره في سكون تام.
توهج وجه الفتاة فجأة بفعل ضوء الشمعة.
كانت الليلة متلألئة بأضواء النجوم، وكان الطقس باردا نوعا ما، فلفت الأم شالها على طفلها بينما تعلق هو برقبتها في صمت بفعل شعوره بالرعب.
كان الكلب برونو العجوز من سلالة نيوفاوندلاند يرقد عند نهاية الشرفة، فانتصب واقفا وقد أطلق زمجرة خفيضة بينما كانت إلايزا تقترب منه. تحدثت هي إليه في لطف، فتقافز الكلب العجوز يهز ذيله وكان على استعداد لأن يتبعها. كان الكلب على وشك أن يطلق نباحه تعبيرا عن فرحته ودهشته، لكن مد هاري يده الصغيرة وهمس له «هش!» محذرا إياه، وفي لحظات كانت إلايزا تنقر بإصبعها على زجاج نافذة العم توم.
انتفضت العمة كلوي من مكانها وسحبت الستائر فيما صاحت قائلة: «ما هذا؟ يا إلهي، إنها ليزي!»
فتحت العمة كلوي الباب، فتوهج وجه الفتاة فجأة بفعل ضوء الشمعة.
قالت إلايزا لاهثة: «سأهرب أيها العم توم، وأيتها العمة كلوي! وسآخذ طفلي معي. لقد باعه السيد!»
ارتفعت أربع أياد سوداء في استياء وانزعاج بينما قال كل من العم توم والعمة كلوي: «باعه؟»
قالت إلايزا بنبرة حازمة: «أجل، لقد تسللت إلى الخزانة وسمعت السيد وهو يخبر السيدة أنه باع هاري وباعك أنت أيضا يا توم. أوه، عزيزي توم! باعك أنت أيضا!»
شعر توم وكأنه في حلم، ثم أذهلته الصيحة التي أطلقتها زوجته، فوقع على الكرسي وغاص برأسه بين ركبتيه.
قالت العمة كلوي: «ليرحمنا الرب! ما الذي فعله توم لكي يبيعه سيدنا؟» «لم يفعل أي شيء - لم يبعه لهذا السبب. إن سيدنا لا يريد أن يبيعه، وسيدتنا كذلك - إنها سيدة صالحة. لقد سمعتها وهي تتوسل إلى سيدنا وتستجديه باسمنا؛ لكنه أخبرها أن هذا لن يجدي نفعا؛ وأنه كان مدينا لذلك الرجل، وذلك الرجل كان صاحب سطوة عليه؛ وأن سيدنا إذا لم يدفع ما عليه من دين ويسدده، فكان سيضطر لأن يبيعه هذا المكان بكل ما فيه من أشخاص وينتقل من هنا. أجل، لقد سمعته يقول إنه ليس هناك خيار بين بيع هؤلاء الاثنين وبيع كل شيء، وكان الرجل قاسيا عليه في الاختيار.»
قالت كلوي: «حسنا أيها العجوز! لماذا لا تهرب معها أيضا؟ هل ستنتظر حتى تحمل في النهر؟ إنني لأفضل الموت على الذهاب في ذلك الاتجاه أبدا! لا يزال هناك وقت أمامك - اهرب مع ليزي - وأنت لديك إذن بالتنقل في أي وقت. هيا، هيئ نفسك وسأعد لك أشياءك.»
رفع توم رأسه ببطء ونظر حوله في حزن لكن في هدوء وقال: «لا، لا. لن أهرب. دعي ليزي تهرب - هذا حقها! لكنك سمعت ما قالته! إذا كان ولا بد أن أباع أنا أو أن يباع كل الأشخاص في هذا المكان ويتدمر كل شيء، فسأختار أن يتم بيعي أنا. كان سيدي دوما ما يجدني وقت حاجته - ولن أخذله أبدا. لم أخن ثقته من قبل قط، ولم أستخدم الإذن بحوزتي بأي طريقة تخالف تعهدي، لن أفعل أبدا. من الأفضل أن أرحل أنا وحدي بدلا من أن يتدمر المكان كله ويباع كل من فيه. لا ينبغي أن نلقي باللوم على سيدنا يا كلوي، كما أنه سيعتني بك وبهؤلاء المساكين.»
هنا استدار توم إلى السرير المهترئ الذي يعج بالأطفال الصغار ذوي الشعر الخشن، وانهار تماما. استند توم إلى ظهر الكرسي وغطى وجهه بيديه الكبيرتين، بينما اهتز الكرسي بفعل نحيبه المرتفع العميق والأجش، وتساقطت الدموع من بين أصابعه على الأرض.
قالت إلايزا بينما وقفت عند الباب: «والآن، لم أر زوجي منذ ظهيرة الأمس، ولم أكن أعرف حينها ما كان سيحصل. لقد أصبح لا يطيق وقد قال لي اليوم بأنه كان سيهرب. حاولوا أن تصلوا إليه وأن تخبروه كيف هربت ولماذا، وأخبروه بأنني سأحاول أن أذهب إلى كندا. وإذا لم أره مرة أخرى، فقولوا له إنني أحبه.» ثم أدارت ظهرها لهم ووقفت لحظة ثم أضافت في صوت أجش: «أخبروه أن يكون صالحا قدر إمكانه، وأن يقابلني في الجنة. واستدعيا الكلب برونو أيضا إلى هنا، وأغلقا الباب عليه، ذلك الكلب المسكين! لا ينبغي له أن يهرب معي!»
وبعد أن قالت بضع كلمات أخيرة، وذرفت بضع دمعات وودعتهم وتمنت لهم أن يباركهم الرب، حملت إلايزا طفلها بين ذراعيها وانطلقت بعيدا.
الفصل الثالث
في صبيحة اليوم التالي تساءلت السيدة شيلبي: «لماذا تأخرت إلايزا هكذا؟! لقد دققت الجرس ثلاث مرات ولا يمكنها سماعي! آندي.» فدخل طفل أسود يحمل مياها للحلاقة للسيد شيلبي «اذهب إلى باب غرفة إلايزا واستدعها.» ثم أضافت في نفسها بينما أطلقت تنهيدة: «آه، أيها الطفل المسكين!»
جاء آندي عبر الردهة يتأتئ من الدهشة وقال: «سيدتي، إن أشياء ليزي مبعثرة في غرفتها ويبدو أنها هربت!»
انتفضت السيدة شيلبي واقفة على قدميها ونظرت إلى زوجها. وصاحت قائلة: «شكرا للرب!» لكن السيد شيلبي غمغم بشيء لم يكن مسموعا وأسرع خارجا من الغرفة.
عج المكان بالكثير من الإثارة، لكن السيدة شيلبي كانت في غرفتها تذرعها جيئة وذهابا وهي تبكي وتدعو أن تتمكن الأم الشابة المسكينة من الهرب بسلام قبل أن يلحق بها هالي على حصانه السريع.
كان هناك مجموعة من العبيد السود يقفون وكأنهم غربان على حديد الشرفة حين ظهر التاجر.
سألت ماندي ذات الشعر الخشن كالصوف في نبرة تنم عن اهتمام كبير: «هل ستأخذ هاري الصغير؟»
أجابها التاجر بينما ضربها على ساقيها السوداوين العاريتين بسوطه: «أجل.»
تحول الوهن في وجهها إلى ابتسامة صفيقة وقالت: «هل ستأخذه الآن أم ستنتظر حتى تمسك به؟» وبينما كان التاجر ينظر إليها في دهشة رد عليها راستوس الذي كان جاثما على أحد العواميد: «لقد جعلت ليزي من نفسها صيدا لهم، أوه، ما الذي يجعلها تفعل ذلك؟»
كان هالي قد تقدم نحو المنزل بعد أن دفع بالعبيد على الأرض، فتركهم مجموعة من الأيادي والسيقان السوداء التي تتقافز وتضحك.
ثم تحدث مع السيد شيلبي حديثا قصيرا حانقا اتهمه فيه بأنه ساعد الأم وابنها على الهرب، ثم تلقى سام أمرا بأن يحضر الجياد بعد أن كان قابعا تحت أشعة الشمس ينتظر أن يحدث شيء مثير.
قال آندي لاهثا بينما أراد أن يشدد على أهمية كلماته: «لقد عصت ليزي الأمر وهربت، ويريد السيد منكم جميعا أن تساعدوا السيد هالي في اللحاق بها.»
قفز سام على قدميه وقال: «أوافقك الرأي! تلك المرأة الزنجية ذكية مثل توم، ولكنني سأحضرها إلى هنا في أقصر وقت ممكن.»
اقترب آندي منه كثيرا وحدثه بنبرة خفيضة: «أوه، أحقا؟ حسنا، إذا قبضت عليها فعلا فستجز لك سيدتنا شعرك. إنها لا تريد أن يلقى القبض على ليزي. أتسمعني! لقد سمعتها وهي تقول «شكرا للرب!» حين أخبرتها أن الفتاة قد هربت. إذا كنت لا تريد أن تلهب السيدة ظهرك بالسياط، فعليك أن تحرص على ألا يمسكوا بالفتاة اليوم!»
حك سام شعره الخشن وبدت عليه الحيرة، وعندما رأى التاجر وهو يقترب منهما، بادر قائلا: «تحرك سريعا وجهز تلك الجياد، كما أخبرتك. تتبع الآثار الآن أيها الألمعي، لقد سمعت السيدة وهي تقول «لماذا لا يساعدهم سام صاحب الأنف القوي مع كل من جيري وبيل؟»»
وعندما سمع سام ذلك بدأ يتعامل بجدية وسرعان ما عاد بالحصانين القويين في كامل تجهيزاتهما. كان حصان هالي فرسا يافعا مليئا بالحيوية والنشاط، وكان يتقافز ويتواثب بينما كان سام يسحبه من رسنه.
قال سام وقد لمعت عينه فجأة: «على رسلك! هل أنت خائف؟ حسنا، سأجهزك أنت وسيدك!»
كان هناك شجرة زان طويلة وكبيرة تظلل المكان وتحتها كانت ثمار أشجار الزان الصغيرة المدببة والمثلثة الشكل مبعثرة بكثرة في الأرجاء. اقترب سام بيده من الحصان بينما كان يحمل إحدى هذه الثمار في يده، وبدأ يداعبه ويربت عليه وبدا وكأنه يحاول تهدئة اهتياجه. تظاهر سام بأنه يعدل من وضع السرج، ووضع هذه الثمرة الحادة الصغيرة تحت السرج بطريقة تتسبب للحصان بالانزعاج عند أدنى حمولة عليه، وذلك من دون أن تصيبه بأي خدش أو جرح.
ثم قال سام وهو يدور بعينيه بينما اعتلت شفتيه ابتسامة تدل على أن الأمر قد أنجز: «ها أنا أحاول ضبط كل شيء!»
في هذه اللحظة ظهرت السيدة شيلبي في الشرفة العلوية وأومأت إليه. «لماذا تتلكأ يا سام؟ لقد أرسلت آندي ليخبرك أن تسرع.»
قال سام: «باركك الرب سيدتي! لا يمكن تجهيز الجياد في دقائق، إنهم سيذهبون إلى أقصى المراعي الجنوبية، والرب وحده يعلم ما يمكن أن يحدث!» «حسنا يا سام، ستذهب مع السيد هالي لتدله على الطريق وتساعده. كن حريصا على الجياد يا سام، تعلم أن الحصان جيري كان يعرج قليلا في الأسبوع الماضي، لا تركض به بسرعة كبيرة!»
قالت السيدة شيلبي كلماتها الأخيرة هذه بنبرة خفيضة وتأكيد قوي.
وتشقلب رأسا على عقب.
قال سام بينما رفع عينيه بنظرة تنم عن معان كثيرة: «لنترك الأمر كله لذلك الحصان اليافع.»
ثم قال بينما عاد إلى موقعه تحت شجرة الزان: «والآن يا آندي، أترى، لن أكون متفاجئا إذا ما طرح هذا الحصان السيد النبيل أرضا إذا حاول أن يمتطيه. تعرف يا آندي أن هذه المخلوقات يمكن أن تفعل مثل هذه الأشياء.» ثم نكز سام آندي في جانبه.
قال آندي بنبرة استحسان فوري: «عظيم!» «أجل، أترى يا آندي، تريد السيدة أن تمنحها بعض الوقت - هذا واضح ويمكن لأي شخص عادي أن يلاحظه. وكل ما أفعله أنني أوفر لها بعض الوقت. والآن، أترى، أطلق سراح تلك الجياد، دعها تتحرك بحرية في هذه المساحة وحتى الباب الخشبي، وأتوقع ألا ينطلق سيدنا مسرعا.»
ابتسم آندي.
ثم قال سام: «ولا يمكن لأي شخص أبدا أن يعرف ما سيفعله الحصان. وإذا حدث أن هرب حصان السيد هالي، فسيكون من الطبيعي أن نترك جيري وبيل لكي نساعده.»
وتبعه آندي.
وبدأ الاثنان ينفذان أشكالا كثيرة من رقصات صامتة للتعبير عن فرحتهما، ثم قفز سام في النهاية من الشرفة وأخذ يتشقلب حتى وصل إلى السياج وكأنه كرة سوداء كبيرة. وتبعه في ذلك آندي، فكان يتقافز على يديه وقدميه حتى حط عند أسفل المنحدر تماما في اللحظة نفسها التي خرج فيها السيد هالي من المنزل.
نادى عليهما قائلا: «تعاليا إلى هنا أيها الوغدان الأسودان! أحضرا حصاني.»
صاح سام: «أمرك سيدي!» بينما حل حزام اللجام من العامود وبعد لحظة جاء آندي برفقة الحصانين بيل وجيري.
قال التاجر: «أسرعا، واحرصا على ألا نضيع المزيد من الوقت.» ثم قفز إلى السرج فطرحه حصانه أرضا بقفزة منه ووثب بعيدا وهرع بأقصى سرعة له نحو النهاية البعيدة في الجهة الأخرى من الساحة، وتبعه بيل وجيري.
قفز هالي واقفا على قدميه وصاح: «أمسكا به!» بينما كان يحاول الجري خلف الجياد الهاربة. نظر آندي بعينين بريئتين من فوق كتفيه وقال: «أمرك يا سيدي، من المؤكد أننا سنمسك به، أليس كذلك أيها الفتيان الأذكياء؟ هيا أيها الأطفال، ستساعدوننا جميعا في الإمساك بحصان السيد هالي!»
بدأ خمسون فتى زنجيا أو أكثر بأعمار متفاوتة في الجري وهم يصيحون ويفتحون أذرعهم، وكانت الجياد بالطبع تفر وتتواثب وظلت بعيدة عن متناولهم. ثم اشتركت جميع كلاب المزرعة في العملية، وزادوا من حالة الفوضى، وبدا أن حصان التاجر السريع والمفعم بالحيوية يستمتع حين يرى مدى اقتراب مطارديه منه من دون أن يتمكنوا من الإمساك به. عدت الجياد الهاربة الثلاثة مسافة ميل تقريبا في أرض بها مرج، وبعد هذه الأرض كان هناك غابة مساحتها أربعون فدانا. كان سام قد ترك الحاجز بين الساحة وبين الغابة مفتوحا، فكانت الجياد بين الحين والآخر تختفي فيها لبرهة من الوقت ثم تعاود الظهور مرة أخرى ويبدو عليها وكأنها على استعداد لأن تستسلم. لكن في اللحظة التي تمتد إحدى الأيادي التي تلاحقهم نحو لجام أي منهم، كانت الجياد تهرب بعيدا بأقصى سرعة لديها، وكان التاجر يندفع ويستشيط غضبا، لكن صوته كان غير مسموع في خضم جلبة النباح والصياح وجلبة حوافر الجياد.
كان السيد شيلبي يحاول أن يصيح إليهم بالتوجيهات من النافذة، وكانت السيدة شيلبي في الشرفة العلوية تشاهدهم وتضحك وتبكي، بينما كانت تدعو بأن تحصل إلايزا وطفلها على المزيد من الوقت. وفي الساعة الثانية عشرة تقريبا، كان سام يمتطي ظهر الحصان جيري ويسير بجانبه حصان السيد هالي.
قال الوغد الأسود: «لقد أمسكنا به! ألم أقل لك إننا سنمسك به؟»
غمغم التاجر: «أنتما؟ لولاكما لما حدث كل هذا.»
خرجت السيدة شيلبي إلى الشرفة التحتية وعلى محياها ترتسم ابتسامة لطيفة.
فقالت بنبرة ودية: «ينبغي أن تنتظر يا سيد هالي حتى وقت الغداء، لن نؤخرك طويلا، كما أنه لا بد أنك تشعر بالتعب.»
نظر إليها الرجل بإمعان، لكنها بدت بمظهر بريء تماما، فقال الرجل: «شكرا لك سيدتي؛ أعتقد أنني سأنتظر بالفعل.»
بينما كان كل من آندي وسام آمنين تحت مظلة الحظيرة يتدحرجان على الأرض ويضحكان بسبب نجاحهما.
قال سام: «لن يغادر من هنا قبل الساعة الثانية، وبحلول تلك الساعة لا بد أن تكون ليزي قد قطعت مسافة كبيرة. هيا يا آندي، لنذهب إلى المطبخ. ستحرص سيدتنا على أن نتناول غداء ممتازا هذه المرة.»
الفصل الرابع
عبرت إلايزا حدود المزرعة والأيك والغابة، وسارت على طول الطريق حاملة طفلها بين ذراعيها. كانت كثيرا ما ترافق سيدتها لزيارة أقارب لها في إحدى القرى الصغيرة التي لم تكن تبعد كثيرا عن نهر أوهايو، وكانت تعرف الطريق جيدا. ووفقا لخطة هروبها العاجلة الأولى، فكرت إلايزا في أنها إن استطاعت عبور النهر فستتمكن من الذهاب إلى كندا حيث تعرف أنها ستكون بأمان مع طفلها. كانت تجري طوال الليل وكأنها أحد الأشباح، وقلما كانت تشعر بثقل ابنها الصغير على ذراعيها؛ لكن حين طلع النهار عرفت أنها ينبغي عليها أن تكون حذرة أكثر وألا تثير حولها الشكوك بفعل تعجلها. فعدلت من قلنسوتها وشالها، وأنزلت هاري عن ذراعيها ليمشي بجانبها؛ وحين كانت قدماه الصغيرتان تتعبان، كانت تدحرج أمامه ثمار التفاح وتشجعه على أن يجري خلفها. قطعت مع طفلها أميالا كثيرة بهذه الاستراتيجية، ثم حين وصلا إلى المسارات المليئة بالأشجار، رفعته إلى كتفها وهرعت به باتجاه النهر.
وقبل ساعة من مغيب الشمس كانا قد وصلا إلى المدينة على مشارف نهر أوهايو. كانت إلايزا وابنها من ذوي البشرة البيضاء حتى إن أحدا لم يكن ليشك أنهما عبدان هاربان، وكانت هذه الحقيقة تشعر الأم بالجرأة، ثم استدارت الأم نحو نزل صغير على حافة النهر. كانت المضيفة في هذا النزل مشغولة بإعداد طعام العشاء حين نادتها إلايزا بصوتها العذب والمليء بالألم.
سألت المضيفة بينما تقدمت نحوها: «ما الخطب؟»
تتعثر وتقفز وتنزلق.
سألتها إلايزا: «هل هناك قارب أو عبارة تقل الناس إلى الجانب الآخر؟» «لا، انظري إلى النهر! لقد توقفت جميع القوارب عن العمل.»
نظرت إلايزا باتجاه النهر. كان الوقت حينها في فترة مبكرة من فصل الربيع وكانت المياه هائجة ومضطربة. كانت قطع كبيرة وضخمة من الثلوج تتأرجح جيئة وذهابا في المياه، وبفعل البنية الخاصة لشاطئ كنتاكي حيث تصل الأرض إلى مسافة أبعد في المياه على شكل منحنى، كان الثلج محتجزا ومستقرا بكميات كبيرة، وفي القناة الضيقة الصغيرة القريبة التي كانت تلتف حول المنحنى، كانت قطع الثلج تتجمع بعضها فوق بعض مما أسهم في تكوين حاجز مؤقت أمام الثلج المتساقط الذي تشكل على هيئة طوف كبير، فكسا الثلج النهر كله بالكامل تقريبا حتى شاطئ كنتاكي.
رأت المرأة نظرة الإحباط في عيني إلايزا فقالت: «هل تعرفين شخصا مريضا هناك؟ تبدو عليك علامات القلق البالغ.»
قالت إلايزا وهي تتنهد: «لدي طفل واقع في خطر بالغ، لم أعرف قط بذلك حتى الليلة الماضية، وقد سرت كثيرا اليوم حتى أصل إلى العبارة.»
قالت المضيفة بروح عطوفة: «حسنا، هذا من سوء حظك. أنا حقا آسفة بشأنك. يا سليمان!» وهكذا نادت، فأجابها رجل يرتدي مئزرا جلديا ويداه قذرتان فسألته: «هل سيأخذ ذلك الرجل هذه البراميل إلى الجهة الأخرى من النهر الليلة؟»
فأجابها الرجل: «قال بأنه سيحاول إذا كان هذا ضروريا.» فشرحت لها المرأة قائلة: «هناك رجل يعيش غير ببعيد عن هنا وسيعبر النهر بشحنة ما هذا المساء، إذا ما وجد في نفسه جسارة لذلك. سيصل إلى هنا الليلة ليتناول العشاء؛ لذا فمن الأفضل أن تجلسي وتنتظريه.» ثم أضافت: «ذلك صبي لطيف.» بينما قدمت له قطعة كعك؛ لكن الطفل بدأ يبكي.
قالت إلايزا: «إنه متعب للغاية.»
قالت المضيفة: «حسنا، ادخلا إلى هنا واستريحا قليلا.»
وضعت إلايزا صغيرها على السرير وجلست بجانبه، وأمسكت بيده حتى غط في النوم. وبعد ساعة، نظرت من النافذة في الوقت الذي وصل فيه هالي والزنجيان وهما يمتطيان الجياد إلى باحة النزل. انخلع قلبها من مكانه، ثم حملت طفلها وخرجت من الباب الجانبي في غرفتها وذهبت باتجاه النهر. لمحها التاجر بينما كانت تختفي في ضفة النهر، فهرع بحصانه نحوها ونادى على آندي وسام، وانطلق خلفها وكأنه كلب صيد يطارد أيلا. في تلك اللحظة أخذت تسرع الخطى بأقصى ما تستطيع، وفي لمح البصر كانت عند حافة الماء. أتى خلفها مطاردوها، وشعرت هي بقوة كالتي يعطيها الرب لليائسين وبصيحة عالية منها وقفزة طويلة في التيار الكدر عند شاطئ النهر، لتحط بقدميها على طوف ثلجي. كانت قفزتها يائسة - وكانت مستحيلة عدا في وجه شخص يائس مجنون - وصاح كل من هالي وآندي وسام، ورفعوا أيديهم بينما كانت هي تنفذ قفزتها.
حين حطت إلايزا على قطعة الثلج الخضراء الكبيرة بثقلها تشققت، لكنها لم تمكث عليها سوى لحظة واحدة؛ ذلك أنها وبصيحة حادة منها وبطاقة شخص يائس قفزت على قطعة ثلج أخرى وقفزت مرة ثالثة؛ فكانت تتعثر وتقفز وتنزلق وتثب للأمام مرة أخرى! سقط عنها أحد زوجي حذائها وتقطع جوربها، وتركت دماؤها آثارا على مكان كل قفزة قفزتها، لكنها لم تكن ترى أي شيء ولم تشعر بأي شيء، حتى رأت بشكل خافت وكأنها في حلم ضفة أوهايو وعلى قمة الضفة رجل يحاول مساعدتها.
قال الرجل: «أيا كنت، فأنت فتاة شجاعة!»
أدركت إلايزا وجه الرجل وصوته وعرفت أنه مالك مزرعة ليست بعيدة عن منزلها القديم.
قالت إلايزا: «أوه، أيها السيد سايمز، أنقذني. أنقذني من فضلك. خبئني!»
قال الرجل: «لماذا؟ ما الأمر؟ ألست أنت فتاة السيد شيلبي!»
قالت وهي تشير إلى ضفة كنتاكي: «طفلي! هذا الصبي - لقد باعه! وهذا هو سيده. أوه، سيد سايمز، أنت لديك طفل صغير.»
أجابها الرجل بينما كان يسحبها بقوة نحو قمة ضفة النهر: «أجل، بالإضافة إلى أنك فتاة شجاعة، وأنا أحب الشجاعة أينما وجدتها. اذهبي إلى ذلك المنزل هناك.» ثم أكمل بينما أشار إلى بناية بيضاء كبيرة: «ليس هناك مكان يمكن أن آخذك إليه، لكن من هناك سيعتنون بك. لا أعلم ما سيقوله لي جاري القديم شيلبي؛ لكنك ربحت حريتك، وسأدافع عنها بكل ما أوتيت.»
لم تستطع إلايزا أن تتحدث، لكنها نظرت إليه نظرة عبرت فيها عن شكرها وامتنانها؛ واحتضنت صبيها وسارت مسرعة في اتجاه المنزل، وخرج من النهر ضباب رمادي أخفاها عن عيون التاجر الذي كان يستشيط غضبا عند الجهة الأخرى من النهر.
كانت الساعة قد دقت الحادية عشرة حين وصل سام وآندي إلى المنزل بعد هروب إلايزا وسارا يتصارعان نحو نهاية الشرفة، أما السيدة شيلبي فجاءت مسرعة نحو السور. «أهذا أنت يا سام؟ أين هم؟» «السيد هالي يستريح عند النزل، إنه في غاية التعب والإنهاك يا سيدتي.» «وماذا عن إلايزا يا سام؟» «في الواقع، إنها في الجهة الأخرى من العالم. إنها في أرض كنعان كما يقولون.» «ماذا؟ ماذا تقصد يا سام؟» «الرب يحفظ أولياءه يا سيدتي. لقد عبرت ليزي النهر نحو ضفة أوهايو وكأن الرب أرسل إليها عربة يجرها حصانان.» «تعال إلى هنا يا سام!»
قال السيد شيلبي الذي تبعهما نحو الشرفة: «تعال إلى هنا يا سام، وأخبر سيدتك بما تريد. تعالي يا إميلي» بينما لف ذراعه حولها وأكمل: «أنت تشعرين بالبرد وترتجفين؛ إنك ترهقين نفسك كثيرا.» «أرهق نفسي كثيرا! ألست بامرأة - ألست أما؟ ألسنا مسئولين أمام الرب عن هذه الفتاة المسكينة؟»
صاح سام تحت الشرفة قائلا: «هاك يا آندي، أيها الزنجي، استيقظ. خذ تلك الجياد إلى الحظيرة. ألا تسمع نداء السيد؟» وسرعان ما ظهر سام عند مدخل الصالة وفي يده سعفة نخلة.
قال السيد شيلبي: «والآن يا سام، أخبرنا بالتفصيل كيف كان الأمر. أين إلايزا إذا كنت تعلم؟» «في الواقع يا سيدي، لقد رأيتها بأم عيني وهي تعبر على الجليد الطافي على الماء. حدث الأمر على هذا النحو: وصلت أنا والسيد هالي وآندي إلى تلك الحانة الصغيرة، وكنت أسبقهما لأنني كنت أكثرهم رغبة في الإمساك بليزي، وحين وصلت إلى النزل، كنت على يقين بما يكفي بأنها هي من تسير هناك، وكان السيد هالي وآندي قادمين خلفي. خلعت قبعتي وغنيت بعلو صوتي حتى كدت أحيي الموتى، وبالطبع سمعت ليزي صوتي، وانطلقت عائدة أدراجها حين عبر السيد هالي الباب، ثم اختفت ليزي فجأة في باب جانبي، ونزلت إلى ضفة النهر، ورآها السيد هالي، وصاح فيها، ووقفنا نشاهدها أنا وآندي والسيد هالي. نزلت ليزي إلى النهر وكان التيار يجري باتساع عشر أقدام، وكانت كتل الجليد تنتشر في الأرجاء وتتحرك هنا وهناك، وكأنها جزر عملاقة وسط الماء. أصبحنا خلفها تماما وظننت أننا سنمسك بها، كنت واثقا من ذلك، ثم سمعت صرخة ذعر لم أسمع لها مثيلا من قبل، وأصبحت ليزي فجأة على قطعة من الجليد الطافي على الماء، ثم استمرت في صراخها وقفزاتها، حتى تشقق الجليد تحت قدميها وراح يتشقق بينما تتقافز هي عليه وكأنها غزالة!»
جلست السيدة شيلبي في صمت تام وقد شحب وجهها بفعل شعورها بالإثارة، بينما كان سام يقص القصة.
ثم قالت: «الشكر للرب أنها لم تلق حتفها!»
قال سام: «لولاي اليوم لكان السيد قد أمسك بها بالفعل، أليس كذلك؟ لقد تسببت في هروب الجياد هذا الصباح وظللت أطاردها حتى قرب موعد العشاء، وقد قدت السيد هالي بعيدا عن الطريق مسافة خمسة أميال هذا المساء، وإلا كان سيمسك بليزي بسهولة كما يمسك الكلب بحيوان الراكون. هذا من حسن تدبيري.»
قال السيد شيلبي بشيء من الصرامة بقدر ما مكنه الوضع الحالي: «هذه التدابير هي من النوع الذي سيتحتم عليك أن تتخلى عنه يا سام؛ فأنا لا أسمح بمثل هذه الممارسات مع النبلاء في منزلي.» لكنه أخذ نفسا عميقا وابتسم، بينما خرج الزنجيان لتلقي مكافأتهما على يد العمة كلوي في المطبخ.
الفصل الخامس
كان السيناتور بيرد من ولاية أوهايو يشرح لزوجته القانون الجديد الذي تمت الموافقة عليه وتمريره، والذي يمنع الناس من مساعدة العبيد الهاربين من ولاية كنتاكي أو إيوائهم. أما زوجته التي لا يتخطى طولها مستوى صدره فكانت واقفة وعيناها لامعتان ووجنتاها متوهجتان، وكانت تقول بأنها كانت ستمحو هذا القانون من الوجود لو أتيحت لها الفرصة، ذلك حين أطل كادجو العجوز برأسه ذي الشعر الخشن من الباب وقال: «سيدتي، أيمكنكما الحضور إلى المطبخ لدقيقة؟» «أيمكنكما الحضور إلى المطبخ لدقيقة؟»
أسرعت المرأة القصيرة الطيبة إلى المطبخ بينما وقف السيناتور ينظر مبتسما إلى النار حين سمعها تناديه فجأة: «جون، يا جون! تعال هنا الآن، بسرعة!»
امرأة يافعة ونحيلة ثيابها ممزقة ومتجمدة.
وضع الرجل الورقة من يده وذهب إلى المطبخ، ووقف مشدوها من المنظر أمامه: كان هناك امرأة يافعة ونحيلة، ثيابها ممزقة ومتجمدة وأحد حذاءيها مفقود وجوربها ممزق وقدمها مجروحة وتنزف، وكانت المرأة راقدة في حالة إغماء على كرسيين وضع أحدهما بجانب الآخر. وقد بدت على وجهها علامات العرق البشري المحتقر، لكن لم يستطع أحد أن يتوقف عن الشعور تجاه جمال وجهها بالحزن والشفقة. وقف الرجل صامتا يكاد لا يتنفس. وكانت زوجته والعمة دينا العجوز مشغولتين في محاولات إنعاش المرأة، بينما كان كادجو العجوز يجلس الصبي على ركبته ومشغولا بخلع حذائه وجوربه عنه، وكذلك محاولة تدفئة قدميه الباردتين.
قالت دينا العجوز: «يا لها من مسكينة! يبدو أن برودة الجو هي ما جعلها تفقد وعيها، كانت فاقدة لكل طاقة فيها حين دخلت علي وطلبت أن تدفئ نفسها؛ وكنت قد سألتها لتوي من أين أتت، فوقعت مغشيا عليها في الحال. أعتقد أنها لم تبذل مثل هذا القدر الكبير من الجهد من قبل، وهذا من مظهر يديها.»
قالت السيدة بيرد: «مسكينة!» بينما فتحت المرأة عينيها ببطء وحدقت فيها بنظرات تخلو من أي تعبير، وفجأة، ظهر على وجهها تعبير ينم عن الانزعاج، فهبت من مكانها وقالت: «عزيزي هاري! هل أمسكوا به؟»
في تلك اللحظة قفز الصبي من على ركبتي كادجو وهرع إلى جانبها فصاحت هي قائلة: «أوه، إنه هنا، إنه هنا!»
ثم قالت للسيدة بيرد بنبرة استجداء: «أوه، سيدتي! نلتمس حمايتك! لا تسمحي لهم بأخذه!»
قالت السيدة بيرد مطمئنة إياها: «لن يؤذيك أحد هنا أيتها المسكينة. أنت بمأمن هنا؛ لا تخافي.»
قالت المرأة بينما غطت وجهها وانتحبت: «باركك الرب!» بينما حاول الصبي أن يدخل إلى أحضانها حين رآها تبكي.
هدأت إلايزا كثيرا بمرور الوقت؛ ذلك أن السيدة بيرد كانت تعرف جيدا كيف تهدئ من روعها. تم توفير سرير لها بجانب نيران المدفأة، وبعد برهة قصيرة كانت المرأة تغط في سبات عميق بجانب طفلها الذي نام على ذراعها وكان هادئا تماما.
عاد السيد والسيدة بيرد إلى الصالة ولم يعط أي منهما تعليقا على المحادثة السابقة، لكن السيدة بيرد شغلت نفسها بأعمال الحياكة، وتظاهر السيد بيرد بقراءة ورقة ما.
ثم قال السيد بيرد في النهاية بينما كان يضع الورقة من يده: «أتساءل من تكون هذه المرأة!»
قالت السيدة بيرد: «سنعرف حين تستيقظ ونرى أنها قد استراحت ولو قليلا.»
قال السيد بيرد بعد أن تطلع إلى جريدته في صمت: «أقول يا زوجتي!» «ماذا تقول يا عزيزي؟» «لا يمكنها أن ترتدي أحد ملابس النوم الخاصة بك، بأي شكل من الأشكال، أليس كذلك؟ تبدو وكأنها أكبر حجما منك.»
لمعت ابتسامة خفيفة على وجه السيدة بيرد وأجابته قائلة: «سنرى.»
وبعد لحظة صمت أخرى قال السيد بيرد: «أقول يا زوجتي!» «حسنا! ماذا تقول الآن؟» «هناك ذلك المعطف القديم الذي تحتفظين به عمدا والذي تغطينني به حين أنام قيلولة بعد الظهر؛ يمكنك أن تعطيها إياه؛ إنها بحاجة إلى الملابس.»
في تلك اللحظة دخلت دينا وقالت إن المرأة استيقظت وترغب في رؤية السيدة.
فذهب السيد والسيدة إلى المطبخ، وتبعهما الصبيان الكبيران.
كانت إلايزا الآن جالسة على المقعد الخشبي بجوار النيران.
كانت تنظر إلى ألسنة اللهب بنظرات ثابتة وتعتلي وجهها تعبيرات هادئة تنم عن كسرة القلب، وكانت تلك التعبيرات تختلف للغاية عن حالتها السابقة من الانزعاج.
قالت السيدة بيرد بنبرة لطيفة: «هل أردت رؤيتي؟ آمل أنك تشعرين بتحسن الآن أيتها المرأة المسكينة!»
كانت إجابتها الوحيدة هي تنهيدة طويلة مرتعشة؛ لكنها رفعت عينيها الكئيبتين وثبتت نظراتها البائسة والمتوسلة تجاه السيدة حتى اغرورقت عيناها بالدموع.
قالت السيدة: «لست في حاجة إلى أن تخافي من أي شيء؛ نحن أصدقاؤك هنا. أخبريني من أين أتيت وماذا تريدين.»
قالت إلايزا: «أتيت من كنتاكي.»
قال السيد بيرد: «متى؟» «الليلة.» «كيف أتيت؟» «عبرت النهر على الجليد.»
قال جميع الحضور: «عبرت على الجليد؟!»
قالت إلايزا بنبرة بطيئة: «أجل، فعلت. بمساعدة الرب عبرت على الجليد؛ لأنهم كانوا خلفي - كانوا خلفي تماما - ولم يكن أمامي أي حل آخر.»
قال كادجو: «سيدتي، الجليد كله مكسور إلى قطع كبيرة تتأرجح وتطفو على الماء.»
قالت إلايزا بنبرة غليظة وعينين لامعتين: «أعلم أنه كذلك - أعلم! لكنني فعلتها! لم أكن لأعتقد أني باستطاعتي فعلها - لم أفكر إن كان ينبغي علي ذلك أم لا، لكنني لم أكن أهتم! كنت سأموت لو لم أفعل ذلك. لقد قدم لي الرب يد العون؛ لا يمكن لأي أحد أن يتخيل كيف يمكن للرب أن يساعده إلا إذا حاول.»
قال السيد بيرد: «هل كنت أمة؟» «أجل سيدي، كنت مملوكة لرجل في كنتاكي.» «هل كان لا يرفق بحالك؟» «لا يا سيدي، بل كان سيدا صالحا.» «وهل كانت سيدتك لا ترفق بحالك؟» «لا يا سيدي - لا! كانت سيدتي رفيقة بي دوما.» «إذن ما الذي يدفعك لترك منزل جيد كهذا، والهرب وتعريض نفسك لمثل هذه المخاطر؟»
قالت إلايزا: «سيدتي، هل فقدت طفلا من قبل؟»
استدار السيد بيرد وسار نحو النافذة وانفجرت السيدة بيرد باكية، ثم قالت بعد أن استعادت رباطة جأشها: «لماذا تسألين هذا السؤال؟ لقد فقدت طفلا صغيرا.» «إذن ستشعرين بي. لقد فقدت اثنين، واحدا تلو الآخر - تركتهما مدفونين هناك حين هربت؛ ولم يتبق لي سوى هذا. لم أنم ليلة واحدة من دونه؛ كان هو كل ما أملكه. إنه قرة عيني وما أعتز به في كل يوم وليلة يا سيدتي، وكانوا سيأخذونه مني - كانوا سيبيعونه - جنوبا يا سيدتي؛ كان سيذهب وحيدا - طفل لم يبتعد عن أمه قط في حياته! لم أستطع لذلك صبرا يا سيدتي. علمت أنني لن أكون صالحة لأي شيء بعده إذا ما حدث ذلك، وحين علمت أن الأوراق قد وقعت وأنه قد بيع بالفعل، أخذته ليلا وهربت به، وطاردوني - الرجل الذي اشتراه وبعض عبيد سيدي، وكانوا خلفي تماما وسمعتهم - فقفزت على الجليد ولا أعلم كيف عبرت؛ لكن كنت محظوظة في النهاية إذ ساعدني رجل عند الضفة الأخرى من النهر.»
لم تبك المرأة ولم تنتحب. كانت قد ذهبت إلى مكان تجفف فيه الدموع؛ لكن كل من حولها كان يظهر نحوها تعبيرات التعاطف معها.
كان الصبيان قد ألقيا بأنفسهما في جونلة فستان والدتهما، حيث بكيا وانتحبا ملء صدورهما؛ وغطت السيدة بيرد وجهها بمنديلها، بينما هتفت دينا العجوز بحماسة كبيرة والدموع تتحدر على وجنتيها: «فليرحمنا الرب!» فيما كان كادجو العجوز يمسح عينيه بأطراف كمه.
حيث بكيا وانتحبا ملء صدورهما.
قالت السيدة بيرد حين تمكنت من الحديث مرة أخرى: «وإلى أين تنوين الذهاب أيتها المرأة الصالحة؟»
أجابت وهي تنظر إلى وجه السيدة بيرد بنظرة ثقة: «إلى كندا، إلا أنني لا أعرف أين هي. أهي بعيدة عن هنا؟»
قالت السيدة بيرد بعفوية: «أيتها المسكينة!» «هل هي بعيدة لهذه الدرجة؟»
قالت السيدة بيرد: «أبعد مما تظنين أيتها الشابة المسكينة! لكننا سنحاول ونفكر فيما يمكن أن نساعدك به. هيا يا دينا، أعدي لها سريرا في غرفتك، بالقرب من المطبخ، وسأفكر فيما يمكن أن نفعل لها في الصباح.»
كان السيد والسيدة بيرد قد عادا مرة أخرى إلى الصالة، جلست السيدة في كرسيها الهزاز أمام النار، وراحت تهتز به للأمام والخلف وهي غارقة في التفكير. بينما ذرع السيد بيرد الغرفة جيئة وذهابا وهو يغمغم في نفسه: «أف! يا له من أمر مربك ومحير!» ثم قال وهو يتجه نحو زوجته: «أقول يا زوجتي إنها ينبغي أن تذهب بعيدا عن هنا في هذه الليلة. إن ذلك الرجل سيتبعها وسيأتي إلى هنا في الصباح الباكر؛ ولو كانت المرأة وحيدة لكان بإمكانها أن تختبئ بلا حراك حتى ينتهي الأمر، لكن ذلك الطفل الصغير لن يصمت أمام الكثير من الجياد والأشخاص، إنني خائف من أن يكشف نفسه بأن يطل برأسه من أحد الأبواب أو النوافذ. سيكون من غير المفيد لي أن يتم الإمساك بهما عندي! لا، ينبغي أن يرحلا عن منزلنا الليلة.» «الليلة! كيف ذلك؟ وإلى أين؟»
قال السيناتور بينما كان قد بدأ في ارتداء حذائه: «في الواقع أعرف جيدا إلى أين يمكنهما أن يذهبا.»
كانت السيدة بيرد امرأة حصيفة، امرأة لم تقل في حياتها أبدا جملة «لقد أخبرتك بذلك!» وفي اللحظة الراهنة، وعلى الرغم من معرفتها بالشكل الذي تتخذه أفكار زوجها، إلا إنها لم تتطفل عليه فيها، بل جلست في غاية الهدوء في كرسيها، وبدت مستعدة لأن تسمع أفكار زوجها حين يرى أنه من الملائم أن ينطق بها.
قال السيد بيرد: «هناك عميلي القديم، وهو فان ترومب، وقد أتى من كنتاكي وحرر جميع العبيد لديه، وقد اشترى منزلا في الغابة على بعد سبعة أميال من النهر هنا، وهو مكان لا يذهب إليه أحد إلا عمدا، كما أن ذلك المكان لا يمكن للمرء أن يجده وهو على عجلة من أمره. هناك ستكون هذه المرأة بأمان؛ لكن أسوأ ما في الأمر أنه ليس بمقدور أحد سواي أن يقود العربة والخيول إلى ذلك المكان.» «ولماذا؟ إن كادجو يقود العربة بمهارة.» «أجل، أجل. لكن إليك السبب. لا بد وأن يتم عبور النهر مرتين، وتكون المرة الثانية في غاية الخطورة إلا إذا كان المرء على دراية كبيرة بها كما أفعل. لقد عبرت النهر مئات المرات على ظهر الخيل وأعرف تماما الخطوات والمنعطفات التي أسلكها. ينبغي أن يجهز كادجو الجياد بحلول الثانية عشرة عند منتصف الليل، بأقصى قدر يستطيعه من الهدوء، وسوف أوصلها إلى هناك؛ ثم أذهب بعد ذلك إلى حانة كولومبوس عند الساعة الثالثة أو الرابعة، وبهذا سيبدو الأمر وكأنني لم آخذ العربة سوى للذهاب إلى تلك الحانة.»
قالت الزوجة بينما وضعت يديها البيضاء ضئيلة الحجم على يديه: «قلبك أفضل من عقلك في هذا الموقف يا جون. هل كنت لأحبك قط لو لم أكن أعرفك أفضل مما تعرف أنت نفسك؟» وبدت المرأة رائعة الجمال حين ترقرقت الدموع في عينيها، حتى ظن السيناتور أنه رجل في غاية المهارة والذكاء بحيث تمكن من جعل مخلوق في غاية الجمال والروعة كزوجته تمدحه، وبهذا ما الذي يمكن له أن يفعله سوى أن يسير مبتعدا عنها لينظر في أمر العربة؟ وقف الزوج عند الباب لحظة ثم قال بينما عاد إليها وفي صوته شيء من تردد: «ماري، لا أعرف كيف سيكون شعورك حيال الأمر، لكن هناك ذلك الدرج المليء بأشياء ... أشياء هنري.» وبقوله لتلك الكلمات استدار مسرعا وسار نحو الباب وأغلقه خلفه.
فتحت زوجته باب حجرة النوم الصغيرة الملحقة بحجرتها، وأخذت الشمعة ووضعتها على مكتب بها؛ ثم أخرجت مفتاحا من تجويف صغير ووضعته ببطء في قفل أحد الأدراج، ثم توقفت فجأة؛ حيث وقف طفلان صغيران كانا قد تبعاها وراحا ينظران إلى أمهما.
فتحت السيدة بيرد الدرج ببطء.
فتحت السيدة بيرد الدرج ببطء، وكان به الكثير من المعاطف الصغيرة المتعددة الأشكال، وأكوام من المآزر وصفوف من الجوارب الصغيرة، ومن بين طيات ورق برز زوجان من الأحذية الصغيرة كان يبدو عليها أنها ارتديت من قبل، وقد ظهرت عليها آثار من ناحية الجزء الذي يغطي أصابع القدم. وكان بالدرج دمية على شكل حصان وعربة فوق كرة. جلست السيدة بيرد واتكأت برأسها على راحتي يديها وظلت تبكي حتى انسابت الدموع من بين يديها وسقطت على الدرج؛ ثم فجأة وبشيء من التوتر أسرعت بتجميع أبسط الأشياء وأهمها وتحزيمها.
قال أحد الطفلين وهو ينظر إليها في دهشة: «أمي، هل ستتبرعين بهذه الأشياء؟»
لفت ذراعها بلطف بالغ حول كتفه وقالت: «عزيزي، لو كان هنري الصغير ينظر إلينا من السماء الآن فسيكون مسرورا لأن نفعل ذلك. لم يكن بإمكاني أن أعطيهم لأي أحد يشعر بالسعادة، لكنني أعطيهم لأم تشعر بالحزن أكثر مني، وأصلي للرب أن يبارك لها في صبيها.»
كانت الدموع تسيل غزيرة على خديها، ولمعت بعضها على المعطف الصغير وكأنها قطرة ندى، لكن شفتيها كانتا تبتسمان ابتسامة رائعة. ثم استدارت وأخذت من خزانة ملابسها بعض الملابس التي يمكن لإلايزا أن ترتديها، ثم جلست تقيس طولها. وأحضر الصبيان صندوقا صغيرا مغطى بالجلد من العلية وساعداها على حزم الملابس فيه. كان الوقت قد تخطى موعد نومهما بفترة طويلة، ونظرا إلى الساعة ثم إلى بعضهما ثم استرقا النظر إلى أمهما. لكنها سمحت لهما بأن يظلا مستيقظين؛ لأنها شعرت أنهما الآن يتلقيان أول وأفضل دروسهما في مساعدة المحتاجين والعطف عليهم. «أجل، يا إلهي. أجل.»
دقت الساعة معلنة الثانية عشرة، وسمعوا صوت العجلات على الطريق خارج المنزل. كانت تلك إشارة إيقاظ إلايزا وصبيها الصغير. ظل الصبيان يداعبان الطفل الصغير تحت ذقنه حتى ضحك وفتح عينيه، وألبساه حذاءه وجوربه وجهزاه للرحلة التي هو على وشك أن يخوضها. كانت السيدة بيرد تساعد إلايزا في تحضيراتها ووضعت حول جسدها معطفا ليدفئها حين أكملت الفتاة المرتعشة ارتداء ملابسها.
قال السيد بيرد: «هيا!» بينما دخل الغرفة مرتديا معطفا كبيرا ويمسك في يده مصباحا مضاء ثم تبعاه حيث كانت العربة تنتظرهم في الخارج. ساعد السيد بيرد إلايزا على ركوب العربة وأخذت هي هاري على ساقيها وخبأته تحت المعطف الذي ترتديه، وكأنها كانت خائفة من أن تراه النجوم وتفشي سر مكانه إلى من يبحثون عن العبيد. وحين جلست هي وصبيها وارتاحا في جلستهما، أخذ السيد بيرد مكانه على العربة.
قال الطفلان الصغيران في صوت واحد بينما كانا يقفان بجوار والدتهما على درج المنزل: «وداعا.»
انحنت إلايزا خارج العربة وأمسكت بيد السيدة بيرد، وحاولت أن تتحدث مرة أو اثنتين لكن ذابت الكلمات على شفتيها. لكن عينيها الواسعتين الداكنتين كانتا مثبتتين على وجه صديقتها وتملؤهما نظرات الامتنان والعرفان الصادقة، ثم رفعت يدها وأشارت باتجاه السماء، ونظرت إليها نظرة لا يمكن أن تنسى أبدا. ثم غطت وجهها وأغلق باب العربة.
قال كادجو العجوز للجياد: «هيا تحركوا، انطلقوا.» فبدأت الجياد تجري نحو البوابة وخرجت إلى الطريق. كانت العربة تترنح وتصر وأحيانا ما كانت تغوص عميقا حتى محاور العجلات في الطين، لكن الجياد ظلت تسير من دون وقوع أي حادث؛ ذلك أن كادجو العجوز كان يقود العربة ويعرف قصة هروب إلايزا وكان يعرف ما تعنيه الحرية.
كانت ساعة متأخرة من الليل وبعد رحلة صعبة تملؤها المخاطر حين وصلت المجموعة الصغيرة إلى المنعطف الأخير من جدول صغير، فعبرته العربة ووصلت إلى بوابة كبيرة لمنزل ريفي. ذهب السيد بيرد بسرعة نحو الباب وطرقه، وأتاه صوت جهوري عميق من الداخل يقول: «من أنت وماذا تريد؟»
أجابه السيناتور بيرد بأن أخبره باسمه، وأضاف: «أريد أن أعرف إذا ما كنت أنت الرجل الذي سيئوي امرأة مسكينة وطفلها ويحميهما من صائدي العبيد؟»
وعرفت إلايزا أن الليلة الطويلة المليئة بالرعب قد انتهت حين رأت وجه الرجل النبيل والقوي الذي انفرج عنه الباب وسمعت إجابته الرنانة: «أجل، يا إلهي. أجل.»
وضع المزارع العريض المنكبين مصباحه بداخل الباب على الأرض وخرج ليساعد إلايزا وهاري؛ لكنه توقف وسلم بيده على السيناتور بيرد، وعرف تفاصيل هروب إلايزا منه. ثم دخلوا جميعا المنزل، واكتست النيران بداخل حجرة المعيشة بوهج مبهج بعد أن كانت مشتعلة تحت غطاء من الرماد. مكث السيد بيرد وكادجو طويلا بما يكفي ليدفئا نفسيهما ويستعيدا طاقتيهما؛ لأن السيناتور أراد أن يحتفظ بتلك الرحلة الليلية سرا عن جيرانه. لكن أرسلت إلايزا وطفلها إلى الطابق العلوي ليستريحا في ظل عناية امرأة سوداء ناعسة كانت قد أوقظت من نومها قبل أن يرحل السيد بيرد وكادجو، وقبل أن يبدأ السيد بيرد رحلة عودته كان قد حصل على تأكيد من المزارع أنه سيوفر للاجئيه المأوى حتى يتمكن من إرسالهما بأمان إلى مستعمرة كويكر، حيث سيمكثان حتى يتمكن أصدقاؤه من إرسالهما إلى كندا.
ثم دخل السيناتور إلى العربة وبدأت الخيول رحلة العودة إلى المنزل بعد أن كانت قد حل وثاقها وأطعمت خلال الفترة التي مكثوها في المنزل.
وصل السيد بيرد وكادجو إلى المنزل من دون أن يقابلوا أحدا، وأثناء الفطور في صباح اليوم التالي قال أحد الصبية: «لا أحد يعلم بأمر رحلة الليلة الماضية عداك يا أبي وأمي وتوم وأنا وكادجو، أليس كذلك يا أبي؟»
ابتسم السيد بيرد وأومأ مجيبا إياه أن نعم، لكن الأم رفعت بصرها إليهما وقالت بابتسامة رقيقة كانا يرغبان في رؤيتها: «بلى، يا عزيزي، الرب يعلم.»
الفصل السادس
أشرقت شمس الصباح وأطلت من نافذة كوخ العم توم على وجوه حزينة. كانت الطاولة الصغيرة موضوعة أمام نار المدفأة ومغطاة بقطعة قماش للكي، وعلى ظهر أحد الكراسي الموضوعة بجوار النار وضع قميص رديء الجودة لكنه نظيف. وأمام العمة كلوي كانت هناك قطعة أخرى من الملابس تكوى كل طية وحافة فيها بدقة شديدة. كانت العمة كلوي ترفع يدها بين الحين والآخر لكي تمسح الدموع التي تترقرق في عينيها وتتحدر على وجنتيها. وكان توم قد جلس والكتاب المقدس على ركبته، واتكأ برأسه على يديه، لكن لم يتحدث أي منهما. كان الوقت لا يزال في الصباح الباكر وكان الأطفال نائمين بعضهم بجوار بعض في سريرهم المتحرك. نهض توم وسار نحوهم في صمت ووقف ينظر إليهم.
همس قائلا: «هذه هي المرة الأخيرة .» واختنق بعبرة كبيرة بينما مال بوجهه نحوهم.
لم تجبه العمة كلوي، لكنها كانت تكوي الملابس وتجعلها ملساء بقدر ما يمكنها، ثم وضعت المكواة من يدها وصاحت باكية فجأة وقالت: «أوه، توم. لا يمكنني أن أتحمل ذلك؛ لا يمكنني! لا أعلم أين ستذهب، ولا أعلم كيف سيعاملونك. إن من يذهب في النهر لا يعود أبدا. إنهم يجوعونهم هناك، هذا هو ما يفعلونه! تقول سيدتي بأنها ستعيدك؛ لكنني لا أصدق ذلك، لا أصدق بأي طريقة!»
قال توم: «أنا في حماية الرب يا كلوي. لا تنسي هذا. وأشكره على أنني أنا من تم بيعي، وليس أنتم جميعا والأطفال. أنتم هنا بمأمن، ويمكنني أن أتحمل ما يلقى على عاتقي من أعباء.» ثم أضاف بنبرة مرتجفة: «لنفكر في نعم الرب علينا.» «أوه، توم. لا يمكنني أن أتحمل ذلك، لا يمكنني!»
قالت العمة كلوي: «نعم! لا أرى في ذلك نعمة. ليس ما يحدث بصواب، ليس صوابا! وسيدي يعلم ذلك!»
قال توم: «لا تتحدثي بسوء عن سيدنا يا كلوي. لقد وضع سيدي بين يدي حين كان صبيا صغيرا، كما كنت أخبر السيد جورج في الليلة الماضية. وأراه الآن وهو سعيد ويتقدم في العمر. لقد وعدت سيدي الكبير أنني على استعداد للموت في سبيله إذا ما لزم الأمر، وأظن أنني لا أستطيع أن أتحدث بسوء بشأن بيعه إياي من أجل إنقاذ ممتلكاته، بالطبع لا. بالإضافة إلى أن سيدي لم يكن يملك من أمره شيئا. من المؤكد أنه سيفتقد توم العجوز.»
وضع طعام الإفطار البسيط على الطاولة وهرع الأطفال ليتجهزوا. لم تستغرق عملية ارتداء الملابس طويلا، وخرج الأطفال مسرعين ليقحموا وجوههم السوداء اللامعة في دلو ماء المطر المعلق تحت الطنف في زاوية الكوخ، ثم دخلوا مرة أخرى ليجففوا القطرات المتلألئة أمام نيران المدفأة.
قال بيت الصغير وهو يتشمم الهواء: «رائحة هذه الدجاجة شهية. هل هناك رفقة ستشاركنا الإفطار؟»
همس موس: «اصمت وأغلق فمك. ألا تعرف أي شيء؟ لقد بيع والدنا!»
نظر الأطفال بعيون متسعة، وقد تسببت تلك الكلمات المخيفة في أن يتوقفوا عن انخراطهم في اللعب. إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأي شخص هو أن يتم بيعه وأن يسافر في النهر.
أجلس توم الطفلة على ركبتيه وكان ينظر في وجهها الصغير بحنان الأب، ذلك حين دخلت السيدة شيلبي من الباب.
بدأت حديثها قائلة: «أيها العم توم، لقد أتيت لكي، أوه.» ثم حدقت للحظة في مجموعة الأطفال الصغار وانفجرت باكية.
صاحت العمة كلوي: «لا يا سيدتي، لا تبكي!» ثم انفجروا جميعا في البكاء، وتمسك الأطفال بيدي أبيهم وراحوا يتوسلونه: «لا تتركنا يا أبي، لا ترحل عنا!»
خطت السيدة شيلبي نحو العم توم ووضعت يدها على يديه وقالت: «توم، أعدك أنني سأعيدك إلى المنزل بمجرد أن أجمع المال لشرائك. أعدك بوصفي امرأة مسيحية أنني سأطلق سراحك، وحتى ذلك الحين، ضع ثقتك في الرب.»
انفتح الباب بفعل ركلة قوية، ودخل هالي. كان في حالة مزاجية سيئة بسبب فقدانه لإلايزا كما أن رحلة العودة إلى مزرعة شيلبي كانت صعبة وقد أرهقته.
قال هالي: «هيا أيها الزنجي. استعد!» ثم لاحظ وجود السيدة شيلبي فأصبح أكثر احتراما. أوثقت العمة كلوي حبال الصندوق ثم نهضت ونظرت إلى التاجر. تحولت الدموع في عينيها فجأة إلى كرات من اللهب. أخذ توم الصندوق في خنوع ثم رفعه على كتفه وتبع سيده الجديد. تبعته كلوي والأطفال، وتجمع الخدم جميعهم ليودعوه.
وحين وصلوا إلى العربة قال هالي: «ادخل.» وهو يقف بجوار الباب. صعد توم على متن العربة، ثم مد التاجر يده تحت الكرسي وأخرج زوجين من السلاسل الحديدية ثم ربطهما حول كاحلي توم. «لقد أحضرت لك دولاري!»
ساد بينهم شعور بالسخط بسبب تلك الإهانة، وصاحت السيدة شيلبي من الشرفة العلوية: «سيد هالي، من فضلك لا تفعل هذا! ليس هناك ضرورة لذلك. لن يحاول توم أن يهرب.»
لكن التاجر ضحك وقال: «لن يهرب سواء حاول ذلك أم لم يحاول. لقد خسرت خمسمائة جنيه في هذا المكان بالفعل. ولا أنوي أن أخسر المزيد من المال.»
قال توم: «أنا حزين لمغادرة السيد جورج قبل أن أودعه.» كان جورج قد ذهب في زيارة لمزرعة مجاورة لهم، ولم يعلم بنبأ بيع توم. ثم استطرد توم: «بلغي حبي للسيد جورج، وكذلك للسيد آرثر. أخبري السيد آرثر أنني سأحبه ما حييت كما أفعل دوما. أخبريه ألا يشعر بالسوء لأنه باعني. كنت على استعداد لأن أضحي دوما بحياتي من أجله. باركك الرب يا سيدتي! وداعا، وداعا!»
ألهب هالي حصانه بالسوط، وبعد أن ألقى توم على المنزل الكبير وكوخه تحت شجرة البيجونيا وأزهارها نظرة حزينة، اختفى عن الأنظار وذهب بعيدا.
وعند متجر الحداد على الطريق، توقف التاجر ليحصل على زوجين من الأغلال ليكبل بهما يدي عبده، وكان توم يجلس كئيبا وينتظر لكي يتم إحكام إغلاقهما، ذلك حين سمع صوت جياد تركض على الطريق، وفي لحظة كان سيده الصغير جورج في العربة وقد لف ذراعيه حول رقبة صديقه العجوز.
قال توم: «أوه، سيدي جورج! لقد أسعدتني كثيرا! لم أكن لأتحمل أن أذهب من دون أن أراك! لقد أسعدتني كثيرا، ولا يمكنك أن تتخيل مدى سعادتي!» وهنا حرك توم قدميه فوقعت عينا جورج على السلاسل الحديدية التي قيد بها.
فصاح رافعا يديه: «يا له من عار! سأطرح ذلك الرجل أرضا، سأقضي عليه!» «لا يا سيدي جورج. لا تفعل، ولا ينبغي أن تتحدث بصوت مرتفع هكذا. لن يفيدني أبدا أن تغضبه.» «إذن لن أفعل من أجلك أنت؛ ولكن أليس هذا من العار؟ لم يرسلوا في طلبي قط، ولم يبعثوا لي بالخبر، ولولا توم لينكولن لما عرفت بالأمر. أقول لك إنني عنفتهم كثيرا في المنزل، جميعهم!» «يؤسفني أن أخبرك أن ما فعلته ليس ملائما سيدي جورج.» «لم أستطع أن أمنع نفسي! إنه لأمر مؤسف! اسمع أيها العم توم.» ثم نظر خلفه نحو المتجر وتحدث بنبرة غامضة: «لقد أحضرت لك دولاري!»
قال توم وقد بدا متأثرا كثيرا: «أوه! لم أكن لآخذه يا سيدي جورج. ليس بأي حال من الأحوال!»
قال جورج: «لكن ينبغي لك أن تأخذه. انظر، لقد أخبرت العمة كلوي أنني سأفعل ذلك ، وقد نصحتني بأن أصنع به ثقبا، وأضع به خيطا حتى يتسنى لك أن تعلقه حول رقبتك، وإلا فسيأخذه منك ذلك النذل الحقير. إنني يا توم أريد أن ألكمه! سأشعر بارتياح كبير!» «لا يا سيدي جورج، لا تفعل. لن يفيدني ذلك بأي شكل!»
قال جورج وهو مشغول بربط دولاره حول رقبة توم: «حسنا، لن أفعل لأجلك أنت. ها أنت ذا، أحكم أزرار معطفك عليه واحتفظ به، وتذكر في كل مرة تراه أنني سآتي على أثرك وسأعيدك. لقد تحدثت مع العمة كلوي عن الأمر. وقد أخبرتها ألا تخاف؛ سأنظر في هذا الأمر، وسأعكر صفو حياة والدي إن لم يفعل.» «أوه، سيدي جورج. لا ينبغي لك أن تتحدث بهذا الشكل عن والدك!» «أيها العم توم، لا أقصد سوءا بذلك.»
قال توم: «والآن أيها السيد جورج، ينبغي أن تكون فتى صالحا؛ تذكر كم قلبا يتعلق بك. كن دوما بجانب والدتك. لا تنخرط في تلك التصرفات الصبيانية الحمقاء التي ينخرط فيها الآخرون ويظنون أنهم كبروا على أن يسمعوا كلام والدتهم. أتعرف أيها السيد جورج، يعطينا الرب الكثير من الأشياء الجيدة مرتين في حياتنا؛ لكنه لا يعطينا سوى أم واحدة فقط. والآن تمسك بها، وتحمل المسئولية وكن عونا لها، وكن فتى صالحا، ستفعل، أليس كذلك؟»
قال جورج بنبرة جادة: «أجل، أيها العم توم. سأفعل.» «وانتبه إلى كلماتك سيدي جورج؛ فالأطفال الصغار حين يصلون إلى سنك يكونون عنيدين وجامحين في بعض الأحيان، هذه هي طبيعة الأحوال، ولكن الرجال النبلاء - كما آمل أن تكون منهم - لا يتحدثون أبدا بكلمات تنم عن عدم الاحترام لوالديهم. لا تشعر بالاستياء من كلامي سيدي جورج، أليس كذلك؟» «بلى أيها العم توم؛ على الإطلاق. أنت دوما ما تسدي لي النصائح.»
قال توم وهو يملس بيده الكبيرة القوية على شعر الصبي المجعد، ويتحدث بنبرة رقيقة بدت وكأنها صوت امرأة: «أنا أكبر منك في العمر، وأرى فيك كل ما لا تراه في نفسك. أوه سيدي جورج أنت تتمتع بكل شيء - امتيازات لا حصر لها، إضافة إلى تعلمك القراءة والكتابة - وستكبر لتصبح رجلا صالحا متعلما فاضلا، وسيكون كل من في المنزل وأبوك وأمك فخورين بك! فكن سيدا صالحا كوالدك؛ وكن متدينا كوالدتك. وتذكر خالقك في أيام شبابك أيها السيد جورج.»
قال جورج: «سأكون رجلا صالحا بحق أيها العم توم. سأكون رجلا من الطراز الأول؛ ولا تتثبط عزيمتك، فسأعيدك إلى المنزل. وكما أخبرت العمة كلوي هذا الصباح، سأعيد بناء منزلك مرة أخرى، وسيكون لديك غرفة صالون بها سجادة، وذلك حين أصير رجلا. أوه، ستعيش أوقاتا سعيدة في المستقبل!»
أتى هالي في تلك اللحظة إلى الباب وكان في يده الأغلال.
قال جورج بشيء من الأفضلية والغلبة بينما خرج التاجر: «انظر أيها السيد. سأخبر أمي وأبي بالطريقة التي تتعامل بها مع العم توم!»
قال التاجر: «على الرحب والسعة.»
قال جورج: «أعتقد أنك ينبغي أن تشعر بالخجل من أنك تقضي حياتك كلها في بيع وشراء البشر وتكبيلهم كالماشية. أعتقد أنك ينبغي أن تشعر بالخسة والحقارة!»
قال هالي: «ما دام والداك يريدان شراء العبيد فسأعمل في بيعهم وشرائهم، وبيعهم لا يقل خسة وحقارة من شرائهم.»
قال جورج: «حين أصير رجلا لن أفعل أيا من ذلك. وداعا أيها العم توم؛ وتحل بضبط النفس.»
قال توم وهو ينظر إلى جورج باعتزاز وإعجاب: «وداعا سيدي جورج، فليباركك الرب! آه! لا يوجد الكثير مثلك في كنتاكي.» ثم ذهب بعيدا، وظل توم ينظر إليه حتى تلاشت قعقعة أقدام حصانه، وكان تلك النظرة وذاك الصوت آخر عهده بموطنه. لكن وعلى صدره شعر بدفء حيث وضع الصبي الدولار الذي علقه في خيط وربطه حول عنقه، فرفع توم يده وضمه إلى صدره.
الفصل السابع
يبرز أمامنا الآن مشهد هادئ، مطبخ كبير وفسيح بألوان متناسقة، وأرضية صفراء لامعة ومصقولة، ولا توجد عليها ذرة تراب واحدة؛ وبه موقد للطهي نظيف تماما وذو لون أسود رائع؛ وكذلك توجد صفوف من علب الطعام اللامعة التي توحي بوجود أشهى الأطعمة؛ كما يوجد بالمطبخ كراسي خشبية قديمة وقوية ذات لون أخضر لامع؛ وبه أيضا كرسي متأرجح ذو قاعدة مميزة الشكل وعليه وسادة مرسوم عليها أشكال كثيرة، ووسادة أخرى أكبر حجما من الأولى تبدو أقدم ومريحة أكثر - كان الكرسي عتيقا لكنه يجذب الانتباه، ويوحي بالكثير من الراحة - ذا قيمة كبيرة بطريقة تبعث على الراحة وكأنه شيء يعود إلى طبقة النبلاء في قاعات الاستقبال الخاصة بهم. على هذا الكرسي جلست صديقتنا العزيزة إلايزا تتأرجح للأمام والخلف بينما ثبتت نظرها على شيء كانت تحيكه. أجل، كانت جالسة على ذلك الكرسي وتبدو أكثر شحوبا ووهنا مما كانت عليه في منزل كنتاكي، وتحت عينيها كانت تحمل حزنا كبيرا فيما تسللت آثار الكآبة على شفتيها. كان من السهل أن يرى الناظر إليها كيف أن قلبها الشاب أصبح مثقلا وأكثر كآبة بفعل الحزن الشديد الذي يعتريها، وحين رفعت عينيها الواسعتين الداكنتين لتتبع صغيرها هاري وهو يتقافز كالفراشة على الأرض ويلعب هنا وهناك، ظهر في أعماقها نظرات الحزم والعزم التي لم ير مثلها عليها في أيامها السابقة والأكثر سعادة.
إلى جوارها جلست امرأة تضع وعاء معدنيا لامعا على ركبتيها، وفي ذلك الوعاء كانت تفرز به بعضا من الخوخ المجفف. ربما كانت في الخامسة والخمسين أو الستين من عمرها، لكن وجهها كان من الأوجه التي يبدو أن بصمة الزمن عليه لا تزيده سوى جمال وبهاء. كانت القلنسوة حول رأسها معصوبة على طريقة «الكويكرز»، والمنديل القطني الأبيض الناصع المرخى على صدرها مطويا في هدوء، بالإضافة إلى ردائها وشالها الرماديين؛ كل ذلك أشار في الحال إلى المجتمع الذي كانت تنتمي إليه. كان وجهها مستديرا متوردا، ذا بشرة رقيقة ملساء وكان يوحي بأنه ثمرة خوخ ناضجة. وكان شعرها فضي اللون بشكل جزئي، وقد فرقته إلى الخلف في سلاسة من منبته على جبهتها التي توحي بالسلام والنوايا الحسنة، وتحت جبهتها برزت عينان بنيتان بريئتان صافيتان حانيتان، يكفيك فقط أن تنظر مباشرة إليهما فتعرف أنك تنظر في أعماق أفضل وأوفى قلب نبض يوما في صدر امرأة.
قالت المرأة بينما كانت تنظر في هدوء إلى الخوخ: «إذن أنت ما زلت تفكرين في الذهاب إلى كندا يا إلايزا؟»
قالت إلايزا بنبرة حازمة: «أجل سيدتي، ينبغي أن أستمر في طريقي. لن أجرؤ على التوقف.» «وماذا ستفعلين حين تصلين إلى هناك؟ ينبغي أن تفكري في ذلك يا ابنتي.»
خرجت كلمة «ابنتي» من فم راشيل هاليداي بصورة طبيعية؛ ذلك أن وجهها وهيأتها أضفيا عليها طابع الأمومة تماما.
ارتعشت يدا إلايزا وتحدرت الدموع وتساقطت على ما كانت تحيكه، لكنها أجابت بنبرة حازمة: «سأفعل - أي شيء يمكنني أن أفعله. آمل أن أجد شيئا.»
قالت راشيل: «تعرفين أنه يمكنك البقاء هنا قدر ما تريدين.»
قالت إلايزا: «أوه، أشكرك. لكن» وأشارت إلى هاري ثم قالت وهي ترتعد: «لا يمكنني أن أنام ليلا؛ لا يمكنني أن أشعر بالراحة. لقد حلمت ليلة أمس أنني رأيت ذلك الرجل وهو يأتي إلى هنا.»
قالت راشيل بينما مسحت عينيها: «أيتها المسكينة! لكن لا ينبغي لك أن تشعري بذلك. لقد أمر سيدنا ألا يتم تسليم أي لاجئ يحتمي بقريتنا. وأنا على ثقة من أنك لن تكوني الحالة الأولى.»
وإلى جوارها جلست امرأة تضع وعاء معدنيا لامعا على ركبتيها.
فتح الباب في هذه اللحظة، ووقفت عنده امرأة قصيرة ضئيلة الحجم ذات جسد مستدير الشكل ووجه مبتهج ناضر وكأنه تفاحة ناضجة. كانت المرأة ترتدي ملابس ذات لون رمادي داكن مثل راشيل، وكانت قطعة من القماش الرقيق مطوية بعناية على صدرها الصغير المنتفخ.
قالت راشيل بنبرة دافئة وهي تتحرك نحوها بفرحة كبيرة بينما أمسكت بكلتا يديها: «روث ستيدمان، كيف حالك يا روث؟»
قالت روث: «بخير!» وهي تخلع القلنسوة الباهتة قليلا وتنفض عنها الغبار بمنديلها، فظهر بفعلها هذا رأسها الصغير المستدير الذي استقرت عليه القبعة على طريقة جمعية الأصدقاء الدينية المعروفة باسم «الكويكرز» في شيء من الأناقة، رغم أنها استخدمت يديها الصغيرتين البدينتين في تعديل مظهرها. كان بعض خصل شعرها المجعد أيضا قد تناثر عن بقية شعرها هنا وهناك على جانبي رأسها، فكان عليها أن تعيد ترتيبها في مكانها؛ ثم قامت تلك الوافدة الجديدة - التي قد لا يتجاوز عمرها الخامسة والعشرين - بالاستدارة عن المرآة التي استخدمتها لتعديل مظهرها وبدت سعيدة ومسرورة - كما قد يشعر كل من ينظر إليها - ذلك أنها كانت بلا شك امرأة جميلة تشع منها الحماسة وذات صوت عذب وهي كلها صفات يطرب قلب المرء حين يراها مجتمعة في امرأة.
روث. «روث، هذه هي صديقتنا إلايزا هاريس، وهذا هو الصبي، لقد أخبرتك عنهما!»
قالت روث وهي تسلم على إلايزا وكأنها صديقة عزيزة لها كانت تتوق لرؤيتها منذ وقت طويل: «أنا مسرورة للقائك يا إلايزا - في غاية السرور. وهذا هو طفلك العزيز - لقد أحضرت له كعكة.» ثم قدمت للصبي كعكة صغيرة على شكل قلب، فأتى الصبي نحوها وحدق بها من خلال شعره المجعد المتناثر على جبينه ثم قبلها في خجل.
قالت راشيل: «أين طفلك يا روث؟» «أوه، لقد أحضرته معي، لكن ماري أخذته وأنا في طريقي إليكم، وجرت به نحو الفناء لتعرفه على الأطفال الآخرين.»
في هذه اللحظة فتح الباب ودخلت ماري ومعها الطفل. كانت ماري فتاة بسيطة متوردة الوجه ولها عينان بنيتان واسعتان كعيني والدتها.
قالت راشيل بينما نهضت وأخذت الطفل الصغير البدين ذا البشرة البيضاء في ذراعيها: «آه! ها هو! يا له من طفل جميل! لقد كبر حقا!»
قالت روث بنبرة حماسية: «أجل! أنت محقة فيما تقولين!» بينما أخذت منها الصبي وبدأت تخلع عنه قلنسوة حريرية صغيرة زرقاء اللون وعدة طبقات من الملابس الخارجية، وبعد أن خلعت عنه ملابسه قبلته قبلة حارة ووضعته على الأرض ليستجمع أفكاره. كان الصبي يبدو معتادا على مثل هذه الأمور؛ ذلك أنه وضع إبهامه في فمه بينما جلست أمه وأخرجت جوربا طويلا مغزولا من خيوط زرقاء وبيضاء وبدأت تكمل غزله في نشاط.
دخل عليهم في تلك اللحظة سايمون هاليداي، وهو رجل طويل القامة مستقيم الظهر قوي البنية يرتدي معطفا بلون داكن وبنطالا وقبعة عريضة الحواف.
قال الرجل بنبرة ترحاب بينما قدم يده العريضة لتصافحه بيدها الصغيرة البدينة: «كيف حالك يا روث؟ وكيف حال جون؟»
قالت روث في نبرة مرحة: «أوه ، جون بخير حال وبقيتنا كذلك.»
قالت راشيل بينما كانت تضع البسكويت في الفرن: «هل هناك أي أخبار زوجي العزيز؟»
قال سايمون بينما كان يغسل يديه على حوض نظيف يقع على شرفة خلفية صغيرة: «لقد أخبرني بيتر ستيبينز بأنهم قادمون وبصحبتهم بعض الأصدقاء.»
قالت راشيل: «حقا!» بينما نظرت إلى إلايزا وبدت وكأنها غارقة في التفكير.
قال سايمون لإلايزا بينما دخل عليهم مرة أخرى: «هل قلت بأن زوجك اسمه هاريس؟»
رمقت راشيل زوجها بنظرة سريعة فيما أجابت إلايزا وهي ترتعش: «أجل.»
قال سايمون وهو يقف على الشرفة وينادي: «راشيل!»
قالت راشيل وهي تفرك يديها الورديتين بينما خرجت نحو الشرفة: «أجل يا زوجي، ماذا تريد؟»
قال سايمون: «والد ذلك الطفل في المستوطنة وقريبا ما سيأتي هنا.»
قالت راشيل بينما أشرق وجهها غبطة: «لا، أذلك صحيح يا بابا؟» «هذا صحيح فعلا، كان بيتر قد ذهب بالأمس بالعربة إلى الناحية الأخرى وهناك وجد امرأة عجوزا ومعها رجلان؛ وقال أحدهم إن اسمه جورج هاريس؛ ومن قصته التي قصها، أنا واثق أنه هو. إنه رجل أبيض البشرة مثلهما أيضا.» «سوف ترى والدك يا صغيري!»
قال سايمون: «أنخبرها الآن؟»
قالت راشيل: «لنخبر روث. يا روث، تعالي إلى هنا.»
وضعت روث عدة الغزل من يدها، وفي لحظة كانت قد ذهبت إلى الشرفة الخلفية.
قالت راشيل: «روث، ما رأيك؟ يقول زوجي إن زوج إلايزا في المجموعة الأخيرة، وإنه سيكون هنا في غضون وقت قصير.»
غمرت البهجة المرأة الضئيلة الحجم العضوة في جمعية الأصدقاء الدينية «كويكرز» فقطعت الحديث. كانت قد قفزت عن الأرض وصفقت بيديها الصغيرتين حتى وقعت تلكما الخصلتان الضالتان من شعرها من تحت قبعتها وتدلتا على الوشاح الذي تلفه حول عنقها.
قالت راشيل بنبرة لطيفة: «اصمتي يا عزيزتي! اصمتي يا روث! أخبرينا، أينبغي أن نخبرها بهذا الخبر الآن؟» «الآن! بالطبع - في هذه اللحظة. أخبراها الآن. افترضا أن زوجي جون هو الذي سيأتي، كيف سيكون شعوري؟ أخبراها توا.»
قال سايمون وهو ينظر إلى وجه روث بعينين مسرورتين: «أنت تحبين الخير للآخرين يا روث كما تحبينه لنفسك.» «بالطبع. أليس هذا هو غاية وجودنا؟ لو لم أكن أحب جون والطفل الصغير، لم أكن لأعرف كيف أشعر بما تشعر هي به. هيا الآن، أخبرها، هيا!» ثم وضعت يدها على ذراع راشيل وقالت: «خذيها إلى غرفة نومك وأخبريها بذلك هناك، وسأطهو أنا الدجاج في غضون ذلك.»
خرجت راشيل إلى المطبخ حيث كانت إلايزا تقوم بالحياكة، وفتحت باب غرفة نوم صغيرة وقالت: «تعالي معي يا ابنتي؛ لدي شيء أقوله لك.»
تورد الدم في وجه إلايزا الشاحب؛ وانتصبت وهي ترتعد من الخوف والقلق، ونظرت تجاه الصبي.
قالت روث الصغيرة وهي تندفع نحوها وتمسك بيديها: «لا، لا. لا تخافي أبدا؛ إنها أخبار سارة يا إلايزا - ادخلي، ادخلي!» ثم دفعتها برفق نحو الباب الذي أغلق خلفها، ثم استدارت وأخذت هاري الصغير بين ذراعيها وبدأت تقبله.
ظلت تردد: «سوف ترى والدك يا صغيري، أتعرفه؟ والدك قادم.» وكان الصبي ينظر إليها متعجبا.
في تلك الأثناء، وخلف الباب المغلق، كان هناك مشهد آخر تدور أحداثه. اقتربت راشيل هاليداي من إلايزا وقالت: «لقد أنزل الرب رحماته عليك يا ابنتي؛ لقد هرب زوجك من منزل العبودية.»
تورد الدم في وجنتي إلايزا، فلمعتا فجأة، ثم عاد الدم مرة أخرى إلى قلبها بسرعة كبيرة. جلست إلايزا ووجها شاحب وقد خارت قوتها.
قالت راشيل وهي تمسك بيديها: «تشجعي يا طفلتي. إنه بين أصدقاء لنا وسيجلبونه إلى هنا قريبا.»
رددت إلايزا قائلة: «قريبا! قريبا!» لم تجد الكلمات طريقا إلى فمها؛ كان عقلها شاردا ومشوشا، وسادت غشاوة أمام عينيها للحظة.
لكن كان هناك صوت أقدام على الممشى في الخارج وصوت طرقات خفيفة على الباب؛ وفي لحظات كانت إلايزا بين ذراعي زوجها، وكانت دموع فرحته تجري على وجنتيه.
وفي صباح اليوم التالي كانوا جميعا يجلسون على طاولة الإفطار، ورغم أنها كانت المرة الأولى التي جلس فيها جورج هاريس إلى طاولة رجل أبيض، إلا إنه كان يتصرف بنفس النبل واللباقة التي يتمتع بها من هم حوله.
وفي لحظات كانت إلايزا بين ذراعي زوجها.
قال سايمون الصغير بينما كان يضع الزبد على كعكته: «يا أبي، ماذا لو عرفوا بأمرك مجددا؟»
أجابه والده في هدوء: «سأدفع الغرامة.» «أجل، لكن ماذا لو وضعوك في السجن؟»
قال سايمون وهو يبتسم: «ألن تستطيع أنت ووالدتك أن تديرا المزرعة؟» فقال الصبي: «يمكن لأمي أن تقوم بأي شيء، لكن أليس من العار أن توضع مثل هذه القوانين؟ إنني أكره أولئك العجائز الذين يحتفظون بالعبيد.»
قال جورج: «آمل يا سيدي الطيب ألا تكون عرضة للخطر بسببنا!» «صديقي جورج، لقد وجدنا في هذا العالم لنساعد بعضنا بعضا ونكون بعضنا في خدمة بعض، ولسنا نفعل ذلك لك وإنما هو في سبيل الرب. والآن ينبغي عليك أن تحافظ على هدوئك اليوم، وفي الساعة العاشرة من مساء الليلة، سيحملك فينياس فليتشر وزوجتك وما معكم من أمتعة إلى المحطة التالية. إن من يطاردونكم على وشك أن يلحقوا بكم؛ ولا ينبغي علينا أن نتأخر.»
الفصل الثامن
من بين الركاب على متن القارب الذي يحمل العم توم وبقية عبيد هالي على طول النهر باتجاه نيو أورليانز، كان هناك رجل نبيل يحمل اسم سانت كلير، وبصحبته ابنته بعمر ست سنوات. كانت هذه الفتاة الصغيرة تتنقل على سطح باخرة نهر المسيسيبي وكأنها حورية صغيرة؛ فتارة تبتسم من فوق إحدى بالات القطن إلى أحد هؤلاء العبيد المساكين، وتارة تضع يديها البيضاوين الرائعتين كأزهار الزنبق على جبهة أحدهم الداكنة الخافقة، وتارة تستمع إلى الأغاني التي ينشدها الزنوج في المساء.
كانت الفتاة نحيلة البنية حسنة المظهر وكانت عيناها الزرقاوان واسعتين، وكانت في عيون العبيد الحزانى من حولها تشبه الملائكة في جمالها ورقتها. وقد سمح لها والدها بالتنقل بحرية على أسطح الباخرة كيفما شاءت، وكانت الفتاة تحب أن تجثم على أحد الصناديق أو بالات القطن على مقربة من المكان الذي يجلس فيه توم وكأنها طائر صغير ذو أجنحة بألوان زاهية، وتحب أن تراه وهو يصنع سلالا صغيرة من حجارة الكرز أو يصنع من سيقان النباتات أشياء غريبة تصدر أصوات صفير أو تتقافز.
قال لها توم ذات يوم: «ما اسم سيدتي الصغيرة؟»
أجابته الطفلة: «إيفانجلين سانت كلير، لكن الجميع يناديني بإيفا. ما اسمك؟»
أجابها: «اسمي توم، وقد اعتاد الأطفال الصغار في كنتاكي أن ينادوني بالعم توم.» «إذن سأناديك بالعم توم؛ لأنني أحبك. إلى أين أنت ذاهب أيها العم توم؟» «لا أعرف سيدة إيفا.» «لا تعرف؟» «ما اسم سيدتي الصغيرة؟» «لا سيدة إيفا؛ لكنني سأباع إلى أحدهم، ولا أعرفه.»
قالت الفتاة بينما قفزت من مكانها وصفقت بيدها: «سيشتريك أبي، ينبغي له أن يشتريك؛ سأطلب منه ذلك الآن. وستكون حينها عمي توم.» ثم قفزت واستدارت لتجري بعيدا، لكنها توقفت حين رأت الدموع في عيني توم الصادقتين فقالت: «لن تبكي أبدا إذا ما اشتراك أبي. وداعا حتى أعود إليك مرة أخرى.»
نظر توم إلى يده السوداء الكبيرة التي لامست فستانها الأبيض.
وهمس قائلا: «ليبارك الرب ذلك الحمل الصغير. ليباركها الرب.»
توقف المركب عند قطعة أرض صغيرة لكي يتم تحميله بالقطن وساعد توم في وضع الحمولة في مكانها؛ حيث وجد أنه قوي ويمكن الاعتماد عليه، وقد عينه سيده ليحل محل أحد أعضاء طاقم المركب الذي أصابه التعب. كان توم يقف على السطح السفلي بينما كان المركب يتحرك، ولمع أمامه شيء أبيض ثم وقع في الماء.
صاح أحدهم: «ابنة سانت كلير!» وفي اللحظة التالية كان توم في الماء، وقد حال بين الطفلة وبين العجلة في مؤخرة السفينة التي كانت ستسحق الفتاة الصغيرة وتمكن من الإمساك بها بذراعه القوية حين ارتفعت إلى سطح الماء. امتدت مئات الأيادي لتتلقف الفتاة الصغيرة التي رفعها إليهم توم، وفي غضون لحظات كانت آمنة بين يدي والدها وتسأل عن توم. قالت الفتاة: «كنت سأطلب منك أن تشتريه ليكون رفيقي في اللعب حين سقطت في الماء. ستشتريه لي يا أبي، أليس كذلك؟» ونظرت بثقة إلى والدها وهي بين ذراعيه فأجابها والدها: «أجل يا صغيرتي، إذا كانت هذه رغبتك. بالطبع سأفعل. هل ستلعبين به باستخدام صندوق الألعاب أم ستمتطينه كالحصان؟»
فهمست له: «إنه صديقي يا أبي.»
ضحك السيد سانت كلير وقال: «صديقك؟ حسنا حسنا، ترى ماذا سيكون قول والدتك في هذا الشأن؟ لكن أراهن أنه سيكون صديقا مخلصا. لن أنسى أبدا أنه أنقذ حياة صغيرتي اليوم.»
مرت الأيام وشارفت الرحلة الطويلة على النهاية حين وجد السيد سانت كلير ذات صباح أن توم يجلس بين بالات القطن مع إيفا وهي تستمع له يقص عليها قصة الأرنب الماكر والأرنبة القطنية الذيل.
قال توم: «كانا يعيشان في بقعة خلف كوخي، وذات ليلة - أنت تدركين أن هذه الحكايات غير حقيقية يا سيدتي، أليس كذلك؟ - بلى، أكمل، أكمل أيها العم توم! - حسنا، كنت أجلس هناك ورأيت تلك الأرنبة الصغيرة ذات الذيل القطني وهي تركض هنا وهناك، فناديت عليها وقلت: «كيف حالك سيدة أرنبة؟ هل أنت وأهلك بخير؟» ثم قفزت باتجاهي ثلاث قفزات، وجلست تنتظر وهي تحدق بي وكأنها تتفحص وجهي، ثم قفزت ثلاث قفزات أخرى وقالت: «أوه، العم توم، لقد آذى السيد أرنب نفسه بأن وقع في أحد الفخاخ التي نصبها سيدك، وليس لدي أدوية له في منزلي.»
صاح أحدهم: «ابنة سانت كلير!»
فقلت لها: «حسنا سيدة قطنية الذيل، سآتي لك بأحد الأدوية ولكنك ستنتظرينني قليلا حتى أرى ما لدى كلوي.» ورحت أبحث وأبحث حتى وجدت الدواء، ثم عدت لها وبدأنا نسير باتجاه الحقل، فكانت السيدة أرنبة تجري أمامي، ثم تتوقف لتنظر ما إذا كنت أتبعها أم لا، ثم وصلنا ووجدت أن السيد أرنب يجلس وفخ سيدي مربوط بقدمه.
نظر إلي في قلق بالغ فقلت له: «عذرا أيها الأرنب، لقد أتيت لأرى إن كنت قد تخلصت من فخ سيدي للثعالب؟ إذا ما تخلصت منه فسآخذه للمنزل.»
تحدث السيد أرنب بلهجة مهذبة وقال: «فجأة يا سيدي وقعت في هذا الفخ، ولا أعرف كيف أخلص نفسي منه. أيمكنني أن أثقل عليك بأن أطلب مساعدتك؟ أشعر بأنني متعب كثيرا هذا المساء.» ثم رفع قدمه وخلصته من الفخ، وقالت الأرنبة القطنية الذيل بنبرة لطيفة: «حسنا، وداعا أيها العم توم وسأحضر لك الدواء حين ننتنهي .» فقلت لها: لا داعي للاستعجال يا سيدة أرنبة، وودعتهما.»
تقدم السيد سانت كلير نحوهما وهو يضحك وأمسك بذقن توم ورفع رأسه وقال: «انظر يا توم، انظر إلى سيدك الجديد.»
صاحت إيفا من سعادتها، واهتز قلب توم فرحا وقال شاكرا: «ليباركك الرب يا سيدي؛ سأخدمك وسيدتي الصغيرة بكل ما أوتيت من قوة وعزم.»
وضعت إيفا يدها عليه وقالت: «احك لي قصة أخرى أيها العم توم.»
الفصل التاسع
كانت السيدة أوفيليا سانت كلير قد سافرت من ولاية فيرمونت لتدير شئون منزل ابن عمها؛ ذلك أن زوجته - التي هي والدة إيفا - كانت معاقة. إن أيا ممن يسافرون في إقليم نيو إنجلاند سيتذكر قرية جميلة يقع بها منزل ريفي كبير يعتنى به كثيرا، وكل شيء به نظيف وفي مكانه، ولكل مهمة وقتها المخصص لها ولا تعرف الفوضى له طريقا. لقد تركت السيدة أوفيليا منزلا منظما كهذا وذهبت لتشرف على مائة عبد زنجي يحدثون هرجا ومرجا؛ ما يؤدي إلى إحداث فوضى كبيرة في المنزل على وجه العموم. لكن تلك المرأة الطويلة القامة التي تنتمي إلى إقليم نيو إنجلاند لم تشعر بالإحباط حيال ما رأت أنه واجبها. بالإضافة إلى ذلك، كانت السيدة أوفيليا تحب إيفا، وكانت تتوق لأن تعوضها عن حب الأم الذي فقدته تلك الطفلة من جهة والدتها الأنانية. كانت المزرعة إحدى أجمل وأكبر المزارع في ولاية لويزيانا. وكان المنزل الذي بني على الطرازين الفرنسي والاستعماري هو منزلا قديما وجميلا، وكان مسرحا للكثير من المرح خلال فصول الشتاء، وكان العبيد فيه سعداء تحت إشراف السيدة أوجاتين سانت كلير التي اتسمت إدارتها للمنزل بأنها مستهترة ومتراخية. لم تكن السيدة سانت كلير أبدا متراخية أو مستهترة، ولكنها كانت كسولة للغاية لتهتم بإدارة شئون المنزل؛ لذلك بدأ عمل السيدة أوفيليا، وشعرت العمة دينا العجوز بالغضب حين قامت السيدة أوفيليا بجولتها الأولى في المطبخ. كان المطبخ كبيرا وأرضيته حجرية، وبه مدفأة كبيرة تمتد بطول أحد جوانبه. لم تقم العمة دينا من مكانها، بل ظلت جالسة على الأرض تدخن غليونها القصير في صمت.
السيدة أوفيليا.
شرعت السيدة أوفيليا بفتح مجموعة من الأدراج وقالت: «ما الغرض من هذا الدرج؟»
قالت دينا: «إننا نضع به أي شيء تقريبا.» وهكذا كان الحال فعلا؛ فمن بين الأشياء الكثيرة التي كان يحويها، أخرجت السيدة أوفيليا أحد مفارش المائدة الفاخرة، وكانت العمة دينا قد لفت بها قطعة من اللحم النيئ. «ما هذا يا دينا؟ لا ينبغي لك أن تغلفي اللحم النيئ في أفضل المفارش التي تستخدمها سيدتك أثناء تناول الطعام!» «عذرا، سيدتي؛ كانت المناشف كلها مفقودة؛ لذا فعلت ذلك. وقد تركته لأغسله بعد ذلك؛ لهذا وضعته في ذلك الدرج.»
العمة دينا.
قالت السيدة أوفيليا في نفسها «انعدام كفاءة!» واستكملت البحث بالدرج، حيث وجدت مبشرة لجوز الطيب واثنتين أو ثلاثة من ثمار جوز الطيب، كما وجدت كتابا للترانيم الميثودية، ومناديل متسخة من قطن المادراس، وأداوت للغزل والحياكة، وورقة تبغ وغليونا، وبعض البسكويت، وطبقا أو اثنين من الأطباق الصينية المذهبة بهما معجون عطري، وزوجا أو اثنين من الأحذية القديمة، وفوطة معلقة بحرص تحتوي على بصل أبيض صغير، وعدة مناديل فاخرة لمائدة الطعام، ومجموعة من المناشف الخشنة، وبعض خيوط الجدل والرتق، وعدة أوراق مهترئة تتسرب منها في الدرج أعشاب حلوة.
قالت السيدة أوفيليا بنبرة توحي بأنها فقدت صبرها: «أين تحتفظين بثمار جوز الطيب يا دينا؟» «في أي مكان سيدتي؛ هناك بعضها في ذلك الإبريق المكسور هناك، كما يوجد بعضها في تلك الخزانة.»
قالت السيدة أوفيليا وهي ترفع بيدها بعض ثمار جوز الطيب: «وبعضها هنا في المبشرة.»
قالت دينا: «أجل، لقد وضعتها فيها هذا الصباح؛ فأحب أن أحافظ على الأشياء في متناول يدي.»
قالت السيدة أوفيليا وهي تمسك بالأطباق التي تحتوي على المعجون العطري: «وماذا يكون هذا؟» «أه، إنه زيت لشعري، لقد وضعته هنا ليكون في متناول يدي.» «أتستخدمين أفضل الأطباق المذهبة الخاصة بسيدتك في هذا؟» «أوه، لقد فعلت ذلك لأنني كنت على عجلة من أمري، كنت سأنظف الأطباق اليوم.» «وهاك اثنين من مناديل الطاولة من النوع الفاخر.» «لقد وضعتهما هناك لأغسلهما في يوم ما.» «أهناك مكان تستخدمينه هنا لغسل الأشياء؟» «في الواقع، أحضر السيد سانت كلير ذلك الصندوق وقال بأنه يمكن استخدامه لذلك، لكنني أحب أن أصنع عليه عجين البسكويت، وأحيانا أضع عليه الأشياء، ثم إن رفع الغطاء ليس سهلا.» «لماذا لا تصنعين عجين البسكويت على طاولة العجين هناك؟» «أوه، سيدتي، تلك الطاولة تعج بالأطباق وبأشياء أخرى، وليس هناك مساحة كافية لذلك، مستحيل.» «لكن ينبغي عليك أن تغسلي الأطباق وتضعيها في أماكنها.»
قالت دينا بنبرة عالية وكأن غضبها بدأ يزداد، فغطى على احترامها لسيدتها: «أغسل الأطباق! أريد أن أعرف ما تعرفه السيدات عن العمل! متى سيتناول سيدي غداءه إذا كنت سأقضي وقتي كله في غسل الأطباق ووضعها في مكانها؟ لم تخبرني السيدة ماري بهذا أبدا.» «حسنا، وهذا البصل.»
قالت دينا: «أوه، أجل! ها هم، لم أكن أتذكر مكانهم. كنت أحتفظ بهذا البصل بالذات من أجل طبق الحساء الخاص بك. لقد نسيت تماما أنني وضعته في تلك الفوطة القديمة.»
ثم أمسكت السيدة أوفيليا بالأوراق المهترئة التي تحتوي على الأعشاب الحلوة.
قالت دينا بنبرة حازمة: «أرجوك سيدتي لا تلمسيها. أحب أن أحتفظ بالأشياء في الأماكن التي أعرف أنني تركتها بها؛ حتى يتسنى لي معرفة مكانها.» «لكنك لا ترغبين بهذه الأوراق المهترئة.»
قالت دينا: «إنني أستخدم هذه الثقوب الموجودة في الورق في رش الأعشاب فيكون الأمر أكثر سهولة.»
توبسي. «لكنك ترين أن الأعشاب تتناثر في كل مكان.»
قالت دينا بينما توجهت نحو الدرج على مضض: «أوه، أجل! إذا كانت سيدتي ستعبث بالأشياء فستتناثر الأعشاب بكل تأكيد. لقد بعثرت الكثير منها بالفعل بهذه الطريقة. إذا ما صعدت سيدتي للدور العلوي حتى يأتي الوقت الذي أرتب فيه الأشياء، فسيكون كل شيء في مكانه، لكنني لا أستطيع فعل شيء حين تكون إحدى السيدات هنا؛ حيث يشكلن لي عائقا. يا سام، لا تعطي الطفلة تلك السكرية! سأحطم رأسك. أستأذن منك!» «إنني أطوف بالمطبخ لكي أضع كل شيء في مكانه ولمرة واحدة يا دينا! وأتوقع منك أن تحافظي على كل شيء في مكانه.» وبدأت السيدة أوفيليا العمل، بينما نظرت إليها توبسي وهي تبتسم.
كانت توبسي هي إحدى أطرف أبناء عرقها وأكثرهم سوادا، وحين اشتراها السيد سانت كلير - جزئيا بسبب شعوره بالشفقة تجاهها - من أسيادها القساة وقدمها إلى السيدة أوفيليا، شعرت تلك المرأة الصالحة بأنها مشدوهة حتى كادت تفقد الكلام. كانت الفتاة ترتدي جوالا من أجولة القهوة، وكان شعرها مضفرا بأذيال صغيرة برزت من رأسها وكأنها سنان الرماح، وكان وجهها المليء بالتجاعيد غريب الشكل وكئيبا وكأنه وجه بومة، عدا تلكما العينين المتلألئتين اللعوبتين. أما نظراتها وأسلوبها فكان بهما شيء مخيف، وابتسم السيد سانت كلير حين رأى نظرة الرعب على وجه ابنة عمه حين رأت الطفلة وقال: «توبسي، هذه هي سيدتك الجديدة. فهل ستكونين فتاة مطيعة؟»
قالت توبسي بينما لمعت عيناها الماكرتان: «أجل سيدي.»
قالت السيدة أوفيليا: «والآن يا أوجستين، ما فائدة إحضار هذه الطفلة إلى هنا؟ المنزل يعج بالأطفال السود الآن، ولا يمكنني أن أطأ بقدمي في المطبخ من دون أن أتعثر بأحدهم. إنهم في كل مكان؛ على السلم ويكادون يكونون في السقف. ماذا سأفعل بتلك الفتاة؟»
قال سانت كلير: «أعتقد أنني سآمر بأن تغتسل تلك الفتاة أولا، وسيزول عنها بعض هذا السواد. ثم سأرسل في طلب زي كامل لها، وقد لاحظت نقصا في تكوينها. بعد ذلك، حسنا، كنت دوما ما تريدين أن تعلمي طفلة زنجية كيف تعيش الحياة بالطريقة الصحيحة، فإليك الخامة. يمكنك أن تحاولي معها، أيها المرأة القوية من نيو إنجلاند. وسأترقب النتيجة.»
شعرت السيدة أوفيليا أنه كان يثير غيظها، لكنها ذهبت إلى المطبخ مع توبسي، وحين اغتسلت الفتاة السوداء بيدي العمة دينا القويتين، تم قص شعرها بالمقص وارتدت الفتاة ملابس لائقة لأول مرة في حياتها، وبدأت السيدة أوفيليا في سؤالها.
سألتها قائلة: «كم عمرك يا توبسي؟»
أجابتها الفتاة بابتسامة أظهرت صفين من الأسنان اللامعة: «لا أعرف سيدتي.» «لا تعرفين؟ ألم يخبرك أحد بذلك من قبل؟ من كانت أمك؟» «لم أحظ بأم قط.»
حدقت بها السيدة أوفيليا في دهشة واستنكار: «لم يكن لك أم قط؟ ماذا تعنين؟ أين ولدت؟» «لم أولد.» «توبسي، أنا لا ألعب معك. أريدك أن تقولي لي أين ولدت ومن هما أبواك. والآن أجيبي بسرعة.» «لم أولد، ولم يكن لي أب أو أم. لقد رباني سمسار ليبيعني مع الكثير من الأطفال الزنوج الآخرين. وقد ربتني العمة سو العجوز.»
كانت الفتاة صادقة حقا، أما جين وهي الخادمة المسئولة عن غرف النوم فقد أضافت: «أجل يا سيدتي، كل هذا صحيح. السماسرة يشترونهم وهم صغار ويربونهم من أجل بيعهم.» «وكم عشت مع سيدك وسيدتك يا توبسي؟»
قالت توبسي: «لا أعرف سيدتي.» ثم في لحظة كانت الفتاة على الأرض تسير على يديها بينما قدماها مرفوعتان في الهواء، وذلك قبل أن تصيح بها سيدتها المذهولة والمذعورة: «قفي يا توبسي، أيتها الطفلة البائسة وقولي لي: من هما أبواك؟» «ليس لي أم، ليس لي والدان. لقد كبرت هكذا، ولم يلدني أحد على حد علمي.»
شعرت السيدة أوفيليا أنها لم تكن تحرز الكثير من التقدم.
فسألتها: «أتعرفين كيف تحيكين؟» «لا يا سيدتي. لا أعرف كيف أحيك.» «ماذا كنت تفعلين لسيدك وسيدتك؟» «لا شيء.» «هل كانوا طيبين معك؟» «أجل، كانوا يتركونني حرة ثلاث أو أربع مرات في اليوم ليجعلوني صالحة، لكنني لست صالحة بعد.»
ولمعت عينا توبسي السوداوان اللعوبتان بينما صاحت بنبرة صاخبة: «أوه، أرى مذنبا بائسا، أجل أنا مذنب بائس؛
أوه، أرى مذنبا بائسا،
ولا يمكنني أن أحصل على طعام الغداء،
أجل لا يمكنني.»
تسير على يديها، وساقاها السوداوان مرفوعتان في الهواء.
سايرت توبسي إيقاع الأغنية مع حركاتها وهي تصفق بيديها وقدميها وتصطك ركبتاها بطريقة غريبة وغير ممكنة، وظلت تدور في المكان وتصفق بيدها ثم تشقلبت فجأة في أرجاء الغرفة ووقفت وهي تغني بنبرة ختامية عالية، وكأنها صوت صفير محرك بخاري.
ارتجفت السيدة أوفيليا المسكينة حين فكرت في أنها تملك تلك الطفلة القردة، ومن المتوقع منها أن تجعل منها طفلة تلتزم بتعاليم المسيحية، وكان صوتها في غاية الضعف حين قالت: «اصعدي معي إلى غرفتي يا توبسي.» «هل ستضربينني؟ هل أحضر لك عصا حتى تضربيني بها؟»
صاحت السيدة في عصبية قائلة: «لا، لا. لن أضربك. لا أريد أن أفعل ذلك أبدا. إنما سأعلمك كيف ترتبين سريري.»
نظرت إليها توبسي من زاوية عينها في شيء من الشك والريبة ثم قالت: «حسنا.»
صعدا معا إلى حجرة السيدة أوفيليا، وليس بمقدور أحد أن يتخيل كم التضحية التي بذلتها السيدة العنيدة القادمة من فيرمونت حين سمحت لتلك الفتاة الجامحة الصغيرة بلمس سريرها.
قالت بنبرة لطيفة: «والآن يا توبسي، انظري، هذه هي حافة الملاءة، وهذا هو الجانب الصحيح، وهذا هو الجانب الخطأ. هل ستتذكرين؟»
قالت توبسي وهي تتنهد: «أجل سيدتي.» «حسنا، الآن ينبغي أن تجعلي الملاءة التحتية تحت السنادة، دسيها تحت المرتبة، بلطف وروية، أترين؟» «أجل سيدتي. أرى.» «لكن ينبغي أن تفعلي هكذا بالملاءة العليا، بثبات وروية، وتدسيها من الأسفل ناحية الأقدام، وبذا تكون الحافة الضيقة عند الطرف السفلي. أترين؟»
قالت توبسي: «أجل سيدتي. أجل، أرى.» بينما خطفت شريطة شعر وزوجا من القفازات من طاولة الملابس، وخبأتهم في كمها حين كانت السيدة أوفيليا تدير ظهرها لها. «أنت فتاة ذكية ولطيفة. أوه، سأصنع منك خادمة ماهرة، أنا واثقة من ذلك! والآن اسحبي كل الملاءات وأعيدي فرشها مرة أخرى كما أخبرتك.»
فعلت توبسي ما أمرتها به السيدة فأرضاها ذلك؛ كانت تمهد الملاءة بيدها، وتعدل من شكل التجاعيد بها، وتتصرف بأسلوب حسن للغاية حتى إن سيدتها شعرت بالسرور تجاهها. لكن لمحت السيدة أوفيليا فجأة طرف الشريطة وهو يتدلى من كم توبسي، فأمسكت بها من كتفها في لحظة. «ما هذا أيتها الفتاة الملعونة الخبيثة؟ أنت تسرقين.»
سحبت السيدة أوفيليا الشريطة من كم توبسي، لكن توبسي نظرت إلى الشريطة في ذهول وقالت: «يا إلهي، كيف أتت شريطة السيدة فيلي في كمي؟ هذا أغرب شيء رأيته في حياتي.» «توبسي، لا تكذبي، أنت تعرفين أنك سرقت تلك الشريطة.» «من؟ أنا؟ لا يا سيدتي، لم أسرقها قط. لم أرها قط في حياتي حتى هذه اللحظة .»
قالت السيدة أوفيليا: «توبسي!» وهي تهزها بقوة حتى وقع القفاز من الكم الآخر على الأرض، فلم تستطع أن تتكلم، لكن توبسي ابتسمت ابتسامة عريضة. «ما هذا أيتها الفتاة الملعونة الخبيثة؟ أنت تسرقين.»
قالت توبسي: «لقد سرقت تلك القفازات. لكنني لو كنت قد سرقت تلك الشريطة أدعو الرب أن يميتني.»
جلست السيدة أوفيليا ونظرت إلى الفتاة بنظرة صارمة من فوق نظارتها وقالت: «توبسي، أخبريني بكل شيء ولن أضربك إذا ما أخبرتني الحقيقة. ما الذي أخذته أيضا؟» «حسنا، لقد أخذت عقد السيدة إيفا الأحمر الذي ترتديه حول رقبتها، وأخذت أقراط روزا التي تصلصل في أذنيها، و...» «توبسي، أيتها الفتاة الشقية، اذهبي وأحضري تلك الأشياء وكل شيء آخر سرقته، وأحضريها إلى هنا.» «أرجوك سيدة فيلي، لا يمكنني أن أفعل ذلك، مستحيل.» «أحضريها في الحال! هيا!» «لقد أحرقتها جميعا أيتها السيدة فيلي.» «أحرقتها! ماذا أفعل بك؟ لماذا فعلت ذلك؟» «لأنني شريرة وفاسدة. أجل، أنا شريرة كبيرة. كما أنني أفعل الكثير من الأشياء السيئة. لماذا لا تضربينني سيدة فيلي؟»
في تلك اللحظة دخلت إيفا في براءة وهي ترتدي حول رقبتها العقد نفسه الذي تحدثت عنه توبسي.
قالت السيدة أوفيليا: «إيفا، كيف حصلت على ذلك العقد؟»
قالت إيفا: «حصلت عليه؟ لقد كنت أرتديه طوال اليوم؟» «هل كنت ترتدينه بالأمس؟» «أجل، وتعرفين ما المضحك في الأمر يا عمتي، أنني كنت أرتديه طوال الليل. لقد نسيت أن أخلعه حين ذهبت للنوم.»
بدت السيدة أوفيليا مذهولة تماما، وزادت دهشتها حين دخلت روزا إلى الحجرة وهي تمسك بسلة من الملاءات المكوية بينما كان القرط يهتز في أذنها!
قالت السيدة أوفيليا في يأس: «لا أعرف ما الذي أصنعه بمثل هذه الفتاة! لماذا أخبرتني أنك أخذت هذه الأشياء يا توبسي؟»
قالت توبسي وهي تفرك عينيها: «لقد قلت يا سيدتي إنني لا بد أن أعترف، ولم أستطع أن أفكر في أشياء أخرى.»
قالت السيدة أوفيليا: «لكنني بالطبع لم أكن أريدك أن تعترفي بأشياء لم تفعليها. ما قلته كان كذبا كالكذبة التي قلتها قبل قليل.»
قالت توبسي بدهشة بريئة: «حقا؟»
قالت روزا وهي تنظر بسخط إلى توبسي: «هذه الفتاة لا تعرف الصدق أبدا. لو كنت مكان سيدي سانت كلير لضربتها؛ كنت أعاقبها عقابا شديدا!»
قالت إيفا بنبرة آمرة مهيمنة كانت تتحلى بها في بعض الأحيان: «لا يا روزا، لا ينبغي أن تتحدثي بهذه الطريقة؛ لا أطيق سماع ما تقولين.» «سيدتي إيفا! أنت طيبة للغاية، ولا تعرفين كيف تتعاملين مع الزنوج. صدقيني، ليس هناك حل سوى ضربهم.»
قالت إيفا فيما برقت عيناها وتغير لون وجنتيها: «روزا! اصمتي! لا تنطقي بكلمة أخرى من هذا القبيل!»
ارتعدت روزا خوفا.
ووقفت إيفا تنظر إلى توبسي. «توبسي أيتها الفتاة المسكينة، لماذا تسرقين؟ سنهتم بك كثيرا. أنا واثقة أنني أفضل أن أعطيك أشيائي على أن تسرقيها.»
كانت تلك الكلمات هي أول شيء طيب تسمعه الفتاة في حياتها؛ فتأثر قلب توبسي الفظ بتلك النبرة الصادقة الحلوة وبأسلوب إيفا، فلمعت في عينيها الحادة المستديرة المتلألئة شيء وكأنه دمعة؛ لكن تبع ذلك ضحكة قصيرة؛ ذلك أن الفتاة لم تصدق ما سمعته.
الفصل العاشر
جلس توم في غرفته الصغيرة المبنية أعلى إسطبل الخيول ونظر في فخر وسرور إلى خطاب كان قد تسلمه لتوه من جورج شيلبي، وقد بدت له الكتابة المستديرة الصبيانية أفضل وأروع خط رآه في حياته. «اقرئيه علي مرة أخرى من فضلك سيدتي الصغيرة، هلا فعلت؟»
قال توم: «صدقيني يا سيدة إيفا، سيصبح ذلك الفتى رجلا رائعا، إنه لا يستطيع أن يوقف هذا الأمر فهذه هي طبيعته. إنه لم يبلغ من العمر سوى أربعة عشر عاما، ويمكنه أن يرسل إلي خطابا هنا يطرب له قلبي. اقرئيه علي مرة أخرى من فضلك سيدتي الصغيرة، هلا فعلت؟»
قرأت إيفا الخطاب مرة أخرى وانهمرت الدموع على وجنتي توم فيما كان يسمع الكلمات التي كتبها الفتى الذي يحبه.
جاء في الخطاب:
عزيزي العم توم العجوز؛ لقد وصلنا خطابك، ويا إلهي! نحن في غاية السرور لأن نعرف أنك مرتاح كثيرا، لكنني أفتقدك كثيرا، كلنا نفتقدك. قريبا ما سيلتئم شملنا في المنزل مرة أخرى. كانت أمي تعطي دروس موسيقى من أجل أن تجمع المال لشرائك مرة أخرى، لكن هذا لن يكون ضروريا؛ ذلك أن العمة كلوي ذهبت تعمل طاهية في لويفيل وستوفر كل ما ستجمع من مال لشرائك، وسأساعدها أنا. إنها إذا ما حصلت على أربعة دولارات في الأسبوع على مدار اثنين وخمسين أسبوعا فهذا يعني أنها حصلت على اثنين وخمسين ضعف الأربع دولارات؛ ما يساوي مائتي دولار وثمانية دولارات. إن أطفالك بخير، وطفلك الصغير يسير الآن على قدميه على نحو أفضل. كوخك مغلق الآن، لكن حين تعود سآمر بأن يكون أكبر في المساحة، وأفضل في الشكل مما كان عليه من قبل. إنني أدرس القراءة والكتابة والعديد من المواد الأخرى. هل ما زلت تحتفظ بالدولار الذي أعطيتك إياه؟ إنني أشعر بالسعادة أنني أعطيتك إياه. ولا أجد ما أقوله أكثر من ذلك، سوى أنني أحبك وأنني أدعو في صلاتي كل يوم أن تعود إلى المنزل.
محبك دائما
جورج
جلس توم إلى جوارها على الضفة المليئة بالطحالب.
تنهد توم تنهيدة طويلة بفعل شعوره بالإعجاب، وغمغم بدعوة ل «السيد جورج»، ثم خرج مع سيدته الصغيرة ليشاهدا غروب الشمس.
كانت العائلة قد انتقلت إلى منزلها الصيفي عند بحيرة بونتشارترين، وكان المنزل المبني على الطراز الهندي الشرقي محاطا بحدائق الأزهار التي تطل على مظهر جميل من المياه التي كانت تلمع في تلك اللحظة بفعل أشعة الغروب الذهبية. غاصت إيفا في كرسيها المصنوع من الخوص بينما جلس توم إلى جوارها على الضفة المليئة بالطحالب. كانت صداقة تلك الفتاة الصغيرة وذلك العبد تزداد قوة يوما بعد يوم، وكان الرجل على استعداد لأن يضحي بحياته من أجلها إذا ما تطلب الأمر؛ ذلك أنه كان يرى فيها ما لا يراه الآخرون - أن تلك الروح الطفولية الجميلة كانت تنشر أجنحتها من أجل أن تعود إلى الفردوس.
كانت الفتاة الصغيرة تضع الكتاب المقدس على ركبتيها، وفيما كانت تنظر إلى شمس الغروب المصبوغة بالألوان الأرجوانية والذهبية المتلألئة، قالت في نبرة عميقة: «توم، أين تعتقد أن تكون أرض الميعاد الجديدة؟»
أشار توم للأعلى، وفي تلك اللحظة أتاهم صوت توبسي وهي تغني:
ذلك عصفور أسود صغير على الشجرة،
مرحبا أيها العصفور مرحبا!
أرى فتاة مبتهجة، هو يراها؛ يراها،
وكأنها مشاكسة مرحة صغيرة.
مرحبا أيتها السيدة الصغيرة! مرحبا أيها الرجل الصغير!
مرحبا أيها العصفور مرحبا!
كانت الفتاة تؤلف الكلمات وهي تغني، وقد أضافت إلى النغمة الغريبة التي استخدمتها سجعا قلده الطائر المحاكي الذي كان في الأيكة.
قالت إيفا وهي تبتسم: «مسكينة هي توبسي، ألا تعتقد يا توم أنها تحاول الآن أن تكون صالحة؟ إنني أشعر بالأسى لأنني سأتركها.»
انقبض قلب توم وسألها: «ماذا؟ إلى أين تذهبين سيدتي إيفا الصغيرة؟»
قامت الطفلة من مكانها وأشارت بيدها إلى الأعلى نحو السماء، وقد أشرق الضوء من خلفها، فرآها توم وكأنها ملاك. «سأذهب هناك أيها العم توم، إلى الأعلى - وقريبا أيضا. ينبغي أن أخبر أبي قريبا، ثم ينبغي علينا أن نساعده في تحمل هذا الأمر، أنت وأنا.»
أوه، أنا شريرة للغاية لا أعرف ما أفعل،
لكنني ما زلت أحبها، أجل أحبها،
أحب السيدة إيفا حقا. «أتسمع ذلك أيها العم توم، توبسي تحبني!»
انفجر توم باكيا. «وراحت تقص القلنسوات، من أجل أن تصنع المعاطف للدمى!»
قال توم: «أوه سيدتي الصغيرة، أيتها الحمل الأبيض الصغير. لقد أرسلك الرب إلينا لتباركينا. إنك تلمسين قلوبنا السوداء الحزينة بيديك الحانيتين، فتذهبين عنها الحزن! تعالي يا سيدتي الصغيرة، إن خيوط المساء تنسدل علينا، هيا لندخل.»
وذهبا باتجاه المنزل في الوقت المناسب ليشاهدا السيدة أوفيليا وهي تجر توبسي نحو غرفة الصالون.
قالت السيدة أوفيليا: «تعالي إلى هنا الآن. سأخبر سيدك.»
احتمت توبسي كالعادة خلف كرسي السيد سانت كلير. كان الرجل دوما ما ينظر إلى سلوكها الغريب نظرة اندهاش أكثر منها نظرة غضب. أما السيدة ماري - وذلك هو الاسم الذي كان عبيدها يطلقونه عليها - فقد كانت أكثر حدة في معاملتها لها.
سأل أوجاستين: «ما الأمر؟» «الأمر أنني لا أستطيع أن أصبر على الابتلاء بهذه الفتاة الصغيرة بعد الآن! لقد تخطى الأمر كل حدود التحمل؛ لا يمكنني أن أتحمل ذلك بعد الآن! لقد حبستها وأعطيتها ترنيمة تدرسها، ولكن ماذا فعلت هي؟ لقد تجسست علي لتعرف أين أخبئ المفتاح، وذهبت إلى مكتبي وراحت تقص القلنسوات، من أجل أن تصنع المعاطف للدمى! لم أر في حياتي شيئا كهذا أبدا!»
قالت ماري: «لقد أخبرتك يا ابنة عمي أنه لا يمكن تربية هذه المخلوقات من دون استخدام الشدة والقسوة.» ثم قالت وهي تنظر إلى سانت كلير وكأنها تؤنبه: «لو كنت مخولة بالتعامل معهم الآن، لكنت أرسلت تلك الفتاة للخارج وأمرت بضربها ضربا مبرحا.»
قال سانت كلير: «ليس لدي شك في ذلك.»
قالت ماري: «ليس هناك فائدة من ترددك في اتخاذ قرار بشأن هذه الفتاة يا سانت كلير. إن ابنة العم امرأة عاقلة، وترى الأمر بالوضوح ذاته الذي أراه به.»
قالت السيدة أوفيليا: «في الواقع، سأتخلى عن تلك الفتاة. لا يمكنني أن أطيق المزيد من المشكلات.»
كانت إيفا تقف مشاهدة صامتة أثناء هذا المشهد كله حتى تلك اللحظة، ثم أشارت إلى توبسي أن تتبعها. وكانت هناك حجرة زجاجية صغيرة عند زاوية الشرفة كان سانت كلير يستخدمها كغرفة للقراءة، فاختفت إيفا وتوبسي في ذلك المكان.
قال سانت كلير: «ماذا تفعل إيفا الآن؟ أريد أن أراها.»
ثم تقدم على أصابع قدميه بحذر شديد ورفع ستارة تغطي الباب الزجاجي ونظر بداخل الغرفة. وبعد لحظة، وضع إصبعه على شفتيه وأشار في صمت إلى السيدة أوفيليا لتأتي وتنظر هي الأخرى. كانت الطفلتان جالستين على الأرض وجانبا وجهيهما أمام ناظري سانت كلير وأوفيليا، فكان وجه توبسي بمظهرها المعتاد من اللهو الطائش ولامبالاتها في مقابل وجه إيفا المتقد بالمشاعر، وعيناها الواسعتان تعجان بالدموع. «ما الذي يجعلك سيئة إلى هذا الحد يا توبسي؟ لماذا لا تحاولين أن تكوني صالحة؟ ألا تحبين أي أحد يا توبسي؟» «لا أعرف شيئا عن الحب.» «لكن يا توبسي، إذا حاولت فقط أن تكوني صالحة، فربما ...»
قالت توبسي: «إذا كنت سأحاول أن أكون صالحة، فينبغي أن أكون أي شيء سوى كوني زنجية. لو كان بالإمكان سلخي والتخلص من جلدي الأسود، لحاولت حينها أن أكون صالحة.» «لا، لا يمكنها أن تتحملني؛ لأنني زنجية.» «لكن الناس يمكن أن يحبوك إذا كنت سوداء يا توبسي. كانت السيدة أوفيليا تحبك لو أصبحت فتاة صالحة.»
أطلقت توبسي ضحكة حادة قصيرة.
قالت إيفا: «ألا تعتقدين ذلك؟»
قالت توبسي بينما بدأت تطلق الصفير: «لا، لا يمكنها أن تتحملني؛ لأنني زنجية. إنها تفضل أن يلعقها ضفدع! لا يمكن لأحد أن يحب الزنوج، ولا يمكن للزنوج فعل شيء حيال ذلك! لا يهمني.»
قالت إيفا في تفجر مفاجئ للمشاعر: «أوه، توبسي، أيتها الطفلة المسكينة، أنا أحبك!» ثم وضعت يدها البيضاء النحيلة الصغيرة على كتف توبسي واستطردت: «أحبك؛ لأنك لم تحصلي على أب أو أم أو أصدقاء؛ لأنك طفلة مسكينة أسيء معاملتها! أحبك وأريدك أن تكوني فتاة صالحة. أعتقد أنني لن أعيش طويلا، ويحزنني حقا أن تكوني بهذه الشقاوة. أتمنى لو تحاولين أن تكوني فتاة صالحة؛ لأجلي. لن يطول وقت وجودي معك.»
امتلأت عينا الطفلة السوداء المستديرتان الحادتان بالدموع، فتساقطت قطرات كبيرة من الدموع على وجنتيها، واحدة تلو الأخرى ثم سقطت على يد إيفا البيضاء، ثم وضعت توبسي رأسها بين ركبتيها وراحت تنتحب.
قالت إيفا: «أيتها المسكينة توبسي! ألا تعرفين أن السيد المسيح يحب الجميع على حد سواء؟ إنه على استعداد لأن يحبك كما أحبك أنا. إنه يحبك بقدر ما أحبك. وسيساعدك لأن تكوني صالحة، ويمكنك أن تذهبي إلى الفردوس في النهاية وأن تصبحي ملاكا إلى الأبد، تماما كما لو كنت بيضاء البشرة. فكري في الأمر فقط يا توبسي! يمكنك أن تكوني إحدى تلك الأرواح الزكية التي يغني العم توم عنها.»
قالت الطفلة: «أوه، عزيزتي السيدة إيفا! سأحاول، سأفعل؛ لم أهتم لهذا الأمر من قبل قط.»
ترك سانت كلير الستارة في تلك اللحظة وقال: «يذكرني ذلك بأمي.»
قالت إيفا بعد بضعة أيام: «أمي!» كانت في سريرها الأبيض الصغير الآن، وكان والدها الذي يحبها كثيرا أكثر من نفسه ومن حياته قد أجبر على الاعتراف بأن بقاءها معه لن يدوم طويلا. وكانت أمها مشغولة باعتلالها وحالتها المرضية كثيرا، لدرجة أنها لم تلاحظ أن الملاك ذا الجناحين الرماديين كان ينتظر الطفلة.
قالت إيفا بصوتها العذب الرنان: «أمي! أريد أن أقص جزءا كبيرا من شعري؛ أرجوك اسمحي لي بذلك.»
قالت ماري متفاجئة: «لماذا؟» «أريد أن أعطيه لأصدقائي بنفسي فيما ما زلت هنا. أرجوك اطلبي من عمتي أن تقص شعري.» دخلت السيدة أوفيليا ونظرت إلى الطفلة في استغراب.
قالت الطفلة مداعبة إياها: «تعالي يا عمتي، جزي فروة الحمل.»
دخل سانت كلير الغرفة وسأل: «ماذا تفعلين؟»
رفعت عينيها في عينيه وقالت: «أريد أن أهب خصل شعري يا أبي.» فاستدار بينما غمغم قائلا: «طفلتي، ابنتي الصغيرة. كل شيء سيحدث كما قلت.» «إذن ينبغي أن أرى كل من هم هنا معا. أرجوك، ابعث في طلبهم أن يأتوا إلي. لدي أشياء لا بد أن أقولها لهم.»
خرجت أوفيليا وأرسلت رسولا، وسرعان ما كان جميع الخدم في الحجرة.
انتصبت إيفا في جلستها وابتسمت لهم ابتسامة رقيقة حتى إن أكثر الموجودين شعروا أنها كانت تبتسم من الفردوس.
قالت إيفا: «لقد طلبت حضوركم جميعا؛ لأنني أحبكم. أحبكم جميعا، وهناك شيء أريد أن أقوله لكم، وأريد منكم أن تتذكروه دوما، سأغادركم. في غضون بضعة أسابيع لن تروني مجددا.»
في تلك اللحظة قاطعها نحيب الحضور أجمعين، فأصبح صوتها خافتا تماما. انتظرت الفتاة لحظة ثم قالت: «إذا كنتم تحبونني فلا تقاطعوني هكذا. اسمعوا ما سأقول. أريد أن أحدثكم عن أرواحكم، يؤسفني أن أكثركم غير عابئين. أنتم تفكرون فقط في هذا العالم. أريدكم أن تتذكروا أن هناك عالما جميلا يعيش فيه السيد المسيح. سأذهب إلى هناك، ويمكنكم أن تذهبوا إلى هناك أيضا. إن ذلك العالم هو من أجلكم كما هو من أجلي. لكن إذا أردتم الذهاب إلى ذلك العالم، فلا ينبغي أن تعيشوا حياة فارغة طائشة مستهترة. لا بد أن تكونوا مسيحيين، وسيساعدكم المسيح. لا بد أن تصلوا له، وأن تقرءوا ...»
وتجمعوا حول الفتاة الصغيرة.
توقفت الفتاة ونظرت إليهم في شفقة، وقالت في نبرة حزينة للغاية: «أوه، أعزائي! أنتم لا تعرفون القراءة، يا لأرواحكم المسكينة!» ثم خبأت وجهها في الوسادة وانتحبت، فاستحثتها العبرات المخنوقة لمن كانت توجه لهم حديثها، الراكعين حولها، على الحديث مرة أخرى.
فقالت بينما رفعت وجهها عن الوسادة وابتسمت ابتسامة عريضة فيما كانت الدموع لا تزال في عينيها: «لا بأس، لقد صليت لكم جميعا، وأعلم أن السيد المسيح سيساعدكم، حتى ولو كنتم لا تعرفون القراءة. حاولوا جميعا أن تقدموا أفضل ما لديكم من عمل؛ صلوا كل يوم؛ اطلبوا منه أن يساعدكم. سأراكم جميعا في الفردوس.»
جاءت غمغمة توم وأمها وبعض الكبار في السن من الحضور الذين ينتمون إلى الكنيسة الميثودية قائلين: «آمين!» أما الصغار الطائشون الذين كانوا مذهولين تماما في تلك اللحظة فكانوا يبكون مطأطئين رءوسهم.
قالت إيفا: «أعلم أنكم تحبونني جميعا. ليس هناك من بينكم من أساء معاملتي يوما، وأريد أن أعطيكم شيئا تذكرونني به حين تنظرون إليه. سأعطيكم جميعا خصلا من شعري، وحين تنظرون إليه، تذكروا أنني أحببتكم وأنني ذهبت للفردوس، وأنني أريد أن أراكم جميعا هناك.»
تجمعوا جميعا حول الفتاة والدموع تغرق أعينهم، وأخذوا من يدها آخر دليل على حبها لهم. جثوا جميعا على ركبهم وانتحبوا وصلوا وقبلوا حاشية ثيابها، وصب كبار السن منهم على مسامعها كلمات تعبر عن اعتزازهم بها وحبهم لها، فاختلطت تلك الكلمات بالدعاء لها ومباركتها على طريقتهم الخاصة بعرقهم.
وفيما كانوا يأخذون هديتها، أشارت السيدة أوفيليا لكل واحد منهم أن يخرجوا من الغرفة.
في النهاية كان الجميع قد غادروا، عدا توم والممرضة.
حتى غلبها النعاس ورأسها يستند إلى صدره.
قالت إيفا: «إليك خصلة جميلة أيها العم توم. أوه، أنا في غاية السرور أيها العم توم؛ لأنني أعرف أنني سأراك في الفردوس، أنا واثقة من ذلك، ويا أمي العزيزة الطيبة الحنون!» ثم قالت بينما لفت ذراعيها في حب غامر حول رقبة ممرضتها العجوز وقالت: «أعرف أنك ستكونين هناك أيضا.»
قالت الممرضة المخلصة: «أوه ، سيدة إيفا. ألا ترين كيف أني لا أطيق العيش بدونك مهما كان!»
دفعتها السيدة أوفيليا وتوم برفق خارج الغرفة وظنوا أن الجميع قد ذهبوا، لكنهم حين استدارت أوفيليا وجدوا توبسي واقفة.
قالت فجأة: «من أين جئت؟»
قالت توبسي وهي تمسح الدموع من عينيها: «كنت هنا.» «أوه، سيدة إيفا. كنت فتاة سيئة؛ لكن ألن تعطيني خصلة من شعرك أيضا؟» «بلى يا توبسي المسكينة! تأكدي أنني سأفعل. هاك، تذكري في كل مرة تنظرين إلى هذه أنني أحبك، وأنني أريدك أن تكوني فتاة صالحة!»
قالت توبسي في لهفة: «أوه، سيدة إيفا، أنا أحاول! لكن من الصعب جدا أن أكون صالحة! يبدو أنني لست معتادة على هذا الأمر!» «الرب يعرف هذا يا توبسي، وهو يشفق على حالك، وسيساعدك.»
خرجت توبسي من الغرفة وهي تخبئ عينيها في مئزرها، لكنها وضعت الخصلة الثمينة في صدرها وهي في طريق خروجها.
خرجت السيدة سانت كلير من الغرفة ومعها أوفيليا، وذهب أوجستين وأخذ ابنته الصغيرة في حضنه، وجلسوا في صمت بعض الوقت، ثم همست الفتاة له: «غن لي يا أبي.» وغنى لها حتى غلبها النعاس ورأسها يستند إلى صدره. جلس يشاهد من بين دموعه في عينيه رموشها الطويلة وهي تظلل وجنتيها الحمراوين بفعل الحمى، ثم فتحت عينيها الواسعتين وقالت: «أبي، عدني أن تطلق سراح العم توم. عدني الآن.»
أجابها: «سأفعل يا أعز ما لي، سأفعل.»
قالت: «أبي، الظلام يزداد، لا يمكنني أن أرى وجهك.» ورفعت يديها ولمست وجنته بلمسات لطيفة. «لكنني أعتقد أنني أسمع توبسي تغني في مكان ما. عامل كل أصدقائي معاملة طيبة يا أبي. أين توم؟»
تسلل توم إلى الغرفة وقال: «هنا يا سيدتي، أنتظر عند الباب.» ثم جلس على الأرض عند قدمي السيد سانت كلير. أمسك بحاشية ثيابها وتساقطت الدموع من عينيه عليها. ثم رفع ناظريه ونظر بعمق في عيني سيده؛ وفيما كانا ينتظران، نسي أكثر من أحب إيفا أنهما كانا سيدا وعبده وشبك كل منهما يده في يد الآخر من أجل حضور الملاك. وبعد برهة قصيرة رفعت إيفا رأسها وابتسمت. «ماذا يا إيفا؟ ماذا يا عزيزة قلبي؟»
لكن وجهها الجميل غاص في صدره وانتصب توم على ركبتيه وقال في أسى: «لقد رحلت يا سيدي؛ إنها بين يدي الرب الأبدية الآن. لقد ذهب الحمل الأبيض الصغير إلى منزله.»
الفصل الحادي عشر
سيميون وفينياس.
كان منزل جمعية «الكويكرز» يمتلئ بحركة طفيفة حين كانت فترة الظهيرة قد قاربت على الانتهاء. وقد انشغلت راشيل هاليداي بجمع بعض الأشياء من مخزنها التي يمكن للهاربين أن يحملوها بسهولة أثناء هروبهم؛ ذلك أن جورج هاريس والزنوج الهاربين الآخرين كانوا سيكملون فرارهم في تلك الليلة. امتدت ظلال فترة الظهيرة باتجاه الشرق، وكانت الشمس معلقة بالأفق وكأنها كرة حمراء. وقد تسللت أشعة الشمس الأخيرة إلى الغرفة التي كان يجلس بها كل من جورج وإلايزا، فلفتها بسلام هادئ. جلس جورج وإلايزا يتحدثان وهما يمسكان أحدهما بيد الآخر عما يمكن أن يحمله لهما المستقبل في طياته. «لم نبتعد عن الخطر بعد، ولا ينبغي أن يغرنا الأمل. أوه، سأكون مسرورا للغاية حين نكون بأمان في كندا.»
ثم مد جورج ذراعيه وقال: «أوه، لقد ملأتني نسمة الحرية هذه بقوة عشرة رجال. أشعر وكأنني أستطيع قتال قطيع الذئاب الذي يتبعنا بأسره.»
نذل يافع عذب الحديث.
قاطعهما طرق خفيف على الباب، فنهضت إلايزا وفتحته. كان سيميون هاليداي عند الباب وكان معه أخ من جمعية «الكويكرز» وقدمه باسمه فينياس فليتشر. كان فينياس رجلا طويل القامة نحيل البنية ضعيف البدن وله شعر أحمر، وكانت رؤيته تبعث في النفس شعورا بأنه رجل فكه غريب الأطوار، وكان هذا مختلفا إلى حد ما عن مظهر سيميون الهادئ الساذج. في الواقع، كان لفينياس مظهر رجل سبر أغوار الدنيا، ولا يسمح أن تشتت توافه الأمور تركيزه.
قال سيميون: «عرف صديقنا فينياس شيئا ذا أهمية لك ولمن معك يا جورج، وسيكون من الأفضل لك أن تسمعه.»
قال فينياس: «هذا صحيح، وهذا يظهر أهمية أن تبقي أذنيك وإحدى عينيك منتبهتين حين تكون نائما في مكان أنت غريب عنه. في الليلة الماضية وفي حانة منعزلة بجوار النهر صادف أنني كنت هناك بحلول الليل، تناولت العشاء ثم تمددت قليلا على كومة من الحقائب كي تغفو عيناي قليلا قبل حلول الوقت المخصص للنوم. كان هناك عدد من الرجال في الحجرة يتحدثون، وسمعتهم يتحدثون عن جمعية «الكويكرز». لذا عمدت إلى أن أتنفس بعمق حتى أظهر لهم أنني كنت أغط في نوم عميق وأنني لا أسمع أي شيء مما يقولونه سرا.
قال أحدهم: «إنهم في مستوطنة جمعية «الكويكرز» ولن يكون هناك في الواقع أي مشكلة إذا ما خوفنا أولئك الإخوة الودعاء وحملناهم على تسليمهم لنا.» ثم حافظت على ثباتي وسمعتهم يفصلون خطتهم ليمسكوا بكم. هناك شرطيان قادمان من مدينة صغيرة تقع أعلى النهر وسيصحبانهما لإلقاء القبض عليكم، ثم سيكون هناك نذل يافع عذب الحديث سيقسم على أن إلايزا ملكه، ثم سيتسلمها منهم ليأخذها إلى الجنوب. أما عن الطفل فسيتركونه للتاجر الذي اشتراه من مزرعة شيلبي في كنتاكي، وسيعود جيم وأمه العجوز إلى أسيادهما السابقين.» ثم استطرد فينياس وهو ينظر إلى هاريس نظرة غريبة: «وأعتقد يا صديقي جورج أن الأمر نفسه سيحدث معك بسبب هروبك؛ ذلك أن سيدك السابق ينوي أن يجعل من هروبك عبرة يتطلع إليها الزنوج الآخرون إذا ما أقدموا على الفرار. أعتقد أنه سيكون هناك من ثمانية إلى عشرة أشخاص في إثرنا، ويبدو أنهم يعرفون الوجهة التي سنسلكها، على الرغم من أنني قد حاولت التشويش عليهم قليلا. لقد استجوبوني قليلا هذا الصباح حين كنت أهم بالرحيل؛ فقد قال أحدهم: «أيها الصديق، هل رأيت زنجيا فارا على الطريق الذي أتيت منه؟»
فسألته: «هل هو طويل القامة؟»
فقال: «أجل!»
سألته: «وأصفر البشرة؟»
فأجابني: «أجل!»
سألته «هل يبدو عليه الذكاء ويرتدي ملابس جيدة؟»
فأجاب: «أجل» وهنا كنت قد أثرت حماستهم.
قالوا: «هل رأيته؟»
فأجبتهم: «لا، لم أر أحدا.»
قال السيد هاليداي مؤنبا إياه: «هل أثرت حفيظة الرجل يا سيميون وجعلته يصل إلى مرحلة الغضب؟» «أيها الصديق، هل رأيت زنجيا فارا على الطريق الذي أتيت منه ؟»
قال الأخ من جمعية «الكويكرز» مبتسما: «لا ينبغي أن أتساءل إن كنت قد فعلت أم لا، ولكن قل لي ما الذي أفعله؟ أولا أنا لا أنوي أن أجعل أولئك الرجال يمسكون بأصدقائنا هنا إذا ما كانت هنالك طريقة للحيلولة دون حدوث ذلك. إنهم رجال أشرار وقساة، وأنا على استعداد أن أجعلهم يطاردوننا مطاردة ممتعة، فما هي الخطة التي سنقوم بها؟»
وقفت المجموعة في وضعيات مختلفة بعدما قيل، وكان مظهرهم يستحق أن يمثله أحد الرسامين. كانت راشيل هاليداي - التي أخرجت يدها من عجينة تعدها لصنع البسكويت كي تسمع الأخبار - تقف معهم وهي مهتمة للغاية ومغطاة بالدقيق ورافعة يديها، وبدا سيميون وكأنه يفكر تفكيرا عميقا. أما إلايزا فقد لفت ذراعيها حول زوجها ونظرت إليه. وقد وقف جورج بيدين مقبوضتين وعينين لامعتين ويبدو عليه كأي رجل آخر زوجته على وشك أن تباع في مزاد، وسيرسل ابنه إلى أحد التجار، وكل هذا تحت ظل قوانين أمة مسيحية.
قال جورج: «أعلم ماذا سأفعل.»
قالت إلايزا بنبرة خافتة: «ماذا ينبغي أن نفعل يا جورج؟»
قال جورج: «أعرف ما يتعين علي فعله.» بينما دخل الغرفة الصغيرة وبدأ يفحص مسدساته.
قال فينياس وهو يومئ برأسه إلى سيميون: «أترى يا سيميون كيف ستسير الأمور؟»
قال سيميون وهو يتنهد: «أجل، أرى. إنني أدعو ألا تئول الأمور إلى ذلك.»
قال جورج: «لا أريد أن أشرك أحدا في هذا الأمر معي أو من أجلي. إذا ما أعرتموني مركبتكم وأرشدتموني إلى الطريق، فسأقودها وحيدا إلى المحطة التالية. إن جيم عملاق قوي، وهو شجاع في وجه الموت والمحن، وهكذا أنا أيضا.»
قال فينياس: «آه، حسنا يا صديقي، لكنك رغم هذا ستحتاج إلى سائق. لا بأس أن تقوم أنت بالقتال وما تعرفه بشأنه، لكنني أعرف أشياء عن الطريق لا تعرفها أنت.»
قال جورج: «لكنني لا أريد أن أورطك في هذا الأمر.»
قال فينياس بتعبير حماسي غريب على وجهه: «تورطني! أرجوك أعلمني إذن حين تورطني فعلا.»
قال جورج: «لن أهاجم أحدا. كل ما أطلبه من أهل هذا البلد أن يتركوني وحدي، وسأخرج منها في سلام، لكن ...» ثم توقف وقد قطب جبينه واكفهر لونه وعبس وجهه ... «هل سأقف بلا حراك وأشاهدهم يأخذون زوجتي ويبيعونها في حين أن الرب أمدني بيدين قويتين لأدافع عنها؟ لا، سأقاتل حتى آخر أنفاسي قبل أن يأخذوا مني زوجتي وابني، فهل تلومونني على ذلك؟»
قال سيميون: «لا يستطيع أحد أن يلومك يا جورج. أي رجل كان يفعل مثلما تقول.» «ألم تكن أنت يا سيدي لتفعل ما أقول لو كنت في مكاني؟»
قال سيميون: «أدعو الرب ألا أقف هذا الموقف أبدا؛ فجسدي ضعيف.»
قال فينياس وهو يمد ذراعيه وكأنهما أشرعة طاحونة هوائية: «أعتقد أن جسدي يصبح قويا في مثل هذا الموقف. لست واثقا صديقي جورج، ولن أمنعك عن أحد إذا ما كان بينكما حساب تريد تصفيته معه.»
قال سيميون: «إذا كان على المرء أن يقاوم الشر، فلا بد أن يكون جورج حرا في فعل ذلك الآن. لندع الرب ألا يغرينا هذا.»
قال فينياس: «أوافقك على ذلك، لكننا إذا ما رغبنا في ذلك بشدة، فلن ندعهم يأخذوا حذرهم! هذا كل ما هنالك.»
قال سيميون وهو يبتسم: «من الواضح أنك لم تولد لتكون أخا في جمعية «الكويكرز». فطبيعتك القديمة لا تزال تجد طريقها إليك وبصورة قوية أيضا كما كان حالك من قبل.»
للحقيقة، كان فينياس رجلا انعزاليا وكان قوي البنية شديد البأس، وكان صيادا نشيطا وقناصا ماهرا؛ لكنه وبعد أن تودد إلى إحدى أخوات جمعية «الكويكرز»، أقنعته بقوة جمالها وسحرها أن ينضم إلى الجمعية في الحي الذي يسكن فيه.
قالت راشيل هاليداي وهي تبتسم: «سيظل للأخ فينياس أساليبه الخاصة. لكننا نعتقد جميعا أن قلبه أصبح في المكان الصحيح في النهاية.»
وبعد تناول طعام العشاء بفترة قصيرة، وقفت عربة كبيرة مغطاة أمام الباب، كانت الليلة صافية الأجواء، وقفز فينياس من مقعده في خفة ونشاط ليشرف على ركوب مرافقيه. خرج جورج من الباب حاملا ابنه على ذراعه، وأمسكت زوجته بذراعه الأخرى. كانت خطوته ثابتة وبدت على وجهه أمارات العزم والإصرار، ثم خرجت راشيل ومعها سيميون بعدهما.
قال فينياس لمن كانوا يركبون بالداخل: «اخرجوا أنتم للحظة، ودعوني أعدل من مؤخرة العربة، من أجل السيدات والطفل.»
قالت راشيل: «إليكم هذين المفرشين. أبقوا على المقاعد مريحة قدر الإمكان؛ فمن الصعب ركوب العربة طيلة الليل.»
خرج جيم أولا وساعد أمه العجوز على الركوب بحرص، تعلقت أمه بذراعه ونظرت حولها في قلق، وكأنها كانت تتوقع وصول مطارديهم في كل لحظة.
قال جورج بنبرة خفيضة: «هل مسدساتك جاهزة يا جيم؟»
قال جيم: «أجل، بالفعل.» «وهل أنت واثق تماما مما ستقوم به إذا ما أتوا إلينا؟»
قال جيم وهو يفتح صدره العريض ويتنفس بعمق: «وهل لديك شك في هذا؟! أتعتقد أنني سأدعهم يمسكون بأمي مجددا؟»
وظلت العربة تهرول وتمر الساعات واحدة تلو الأخرى.
أثناء تلك المحادثة القصيرة، كانت إلايزا تودع صديقتها العزيزة راشيل، وساعدها سيميون في ركوب العربة، فتسللت إلى الجزء الخلفي من العربة رفقة ابنها، وجلست بجانب المفرشين المصنوعين من جلد الجاموس. صعدت المرأة العجوز العربة بعدها وجلست، وجلس كل من جورج وجيم على مقعد كبير خشن أمامهما، وصعد فينياس أمامهم جميعا.
قال سيميون من خارج العربة: «وداعا أصدقائي.»
فأجابه جميع من بالعربة: «ليباركك الرب!»
وانطلقت العربة مسرعة تهتز وترتج على الطريق المتجمد.
لم يكن هناك أي فرصة للحديث، بسبب وعورة الطريق والضوضاء التي تحدثها العجلات. كانت العربة تقعقع خلال مساحات طويلة ومظلمة من الغابات - وعلى سهول شاسعة كئيبة وعلى منحدرات التلال والوديان - وظلت العربة تهرول وتمر الساعات واحدة تلو الأخرى. سرعان ما غط الطفل في نوم عميق، وبمرور الميل تلو الآخر، نسيت المرأة العجوز جل مخاوفها تقريبا. فجأة مال جورج إلى الأمام وأنصت، كان هناك صوت أقدام جياد تعدو بسرعة خلفهم. وبعد أن نظر فينياس إلى جورج نظرة فطنة زاد من سرعة الخيول نحو صخرة شديدة الانحدار، وخرج من العربة.
قال فينياس: «هذا هو المكان الذي أردت أن نصل إليه. اخرجوا واصعدوا تلك الصخور معي.»
أمسك هاري بذارعيه القويتين وتبعه البقية نحو أعلى حافة الصخرة، ثم ضاق الممر الذي يسيرون فيه حتى إنه صار لا يتسع إلا لمرور شخص واحد فقط في كل مرة، حتى وصلوا فجأة إلى هوة اتساعها ياردة واحدة، وخلفها برزت كتلة من الصخور ارتفاعها ثلاثون قدما، ولها جوانب جدارية منحدرة وزلقة، وكأنها جدران قلعة. قفز فينياس بسهولة من فوق تلك الهوة وتبعته السيدات بشيء من الصعوبة.
صاح الأخ من جمعية «الكويكر»: «هيا، اقفزوا وانجوا بحياتكم وحريتكم.» وحتى تلك المرأة السوداء العجوزة قامت بالقفزة. كونت بعض كسرات الصخور متراسا، فتواروا خلفه عن أنظار من تحتهم.
قال فينياس: «ها نحن ذا، ليصعدوا إذا ما كان باستطاعتهم ذلك. إن من سيصعد إلى هنا سيتحتم عليه أن يكون فردا وحيدا، ويسير بين تلك الصخرتين في مرمى مسدساتكما أيها الرجلان، أتريان ذلك؟»
قال جورج في ثبات: «أجل، أرى ذلك. والآن وبما أن هذا الأمر يخصنا نحن فدعنا نقاتل، ونتحمل جميع المخاطر.»
كان الرجال في الأسفل يتكونون من عدد من الرجال كان هالي قد عينهم ليطاردوا الفارين. كان اسم أحدهم توم لوكر، ورجل آخر اسمه ماركس وهو محام ماكر كان أنفه الغريب محشورا في شئون الجميع. وكان مع هذين الرجلين اثنان من رجال الشرطة مخول لهما سلطة القبض على جورج وجيم الزنجي الذي عاد من كندا من أجل أمه العجوز. وكان الرجال في طريقهم إلى الصخور حين ظهر جورج من فوقهم وقال بصوت هادئ وواضح: «أيها السادة، من أنتم وماذا تريدون؟»
قال توم لوكر: «نريد مجموعة من الزنوج الهاربين؛ أولهم جورج هاريس وزوجته إلايزا وابنهما، وجيم سيلدن وامرأة عجوز. معنا هنا ضابطا شرطة ومذكرة بالقبض عليهم؛ وسنقبض عليهم أيضا. أتسمعني؟ ألست أنت جورج هاريس المملوك للسيد هاريس بمقاطعة شيلبي في ولاية كنتاكي؟» «أنا جورج هاريس، وكان السيد هاريس من ولاية كنتاكي يقول بأنني مملوك له. لكنني الآن رجل حر، وأقف على أرض الرب الحرة؛ وزوجتي وابني معي، وهما لي، وجيم وأمه هنا. إننا نمتلك أسلحة ندافع بها عن أنفسنا، وسنستخدمها فعلا إذا ما اضطررنا إلى ذلك. يمكنكم أن تصعدوا إذا ما أردتم؛ لكن أول من يظهر منكم على مرمى رصاصنا فهو في عداد الأموات، والذي يليه وهكذا حتى آخر فرد منكم.»
قال رجل قصير بدين منهم وهو يتقدم للأمام: «أوه، هيا! هيا! أيها الشاب، ليست هذه طريقة تتحدث بها. أترى؟ نحن ضابطان. إن القانون في صفنا، ونمتلك السلطة كذلك؛ لذا فمن الأفضل لك أن تستسلم سلميا؛ لأنك ستستسلم في النهاية.»
قال جورج بمرارة: «أعرف تماما أن القانون والسلطة في صفكم. أنتم تريدون أن تأخذوا زوجتي وتبيعوها في نيو أورليانز، وتأخذوا طفلي وتضعوه في حظيرة أحد التجار وكأنه عجل صغير، وتريدون أن ترسلوا والدة جيم العجوز إلى ذلك الحيوان الذي اعتدى عليها قبل ذلك؛ لأنه لم يستطع أن يعتدي على ابنها. إنكم تريدون أن تعيدوني أنا وجيم لكي يتم جلدنا، وستحميكم قوانينكم وتخرجكم من هذه المسألة، ويا له من عار عليكم وعلى تلك القوانين! لكنكم لم تقبضوا علينا بعد. نحن لا نعترف بقوانينكم، ولا ببلدكم. إننا نقف هنا أحرارا، تحت سماء الرب، تماما مثلكم، وأقسم بالرب العظيم الذي خلقنا أننا سنقاتل لأجل حريتنا حتى نموت عنها.»
إن ثمة شيئا في الجرأة والعزيمة قادرا - لبعض الوقت - على إسكات حتى أقسى الرجال وأكثرهم وقاحة. لكن ظل ماركس هو الوحيد الذي لم تؤثر به تلك الكلمات، كان يصوب مسدسه عمدا، وأثناء ذلك السكون اللحظي الذي تبع حديث جورج، أطلق ماركس رصاصة من مسدسه في اتجاهه.
ثم قال في برود بينما كان يمسح مسدسه في كم معطفه: «طبقا لقوانين ولاية كنتاكي فإننا نحصل على أجر إحضاره ميتا، تماما كما نحصل على أجر إحضاره على قيد الحياة.»
وثب جورج إلى الخلف - وقد أطلقت إلايزا صرخة ذعر - ذلك أن الرصاصة مرت قريبا من أذنه، حتى إنها كادت تكشط وجنة زوجته، ثم استقرت في الشجرة فوق رءوسهم.
قال جورج سريعا: «لا بأس يا إلايزا.»
قال فينياس: «من الأفضل لك أن تتوارى عن الأنظار حين تلقي خطابك، إن أولئك الرجال أوغاد وضيعون.»
قال جورج : «والآن يا جيم، تأكد من مسدساتك، وراقب ذلك الممر معي. سأطلق أنا النار على أول رجل يظهر فيه، وأطلق أنت النار على من يليه، وهكذا. فلن يجدينا نفعا أن نضيع رصاصتين على رجل واحد منهم.» «لكن ماذا لو لم تصب أولهم؟»
قال جورج بنبرة هادئة: «سأفعل.»
تمتم فينياس: «هذا جيد، هذا الرجل يعرف كيف يقاتل.»
وقف الرجال في الأسفل للحظة مترددين غير عاقدي العزم بعد أن أطلق ماركس رصاصته.
قال أحدهم: «أعتقد أنه لا بد أنك قد أصبت أحدهم بتلك الرصاصة. لقد سمعت صوت صرخة أحدهم!»
قال توم وهو يقفز على الصخور: «سأصعد إليهم مباشرة، لم أخف من زنجي من قبل، ولن أخاف منهم الآن. من سيأتي خلفي؟»
سمع جورج كلماته واضحة. فسحب مسدسه، وتفحصه وصوبه نحو الممر الذي سيظهر فيه أول الرجال.
فأطاح به من فوق حافة المنحدر.
تبع توم أحد أكثر أولئك الرجال شجاعة، وبعد ذلك تبعه الآخرون وبدءوا يتسلقون الصخور؛ فكان آخرهم يدفع الذي أمامه والذي أمامه يدفع بدوره من هو أمامه وبذا تسلقوا الصخور سريعا. وهكذا ظهرت بنية توم القوية على مرأى جورج وجيم عند حافة الهوة تقريبا.
أطلق جورج النار - فأصابت الطلقة لوكر في جانبه - لكنه ورغم جرحه لم يتراجع. قفز لوكر مزمجرا فوق الهوة، وسرعان ما كان بقية الرجال أمام الرجلين، لكن الرجل من جمعية «الكويكرز» - الذي لم يكن يعرف القتال - وجه إليه ضربة من ذراعه الطويل فأطاح به من فوق حافة المنحدر، فاصطدم الأخير بالأشجار والأحجار حتى استقر على الأرض من على ارتفاع ثلاثين قدما وهو يعاني من كسور وكدمات.
صاح فينياس: «هيا! أنا رجل سلام، لكن التالي منكم الذي سيحاول أن يعبر إلى هنا سأطيح به أسفل المنحدر ليكون بصحبة صديقه.»
بدا على الرجال أنهم مترددون للحظات وغير واثقين مما يفعلونه. ثم هرع ماركس وقفز فوق حصانه وقال وهو يخز جواده ويعدو به: «بينما تهتمون بتوم، سأذهب أنا وأعود بالمساعدة.»
قال الآخرون: «يمكننا أن نذهب نحن أيضا.» ثم ركضوا بجيادهم تاركين خلفهم لوكر سيئ الحظ في قاع الوادي.
شاهدهم فينياس وهو يضحك وقال: «أعتقد أن تكلفة فعلتهم أضحت واضحة الآن. هيا، ينبغي علينا أن نستمر في التحرك.»
قالت إلايزا: «أوه، لا ينبغي أن نترك ذلك الرجل المسكين وحده هنا. ألا يمكننا أن نفعل شيئا لأجله؟»
قال جورج: «لن نكون مسيحيين حقا إذا ما تركناه. لنرفعه ونحمله معنا إلى مكان يمكن أن يتلقى فيه الرعاية.»
نزل الرجال إلى أسفل الوادي حيث كان لوكر راقدا ويئن من الألم، واعتنى بجراحه فينياس، الذي كان، بطريقته الخاصة، جراحا.
قال لوكر في وهن: «ماركس، أهذا أنت يا ماركس؟»
أجابه الأخ من جمعية «الكويكرز»: «لا أعتقد ذلك يا صديقي. لقد فكر ماركس في نفسه؛ لقد تركك لتموت هنا وحيدا.»
قال الرجل بصوت ضعيف: «لقد دفعتني وأسقطتني إلى هنا.» «أجل، لقد فعلت ذلك. ولو لم أفعل ذلك لكنت قد دفعتنا أنت، أليس كذلك؟ هاك، دعني أثبت تلك الضمادة، ثم سنأخذك لتنام على سرير ناعم كالذي في بيت أمك.»
جرت إلايزا وأحضرت الكساء المصنوع من جلد الجاموس من العربة، ولف الرجال جسد لوكر الثقيل فيه وحملوه بتلك الطريقة إلى العربة. أمسكت المرأة الزنجية العجوز برأسه ووضعته في حجرها، وانطلقوا في طريقهم نحو بر الأمان في بطء بسبب العدو الجريح الذي يحملونه معهم.
الفصل الثاني عشر
كانت توبسي موهوبة في تقليد كل شيء؛ ذلك أنها كانت تستطيع أن تهرول وتصفر وتتسلق، وتقلد صوت كل طائر أو حيوان يصدف أن تسمعه. في البداية كانت الفتاة محط ازدراء من جميع خدم سانت كلير، لكن بعد فترة كانت الفتاة تتلقى معاملة هي الأفضل من ناحية مراعاتها واحترامها؛ ذلك أن قد اكتشف أنه كل من يهين توبسي أو يسيء إليها كان من المؤكد أنه سيحدث له مكروه؛ فقد يفقد حلية يعتز بها، أو تتلف ثيابه، أو ربما يتعثر في خيط ممدود عبر ممر مظلم ويقع في دلو من الماء الساخن؛ وربما يلقى عليه من فوقه دلو من الماء بينما يرتدي أفضل ثيابه.
لم يشك أحد أبدا فيمن يقف خلف تلك الحوادث، لكن الفتاة كانت تمثل البراءة بحد ذاتها حين يتم توجيه أصابع الاتهام لها، كما أنها كانت أسرع من أن يتم الإمساك بها وهي تنفذ حيلها. وكانت دوما ما تضبط توقيت تلك الحيل مع الوقت الذي تكون فيه السيدة سانت كلير ساخطة على ضحيتها، سواء كانت تلك الضحية هي روزا أو جين أو أي شخص آخر؛ وحيث إن ذلك كان يحدث كثيرا، فإنها كانت دوما في أمان من غضب تلك المرأة؛ لذا ساد بين بقية خدم المنزل أن يتم تملق توبسي واسترضاؤها طوال الوقت، وكانت هي تحكمهم بقبضة حديدية.
كانت الفتاة ذكية ونشيطة في كل أعمالها، فلم يكن بمقدور أحد أن يجد خطأ في أي سرير تسويه توبسي، لكن لو صدف أن خرجت السيدة أوفيليا وتركتها وحيدة لتقوم بعملها، كانت توبسي تقيم كرنفالا من الفوضى يمتد لساعتين؛ فبدلا من أن ترتب السرير، كانت تسلي نفسها بخلع أغطية الوسادات ووضع رأسها بين الوسائد حتى يلتصق الريش برأسها في جميع الاتجاهات بأشكال بشعة. كانت تتسلق أعمدة السرير وتتعلق بها رأسا على عقب، وتنثر الملاءات والأغطية في كل أرجاء الغرفة. دخلت عليها السيدة أوفيليا ذات صباح لتجدها قد ألبست إحدى الوسائد الطويلة ثياب نومها بينما انتصبت بطولها في منتصف الغرفة، وكانت توبسي تتشقلب من حولها على يديها وهي تضع أفضل وشاح قرمزي لدى سيدتها والمصنوع من القماش الرقيق.
ألبست إحدى الوسائد الطويلة ثياب نومها، كانت توبسي تتشقلب من حولها على يديها.
صاحت السيدة أوفيليا في نبرة غاضبة: «توبسي! ماذا تفعلين بوشاحي؟ وما الذي يجعلك تفعلين هذا؟»
توقفت توبسي فجأة، واستقامت في وقفتها أمامها وقالت: «لا أعرف يا سيدتي، أظن أنني أفعل ذلك لأنني مزعجة.» «لا أعرف ماذا أفعل بك يا توبسي.» «سأقول لك يا سيدتي. ينبغي عليك أن تضربيني. لقد اعتادت سيدتي السابقة أن تضربني، وأنا لست معتادة على العمل من دون أن أتعرض للضرب.» «لماذا يا توبسي؟ أنا لا أريد أن أضربك. ألا يمكنك أن تكوني صالحة من دون أن أضربك؟» «لا، من المؤكد أنني لا بد أن أضرب. سأحضر لك تلك العصا، ومن الأفضل لك أن تضربيني ضربا مبرحا.»
ركضت توبسي خارج الغرفة وسرعان ما عادت ومعها العصا. أخذت السيدة أوفيليا العصا في رقة ثم ضربتها على ظهرها ضربة خفيفة؛ لكنها توقفت مذعورة بسبب الصراخ الفظيع الذي تسببت به تلك الضربة. «أوه، أوه، أوه، سيدة فيلي، لا تفعلي! أنت تقتلينني! أوه، سيدة فيلي!»
قالت السيدة المسكينة وهي ترتعش: «توبسي، توقفي عن ذلك الصراخ. أنا بالكاد لمستك.» «أوه، أوه، أنت تؤذينني! لا تفعلي سيدة فيلي، أوه، أوه!» ثم توقفت الفتاة فجأة وهي في خضم صراخها وقالت: «من فضلك سيدتي، أيتها السيدة فيلي، اضربيني مرة أخرى. أنا في حاجة إلى ذلك، حقا. أنا في حاجة ماسة إلى ضربة أخرى.» «اخرجي من الغرفة يا توبسي، وحين تكونين فتاة صالحة يمكنك أن تعودي وترتبي سريري.»
خرجت توبسي من الغرفة وهي تئن وتنتحب، وفي غضون دقيقة أو أكثر، كانت جاثمة في الشرفة وكأنها طائر شحرور أسود وحولها مجموعة من الأطفال الزنوج المعجبين بها يستمعون لخبراتها.
قالت توبسي متفاخرة: «ينبغي أن تشعروا بالضرب الذي تلقيته من السيدة فيلي. كانت نقرة واحدة صغيرة لا تكفي لأن تقتل بعوضة حتى. ألا تتمنون جميعا أن تكونوا سيئين مثلي؟ أنا أردأ طفلة زنجية في هذه المزرعة. هذا صحيح، وأنتم جميعا مذنبون، والبيض مذنبون أيضا، السيدة فيلي تقول ذلك. لكن لا يستطيع أحد أن يمسني، أنا أسوأ زنجية على وجه الأرض، ولا يمكن لأي شخص أن يفعل لي أي شيء.» ثم قامت بأداء عدة حركات بجسدها مما أبهج جمهورها.
كانت السيدة أوفيليا في أيام الأحد تشغل نفسها في تعليم توبسي التعاليم المسيحية شفهيا. وكانت الفتاة تتمتع بذاكرة رائعة وتستطيع أن تتذكر الكلمات بدقة، فكان لدى السيدة أوفيليا آمال عريضة أن يستقر معنى تلك الكلمات في قلب الطفلة التي أثبتت أنها قادرة على الحب حين لمسته إيفا.
وكان السيد سانت كلير يضحك على ما يلم بابنة عمه من آلام ومعاناة، لكنه اندهش حين سمع الفتاة وهي ترتل بطريقة مبجلة، وتقف أمامهم وكأنها تمثال أسود وهي تقول: «آباؤنا الأولون، الذين كانوا يتمتعون بحرية كاملة وبإرادة خاصة بهم، خرجوا من الولاية التي خلقوا فيها.»
سأل السيد سانت كلير: «من كان آباؤنا الأولون يا توبسي؟» «لا أعلم يا سيدي، لم أعرف أولئك الزنوج من قبل قط.»
قالت السيدة أوفيليا محتجة: «أوجستين، لماذا تقاطعها؟» «ابنة عمي العزيزة، إنما أردت أن أعرف بعض المعلومات من تلميذتك. توبسي، ما هي الولاية التي خلقوا فيها؟» «كانت ولاية كنتاكي القديمة يا سيدي. كلنا نأتي من تلك الولاية. لقد سمعت العم توم وهو يقول ذلك. وسيعود توم إلى هناك حين يصبح حرا. لكنني والسيدة فيلي سنصعد إلى الأعلى معا، أليس كذلك سيدتي؟» «هذا إذا كنت فتاة صالحة يا توبسي.» «أينبغي أن أكون صالحة، وإلا فلن تأخذيني؟» «أجل يا توبسي.» «إذن، فمن الأفضل أن أبقى هنا.»
سألها السيد سانت كلير مبتسما بينما نظر إليها من فوق الجريدة: «ألا تريدين أن تكوني صالحة يا توبسي؟» «من؟ أنا؟ لا سيدي، لا أريد أن أكون صالحة. أنا أحب الصحبة.»
جلست توبسي على الدرج أمام السيدة أوفيليا ووجهت عينيها إليها لتنظر في وجهها العابس.
وسألتها: «هل أنت غاضبة سيدة فيلي؟» «لا يا توبسي.» «هل أنت حزينة سيدة فيلي؟»
هزت السيدة أوفيليا رأسها وقالت: «أجل يا توبسي. أجل.» «ألن تذهب السيدة إيفا إلى الجنة؟ لقد أرادت أن تذهب إلى هناك، وستطلب من الرب أن يسمح لي ولك بالذهاب إليها. ستفعل ذلك. سأكون أنا ملاكا صغيرا أسود ذا جناحين، ولكن ماذا ستكونون أنتم جميعا أيتها السيدة فيلي؟»
لم تجبها السيدة أوفيليا، وجاء توم إلى المنزل. وفي غضون العام الذي مر منذ وفاة إيفا، كان توم قد زاد حزنه وظهرت علامات التقدم في السن على وجهه أكثر، وظل قلبه يهفو إلى قومه في ولاية كنتاكي.
كان السيد سانت كلير قد وعده حريته، لكن قلب توم المخلص ظل معلقا بسيده في أكثر أوقاته حزنا.
قال توم : «سأعود إلى موطني يا سيدي، حين تشعر بالسعادة مجددا.» وعلى الرغم من أنه قد تقطعت نفسه شوقا إلى عودته إلى وطنه، إلا إنه لم يكن ليترك سيده في وقت حزنه.
قال سانت كلير في اليوم الذي شرع فيه في اتخاذ الإجراءات القانونية الخاصة بتحرير توم: «حسنا يا توم، سأحررك؛ لذا عليك أن تحزم أمتعتك وأن تستعد للذهاب إلى كنتاكي.»
شعر السيد سانت كلير بأنه منزعج أكثر من الفرحة المفاجئة التي ظهرت على وجه توم حين رفع يديه نحو السماء وظل يردد: «الحمد للرب!» ذلك أنه لم ترق له فكرة أن توم مستعد لتركه بهذا الشكل.
قال السيد سانت كلير بنبرة جافة: «أنت لم تشهد هنا أوقاتا سيئة إلى هذا الحد حتى تنتابك مثل تلك السعادة يا توم.» «لا، لا يا سيدي! ليس هذا هو السبب؛ إنما سبب سعادتي هذه أنني رجل حر! هذا هو سر ابتهاجي.» «لماذا يا توم، ألا تعتقد - في رأيك - أننا من الأفضل لنا ألا نكون أحرارا؟»
قال توم بنبرة بها شيء من الحماسة: «لا، لا أعتقد ذلك قطعا يا سيد سانت كلير. بالطبع لا!» «لماذا يا توم؟ أنت لم تكن لتتمكن وحدك من أن تحصل على الملابس التي أعطيتها لك، ولا على الحياة التي وفرتها لك.» «أعرف كل هذا يا سيد سانت كلير، أنت يا سيدي كنت كريما معي، لكنني يا سيدي أفضل أن أرتدي ملابس رثة، وأن أعيش في منزل خرب وأن أنال الفتات من كل شيء، على أن يكون كل شيء ملكا لي، إنني أفضل ذلك على أن يكون لدي الأفضل من كل شيء، بينما كل شيء ملك لرجل آخر؛ هذا هو الأمر سيدي؛ أعتقد أن هذه هي الطبيعة سيدي.»
فقال بنبرة تنم عن الاستياء: «أظن ذلك يا توم، وستتركنا وتغادر من هنا في غضون شهر أو نحو ذلك.» ثم أضاف بنبرة مغايرة: «رغم أنني لا أرى ما يمنع عن ذلك، لا أحد يعلم.» ونهض من مكانه وراح يذرع الأرض سيرا.
قال توم: «لن أترك سيدي وهو لا يزال يواجه متاعب. سأمكث قدر ما يريد سيدي أن أمكث كي يستفيد من خدمتي له.»
قال توم: «لن أترك سيدي وهو لا يزال يواجه متاعب.»
قال سانت كلير وهو ينظر في حزن من النافذة: «ليس وأنا أواجه متاعب يا توم؟ ومتى ستنتهي متاعبي؟»
قال توم: «حين يكون سيدي سانت كلير مسيحيا بحق.»
قال سانت كلير وهو يبتسم نصف ابتسامة بينما استدار بوجهه عن النافذة ووضع يده على كتف توم: «وهل ستمكث حقا حتى يأتي ذلك اليوم؟ آه يا توم، أيها الرجل السخيف الرقيق القلب! لن أدعك تمكث هنا حتى ذلك اليوم. عد إلى زوجتك وأطفالك، وبلغهم جميعا حبي.»
قال توم في حماسة والدموع في عينيه: «أنا أؤمن أن هذا اليوم سيأتي. الرب يحتفظ لك بعمل تقوم به يا سيدي.»
قال سانت كلير: «عمل؟ حسنا، أخبرني الآن يا توم مزيدا عن رأيك في نوع ذلك العمل. لنسمع منك.» «إن رجلا فقيرا ذليلا مثلي له عمل لدى الرب، فما بالك بالسيد سانت كلير المتعلم الثري الذي يتمتع بصداقات، كيف يكون مقدار العمل الذي سيؤديه للرب؟!»
قال سانت كلير مبتسما: «يبدو أنك تعتقد يا توم أن الرب في حاجة إلى أن ننجز له الكثير من الأعمال.»
قال توم: «نحن نخدم الرب حين نخدم خلقه.»
قال سانت كلير: «نظرية جيدة يا توم؛ أفضل من موعظة واعظ.»
استحوذت مشاعر فقدان إيفا على ماري سانت كلير أكثر من أي شيء آخر؛ وبما أنها امرأة تتمتع بقدرة كبيرة على جعل كل من حولها غير سعيد حين تكون هي غير سعيدة، فقد كان لدى الذي يتعاملون معها تعاملا مباشرا سبب أقوى ليأسفوا على خسارة السيدة الصغيرة، تلك السيدة التي كانت أساليبها الساحرة وشفاعاتها الرقيقة كثيرا ما تمثل درعا لهم يقيهم من أنانية أمها واستبدادها التعسفي تجاههم. وعلى وجه الخصوص، تلك الممرضة العجوز المسكينة التي انقطع قلبها عن كل العلاقات المنزلية الطبيعية، كانت الممرضة تتخذ من الفتاة الصغيرة عزاء لها، فشعرت بعد خسارتها بأن قلبها قد انفطر. كانت تبكي ليل نهار، وكانت جراء حزنها على الصغيرة أقل انتباها وإتقانا بشكل أكثر من المعتاد في إسعافها لسيدتها ماري؛ الأمر الذي تسبب في تعرضها المستمر لوابل من التوبيخ.
سمعت السيدة ماري صوت زوجها وهو يتحدث مع توم، فالتفتت مبتعدة وهي تهز كتفها استهجانا.
قالت: «كنت أحتفظ بالزنوج في أماكنهم لو لم أكن أملك أمر هذه المزرعة.»
لكن السيد وعبده جلسا طويلا في الضوء المتلاشي، وقد وجد قلب الأب المتألم عزاء وراحة في كلمات المحبة والإيمان التي نطقت بها تلكما الشفتان السوداوان.
قال سانت كلير: «ستحصل على حريتك يا توم، أيها الصديق المخلص. سأكون قد جهزت أوراقك غدا.» «لا أعلم ما الذي يدفعني إلى التفكير في أمي كثيرا الآن. لدي شعور غريب، وكأنها قريبة مني. إنني أفكر في أشياء كانت معتادة على قولها. هذا غريب، ما الذي يجعلنا نفكر في بعض الأحيان في تلك الذكريات فتتمثل أمامنا بتلك الصورة الحية؟!»
راح سانت كلير يذرع الغرفة جيئة وذهابا لبضع دقائق ثم قال: «أعتقد أنني سأخرج إلى الشارع لبضع دقائق لأسمع الأخبار.»
أخذ قبعته وخرج.
تبعه توم إلى الممر وعبر الفناء وسأله إن كان عليه أن يذهب معه.
قال سانت كلير: «لا أيها الفتى. سأعود في غضون ساعة.»
جلس توم في الشرفة، كانت الأمسية جميلة مقمرة، فجلس يشاهد رذاذ النافورة المتطاير ويستمع إلى صوت خرير الماء فيها. فكر في منزله وأنه سيكون حرا في القريب وأنه سيتمكن من العودة إلى موطنه حين يريد. فكر كيف أنه سيتعين عليه أن يعمل من أجل أن يشتري حرية زوجته وأطفاله. شعر بنوع من السعادة يسري في عضلات ذراعيه القويتين حين فكر أنهم سيكونون ملكه، وكيف يمكنهم أن يسهموا في حرية عائلته. ثم فكر في سيده النبيل الصغير، الذي دوما ما يتبع تفكيره فيه صلاة ثابتة كان يهبها له؛ ثم ذهبت أفكاره إلى إيفا الجميلة التي يعرف أنها الآن بين الملائكة، وظل يفكر فيها ويفكر حتى ظن أنها تنظر إليه من بين رذاذ النافورة بوجهها المشرق وشعرها الذهبي. ثم غشيه النوم وهو في خضم تأملاته، وحلم بها آتية نحوه وهي تتقافز، تماما كما اعتادت أن تفعل، وفي شعرها إكليل من الياسمين، وكانت وجنتاها مشرقتين، وعيناها تشعان سعادة وفرحة، لكن وبينما كان ينظر إليها، بدت إليه وكأنها ترتفع عن الأرض وقد بدا على وجنتيها شيء من شحوب - وكانت عيناها تلمعان بضوء عميق سماوي، وبدت كأن هناك هالة ذهبية حول رأسها - ثم اختفت من أمامه؛ واستيقظ توم على صوت طرقات صاخبة، وعلى أصوات لأشخاص كثيرين عند الباب.
جلس توم في الشرفة.
أسرع توم ليفتح الباب فدخل بضعة رجال أصواتهم مخنوقة وخطواتهم ثقيلة، كانوا يحملون جثة ملفوفة في معطف وممددة على لوح خشبي. سقط ضوء المصباح على وجه الجثة فأضاءه، فصرخ توم صرخة مدوية من الدهشة والقنوط؛ ذلك أن سيده الشاب سانت كلير قد أصيب في قلبه الحنون بطلقة كانت تستهدف شخصا آخر أثناء سيره في الشارع.
الفصل الثالث عشر
في الجزء السفلي من قارب صغير وضيع يبحر في النهر الأحمر، جلس توم ويداه مكبلتان بالقيود والسلاسل، أما قلبه فكان يحمل حزنا أثقل من الحديد وأقسى منه. كانت سماء أفكاره ملبدة بالغيوم، فاختفى منها القمر والنجوم، وقد تجاوزه الأمل كما تتجاوزه تلك الأشجار المصطفة على ضفة النهر التي لن تعود أبدا. ضاع منه منزله في ولاية كنتاكي وكوخه الصغير بساكنيه الأعزاء، ومزرعة سانت كلير وروعتها، وإيفا ذات الشعر الذهبي وابتسامتها البريئة ورفقتها الطيبة، وسيده الشاب الكريم اللطيف السخي الذي وعده حريته - كل ذلك ضاع منه؛ ذلك أن السيدة سانت كلير تجاهلت إرادة زوجها وباعت توم والعبيد الآخرين، فأصبح صديق ابنتها والرفيق المخلص الرءوم لزوجها الذي قدم له المساعدة مكبلا بالأغلال مرة أخرى، وكان سيده الحالي رجلا فظا غليظا يحمل اسم سايمون لاجري.
أبحر القارب باتجاه أعالي النهر الأحمر الموحل العكر، خلال التواءاته الحادة المتعرجة، فكانت عينا راكبه الحزينتان تحدقان في ارتباك في ضفتيه المنحدرتين الموحلتين حتى توقف القارب عند بلدة كئيبة ونزل عنه لاجري ومن يملكهم من عبيد.
وسار توم ورفقته خلف عربة بدائية على طريق أكثر خشونة بقلوب منهزمة نحو مزرعة لاجري. ظلوا ينظرون بعيون متقدة إلى وجه مالكهم، وعرفوا أن الحزن والكرب هو قسمتهم.
التفت لاجري إليهم حيث كانوا يسيرون في صمت وصاح فيهم قائلا: «أسمعوني ما يطربني، غنوا لحنا مرحا، لا تغنوا التراتيل الميثودية، بل غنوا أغنية مبهجة. هيا، أسمعوني!»
فجاء صوت أحد الرجال يغني لحنا خاصا بالزنوج:
طلب سيدي لحنا زنجيا،
فصاح فينا كوغد دنيء،
وأتوقع أننا سرعان ما سننتقل إلى دنيء آخر،
أعلى أيها الزنوج، أعلى!
كان المغني يؤلف الكلمات وهم يسيرون فتولى الآخرون الجوقة وقالوا:
ها يو أيها الزنوج!
ها يو أعلى!
كان الغناء صاخبا وحماسيا؛ لكن الأذن التي علتهم سمعت في غنائهم نداء للمساعدة والخلاص، لكن مراقبهم لم ينتبه إلى ذلك؛ حيث إنه جعلهم يكملون غناءهم حتى دخلوا طريقا نبتت فيه الأعشاب، وساروا فيه حتى وصلوا إلى منزل كان يبدو عليه فيما مضى أنه جميل، لكنه الآن يحمل علامات الإهمال والاضمحلال. اندفع نحو الوافدين الجدد ثلاثة كلاب أو أربعة كانوا وحوشا شرسة مزمجرة، وكانت تلك الكلاب تقطعهم إربا لو لم ينهرهم سيدهم بسوطه الثعباني الأسود.
قال الرجل وهو ينظر إلى الكلاب نظرة ذات مغزى: «أترون ما يمكنكم أن تتوقعوه إذا ما حاول أي زنجي منكم أن يهرب؟ لا يمكن لأي شخص أن ينجو حيا من تلك الفكاك أبدا.»
سار توم ورفقته خلف عربة بدائية الصنع.
تبع توم رجلا ضخما صارما يدعى سامبو إلى المأوى. كان توم يفكر في مكان وضيع لكنه هادئ يمكنه أن يحافظ على نظافته، وكان يأمل أن يكون به رف يضع عليه كتابه المقدس، ويكون به فسحة للراحة والصلاة بعد ساعات طوال من العمل. لكن كان هناك صف من العشش الخربة، كانت مجرد هياكل قذرة وبائسة وغير مريحة، حتى إن قلب توم القوي انقبض حين رآها. لم يكن بأي من هذه العشش أي قطعة من الأثاث، وكان السرير الوحيد بها عبارة عن كومة من القش المتعفن.
سأل توم في خضوع: «أي هذه العشش ستكون لي؟» «لا أعرف، يمكنك أن تدخل إحداها حتى يخرجك منها أحدهم. لا يوجد هنا مكان خاص بأحد. أعتقد أنكم ستتكومون في هذه العشش مع الكثير من العبيد الآخرين.»
كانت ساعة متأخرة، حين جاء ساكنو تلك العشش المنهكون إلى المنزل.
كانت ساعة متأخرة من المساء حين جاء ساكنو تلك العشش المنهكون في قطعان إلى المنزل. كانوا رجالا ونساء يرتدون ملابس متسخة وممزقة، وكانوا عابسين ومنزعجين، وفي حالة لا تسمح لهم بأن ينظروا في سرور إلى الوافدين الجدد. كانت القرية الصغيرة تعج بالنشاط لكن من دون وجود أصوات واعدة؛ كانت الأصوات الوحيدة هي أصوات تناحر العبيد عند المطاحن اليدوية حيث يتم طحن كميات صغيرة من الذرة الصلبة التي ستتحول فيما بعد إلى دقيق يصنع منه كسرات من الكعك هو غذاؤهم الوحيد. كان هؤلاء العبيد في الحقول منذ ساعات الصباح الأولى مدفوعين للعمل تحت ضربات سياط المشرفين عليهم؛ فقد كان ذلك الوقت هو أوج الموسم، ولم يكن المشرفون ليتركوا وسيلة للضغط على كل عبد منهم ليعمل بأقصى ما أوتي من قوة. نظر توم عبثا في وجوه العبيد وهم يتدفقون محاولا التعرف على أحدهم. ولم ير توم سوى رجال متجهمين عابسين ونساء واهنات ضعيفات. امتدت أصوات الطحن حتى ساعة متأخرة من الليل؛ فقد كان عدد المطاحن قليلا مقارنة بمن يطحنون، فكان القوي فيهم يجور على الضعيف، فينتظر الضعيف دوره في النهاية.
كان توم جائعا بسبب رحلته أثناء اليوم، وكاد يغمى عليه من شدة حاجته إلى الطعام.
قال سامبو وهو يلقي إليه بكيس خشن يحتوي على بعض حبوب الذرة: «هاك! أمسك أيها الزنجي بهذا، وانتبه إليه؛ فأنت لن تحصل على المزيد، هذا يكفيك أسبوعا.»
انتظر توم حتى ساعة متأخرة ليجد دورا له عند المطحنة؛ ولما وجد امرأتين واهنتين لا تقدران على الطحن رق قلبه لهما فطحن لهما ووضع الدقيق على النار حيث خبز قبله الكثيرون كعكهم وذهب ليتناول طعامه. كان ما فعله شيئا جديدا عليهم، كان فعل خير بسيط، لكنه لامس قلوبهم، ارتسمت على وجه السيدتين ملامح العطف الأنثوي، فعجنتا له كعكته واعتنيتا به على النار، وجلس توم إلى الضوء بجوار النار، وأخرج كتابه المقدس لأنه شعر أنه بحاجة إلى التعزية.
قالت إحداهما: «ما هذا؟»
قال توم: «إنه الكتاب المقدس.» «آه! لم أر واحدا منذ كنت في كنتاكي.»
قال توم باهتمام: «هل ترعرعت في كنتاكي؟»
قالت المرأة وهي تتنهد: «أجل، وقد تلقيت تربية جيدة أيضا؛ لم أتوقع أبدا أن أصل إلى هذه الحال!»
قالت المرأة الأخرى: «ما هذا الكتاب على أية حال؟» «إنه الكتاب المقدس.»
قالت المرأة: «يا إلهي! وماذا يعني هذا؟»
قالت المرأة الأخرى: «أحقا؟! ألم تسمعي به من قبل؟ لقد اعتدت أن أسمع سيدتي وهي تقرأ فيه أحيانا في كنتاكي. لكن يا إلهي! إننا لا نسمع هنا شيئا سوى أصوات الضرب والإهانة.»
قالت المرأة الأولى في فضول حيث رأت توم منكبا عليه: «اقرأ لنا شيئا منه على أية حال!»
فقرأ توم: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.»
قالت المرأة: «تلك كلمات جيدة بما يكفي. من قالها؟»
قال توم: «الرب.»
قالت المرأة: «إنما أتمنى فقط لو أنني أعرف أين أجده. كنت أذهب إليه؛ يبدو لي أنني لن أستريح أبدا. إن جسدي مليء بالآلام، وأنا أرتعد طوال اليوم، وسامبو يلهبني بالسوط؛ لأنني لا أجمع المحصول بالسرعة الكافية، وفي الليل لا أتناول طعامي إلا بحلول منتصف الليل، ثم إنني لا أكاد أغفو حتى أستيقظ على صوت النفير، ويتكرر الأمر معي في الصباح مجددا. لو أنني أعرف أين هو الرب لكنت أخبرته.»
قال توم: «إنه هنا؛ إنه في كل مكان.»
قالت المرأة: «يا إلهي! لا تحاول أن تقنعني بذلك! أنا أعرف أن الرب ليس هنا. الكلام لا يجدي. سأستريح فقط وأنام بينما لا يزال بإمكاني النوم.»
ذهبت المرأتان إلى عشتيهما وجلس توم وحيدا بجوار النار المشتعلة التي تومض بوميض أحمر في وجهه.
كان القمر الفضي الباهت في كبد السماء الأرجوانية، وكان يطل على الأرض في هدوء وسكون كما ينظر الرب إلى مشهد البؤس والاضطهاد هذا. أطل القمر في هدوء على الرجل الأسود الوحيد بينما كان جالسا وذراعاه مطويتان وكتابه المقدس على ركبته.
وفي أثناء اليوم التالي، كان توم يعمل بجوار المرأة الخلاسية التي بيعت معه في المجموعة نفسها. كانت وبلا شك في حالة من الكرب الشديد، وسمعها توم بضع مرات وهي تصلي بينما كانت ترتجف وترتعش وبدت وكأنها ستسقط مغشيا عليها. وبينما كان توم يقترب منها في صمت نقل إلى كيسها بضع حفنات من القطن من كيسه.
قالت المرأة وقد بدت مندهشة: «أوه، لا تفعل، لا تفعل! ستتأذى بسبب هذا.»
أكمل توم مهمته في صمت، لكن المرأة التي كانت قد وصلت إلى أقصى مراحل التعب سقطت مغشيا عليها.
وحين استعادت وعيها أتى توم نحوها مرة أخرى ووضع كل ما جمع في كيسها - رغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطرة له بفعل ما سيلاقيه.»
قالت المرأة: «لا ينبغي عليك أن تفعل ذلك! أنت لا تعلم ما سيفعلونه بك!»
قال توم: «يمكنني أن أتحمل ذلك! أكثر منك.» ثم ذهب إلى مكانه مرة أخرى، وقد حدث كل ذلك بسرعة كبيرة.
وجلس توم إلى الضوء بجوار النار.
لكن في تلك الليلة وفي غرفة الوزن، نادى لاجري على توم ليتقدم للأمام.
قال بابتسامة خبيثة: «يا توم، لقد أخبرتك حين اشتريتك أنني سأجعل منك أكثر من مجرد يد عاملة، أليس كذلك؟» «بلى يا سيدي.» «هذا صحيح. فعلت وسأحفظ كلمتي وسأجعل منك جلادا. إن إحدى أولئك السيدات الكسالى الوضيعات شوهدت وهي تتهرب من العمل اليوم وتسمح لشخص آخر بأن يملأ كيسها بالقطن. والآن أخرجها وألهبها بالسوط، أتسمعني؟ ألهبها بالسوط وأنقذ نفسك، وإلا فسأوكل إلى الرجال مهمة إعادتك إلى رشدك.»
وقف توم ثابتا كالصخر ولم يتحرك أدنى حركة تجاه المرأة المرتعشة.
صاح لاجري: «حسنا! انصرف إلى سقيفة الجلد.» لكن توم لم يقدم على أي حركة أيضا، ثم سقطت يد المزارع العنيفة على كتفه، لكن عيني توم لم تظهرا أي خوف في مواجهة عين الرجل المتجهم أمامه.
قال توم: «أستميح سيدي عذرا. أتمنى ألا يحكم علي سيدي بسبب ذلك. أنا لم أعتد فعل ذلك - قط - ولا يمكنني فعل ذلك، بأي طريقة كانت.»
قال لاجري وهو يرفع جلدة بقرة ويهوي بها على وجنة توم: «ستتعلم الكثير من الأشياء التي لم تكن لتعرفها قط من سواي!» ثم أتبع ضربته بوابل من اللكمات.
ثم قال: «هاك! هل ستقول لي إنك لا تستطيع فعلها؟»
قال توم وهو يرفع يده ليمسح الدم السائل على وجهه: «أجل سيدي. سأعمل ليل نهار، سأعمل ما دامت لا تزال بي أنفاس الحياة، لكنني لن أفعل هذا الشيء أبدا - إطلاقا!»
كانت نبرة صوت توم عذبة ومعتدلة بشكل ملحوظ، وكان أسلوبه دالا على الاحترام، وكان ذلك قد أوحى إلى لاجري بفكرة أنه قد يكون جبانا أو سهل الانقياد. لكنه حين تحدث بتلك الكلمات الأخيرة، سرت قشعريرة من الدهشة في جسد الحضور أجمعين؛ فشبكت المرأة المسكينة يدها وقالت: «أوه إلهي!» فنظر الجميع إلى بعضهم وحبسوا أنفاسهم، كما لو كانوا يستعدون للعاصفة التي على وشك أن تنفجر.
بدا لاجري متحيرا ومرتبكا، لكنه أخيرا انفجر قائلا: «ألست أنا سيدك؟ ألم أدفع ألف دولار ومائتين لأحصل على كل ما بداخل رأسك الأسود الملعون؟ ألست ملكي الآن، جسدا وروحا؟ أجبني!»
أطلق هذا السؤال في روح توم بصيصا من الفرح والانتصار بينما كان في أعماق معاناته الجسدية خانعا تحت وطأة هذا الجور والطغيان الوحشي. ثم انتصب توم فجأة ونظر بشجاعة نحو السماء وصاح والدم والدمع يسيلان مختلطين على وجهه: «لا! لا! لا! روحي ليست ملكا لك! أنت لم تشتر روحي - لا يمكنك أن تشتريها! لقد اشتراها ودفع ثمنها من هو قادر على الاحتفاظ بها. لا يمكنك أن تؤذيني بأي طريقة كانت!»
الفصل الرابع عشر
أجاب توم في هدوء: «أجل يا سيدي.»
خرج سايمون لاجري والغضب يتملكه في إثر توم والزنوج الغلاظ الآخرين الذين ساروا على كلا جانبيه نحو سقيفة الجلد. كان قلب المزارع الخبيث الوحشي مفعما بالغضب بينما كان يفكر في كلمات العبد البائس الضعيف.
غمغم لاجري في نفسه: «سأريه إن كنت قادرا على إيذائه أم لا! سأذيقه العذاب!»
كانت السقيفة تقع على مسافة من المنزل، وكانت مضاءة بمصباح وحيد في علبة صفيح علقها سامبو على الحائط، تماما فوق عمود وضع بين حلقتين معدنيتين في أحد جوانب السقيفة. قام كل من كويمبو وسامبو بجر توم نحو العمود وقيداه، فكان وجهه قبالة الحائط ويداه ممدودتين في الحلقتين المعدنيتين. وقف سايمون لاجري يشاهد ما يحدث، ثم ذهب نحو توم وأمسك به من كتفه وقال وهو يتحدث من بين أسنانه: «أتعلم أنني عقدت العزم على أن أقتلك؟»
أجابه توم في هدوء: «أجل يا سيدي.»
فاستطرد لاجري: «لقد فعلتها من قبل. أنت تعتقد أنني لن أفعلها بك؛ تعتقد أنني سأجلدك بعض الوقت ثم أخلي سبيلك. لكنني أحضرتك هنا إما لكي أكسر عزيمتك أو أقتلك. سأصفي دمك قطرة قطرة حتى تستسلم.»
قال توم وقد رفع نظره وأدار رأسه للخلف فنظر في وجه الرجل الأبيض المريع: «سيدي، لو كنت في ورطة أو كنت مريضا وكان بإمكاني إنقاذك، فأنا على استعداد أن أضحي بحياتي من أجلك. وإذا كانت تصفية دمي قطرة قطرة من جسدي العجوز البائس هو ما سينقذ روحك الغالية، فسأقدم دمي عن طيب نفس كما فعل ربي المسيح من أجل روحي. لكن ما ستفعله سيؤذيك أكثر مما سيؤذيني. أنا سأموت، لكن سيتحتم على روحك يا سيدي أن تحمل دوما عبء الجريمة التي ارتكبتها.»
ساد الصمت لحظة، ووقف لاجري مذعورا. ثم راودته الروح الخبيثة مرة أخرى فصاح بصوت أجش مفعم بالغضب: «جهزوا سياطكم أيها الرجال!»
قام أولئك الرجال الغلاظ التابعون لذلك السيد المتوحش بهز سياطهم فوق ظهر توم. «قطعوا لحمه حين آمركم! سأبيع جثتك بخمسين دولارا!» «قبلت بذلك! هل آخذك على كلمتك؟ هذا الرجل ملكي!»
جاء صوت صبياني رنان يغطي على صوت التمتمات حيث اندفع شاب إلى داخل المكان من دون سابق إنذار، ودفع بنفسه بين توم والسياط التي هوت أمام ناظريه.
تراجع المزارع وقد تملكته الدهشة وتقهقر الزنوج نحو الحائط، أما توم فقد استدار برأسه ونظر بعينيه المتعبتين الذاهلتين في وجه الغريب، فانفجرت شفتاه في صرخة مدوية مبتهجة: «سيدي جورج! سيدي جورج الشاب! الحمد للرب!»
لف جورج شيلبي ذراعيه حول جسد العبد العاري وقال وقد خنقته عبرة: «العم توم، العم توم العزيز، كنت أبحث عنك في كل مكان، لكنني وصلت في الوقت المناسب لأنقذك في النهاية! لكن هناك مسألة علي أن أسويها مع ذلك الشيطان قبل أن نذهب للمنزل.»
ومد يديه المرتعشتين ليفك الحبال عن توم، وكان وجهه أبيض حين التفت لينظر إلى لاجري. لكن المكان أصبح خاويا ولم يعد هناك سواه وتوم الذي كان يبكي في تلك اللحظة ويتضرع عند قدميه؛ ذلك أن المزارع كان جبانا رعديدا - شأنه في ذلك شأن جميع الطغاة - يخشى القانون الذي سينزل به عقابا في النهاية. بدا للسيد لاجري أن وصول الشاب الأبيض في نفس اللحظة التي قرر فيها قتل توم إنما هو من ترتيب إلهي، رغم أن الشاب في واقع الأمر كان يحاول مدة شهرين - منذ وفاة والده - العثور على خادمهم العجوز وصديقهم المخلص، وإعادته إلى مزارع ولاية كنتاكي. وكان وصوله - على قدر ما كان مواتيا - هو النتيجة الطبيعية للرحلة التي قام بها في أعالي النهر الأحمر الكدرة مياهه على متن باخرة صغيرة مبتذلة كانت قد توقفت بالقرب من مزرعة لاجري من أجل التزود بالفحم، بالإضافة إلى المعلومات التي جمعها قبل التوجه شمالا من نيو أورليانز، والتي تقول بأن رجلا يحمل اسم لاجري كان قد ابتاع أحد عبيد سانت كلير، الذي يدعى تو، ثم الكثير من الوقائع هنا، لكن من ذا الذي يمكنه أن يقول إن رب العالمين لم يكن يرشد ذلك المنقذ نحو سقيفة الجلد تلك؟ «سيدي جورج! سيدي جورج الشاب! الحمد للرب!»
حين أفاق توم من صدمة إنقاذه، شبك جورج ذارعه في ذراعه وخرجا من السقيفة وسارا معا نحو المنزل. نظر إليهم لاجري - الذي كان قد استجمع بعض شجاعته الآن - في عبوس واستهزاء وقال: «أعتقد أنك أتيت من أجل شراء ذلك الوغد الأسود. حسنا، أقول لك إنني لن أبيعك إياه.»
ثم راح يتبختر حول الشاب وكأنه يهدده، لكنه لم يكن يعلم شجاعة قلب وهدوء عقل الشاب الذي يتعامل معه.
أجاب جورج وهو ينظر في عيني المزارع الصغيرتين الوقحتين حتى زاغت عينا الأخير حرجا: «لكنك ستفعل! ستبيع توم وستسمح له أن يغادر معي هذا المكان في الحال، وإلا فستمثل أمام المحكمة في قضايا أكبر من تلك التي شهدتها قبل لحظات. هناك رجال بيض مستعدون ليشهدوا بالكثير مما يحدث هنا، وبما أنني رجل نبيل من ولاية كنتاكي، فسأقدمك بنفسي للعدالة! هيا، قم بإعداد الأوراق. سأدفع لك ما دفعته في توم.»
أخرج جورج الأموال وعدها.
نظر توم إلى الشاب ودموع الفخر والفرحة تترقرق في عينيه. في تلك الساعة كان الصبي قد أصبح شابا قويا قادرا على الدفاع عنه وحمايته. نظر إليه لاجري للحظة من خلال عينيه الضيقتين، لكن وجه الشاب كان ينم عن الصرامة والثبات، ثم انكب في النهاية على الطاولة وقد أطلق ضحكة هي أكثر بشاعة من كونها تأوها، وأخرج أدوات الكتابة وأعد وثيقة البيع.
أخرج جورج الأموال وعدها في شيء من نشوة إنجاز الأعمال، ودفعها إلى مراقب العبيد ثم استدار، بينما وضع الأوراق في جيبه - ومن دون أن ينطق بكلمة إلى لاجري - ومد يده إلى الرجل الأسود الواقف صامتا كالتمثال عند الباب وقال: «هيا أيها العم توم، إن منزلك وأصدقاءك القدامى ينتظرونك. العمة كلوي والأطفال يتلهفون إلى عودتك. سأحررك بمجرد أن تدخل من باب كوخك. أنصت! ذاك هو صوت صفير الباخرة عند رصيف المرفأ. هيا أيها العم توم، ينبغي علينا أن نعود إلى المنزل.»
غادر الرجلان المكان مغا، وجلس المزارع عند الطاولة حيث وقع أوراق البيع ودفن وجهه بين كفيه. لا يمكن لأحد سوى الرب المطلع على القلوب أن يعرف ما كان يفكر فيه، لكن العبيد كانوا قد تسللوا عبر الباب على أطراف أصابعهم ووقفوا خارج المنزل في مجموعات وهمسوا إلى بعضهم قائلين: «بالتأكيد نال سيدنا ما يستحقه هذه المرة .»
كانت العمة كلوي قد ارتدت أفضل فستان قطني لديها، وزينت رأسها بعمامة لونها أحمر براق. أما الأطفال فكانوا يتألقون في ملابس بيضاء نظيفة كانت السيدة شيلبي قد بعثت بها إليهم من المنزل الكبير على شرف من يترقبون وصولهما. كان المكان كله نظيفا تماما، وكان كل من موس وبيت - اللذين أصبحا صبيين يافعين الآن - يقفان خارج الكوخ ويعزفان على آلة البانجو، وبعد أن قلدا كل أصوات الطيور المألوفة لهما، شرعا في غناء لحن خاص بهما يقول:
هناك عصفور قرقف يغني بين الأغصان،
صه عصفور المواء.
هناك عصفور قرقف صغير يخبرني،
أن والدي سيصبح من الأحرار.
أوه، أوليس هذا خبرا سعيدا؟!
وقفت العمة كلوي عند الباب وقالت: «ألم تسمعا حوافر الجياد على الطريق حتى الآن؟ ينبغي أن يكون والدكما والسيد جورج على وشك الوصول.» «لا، لم نسمع شيئا. يا أمي!» «نعم يا عزيزي.»
نظر بيت في وجه أمه في قلق، وارتجفت شفتاه قبل أن ينطق بما يريد: «أمي، ماذا لو أن السيد جورج لم يستطع أن يجد أبي في أي مكان؟»
هوت صفعة على خده، فكانت بمثابة عقاب له على قلة إيمانه. «اصمت ولا تقل هذا عن سيدك جورج!» «اصمت ولا تقل هذا عن سيدك جورج. سوف يجده. سأذهب الآن كي أطهو الدجاج على النار. ما هذا الصوت الذي سمعت؟» «لا شيء يا أمي. لا يوجد أي صوت بعد.»
لكن قلب العمة كلوي كان يسبق آذانها في الإنصات، ثم ازداد جمال وجهها الأسود بفعل مشاعر الحب والعرفان، وقالت بنبرة منكسرة: «غنيا أيها الصبيان! أسمعاني أفضل ما لديكما من ألحان. إنني أسمع صوت عجلات العربة على الطريق هناك. لقد أوشك والدكما على العودة إلى المنزل.»
أمسك الصبيان بآلتي البانجو وغنيا ورقصا وكأنهما طائران يخفقان بأجنحتهما الخيالية، ونزلت السيدة شيلبي عن درج المنزل الكبير وسارت نحو الكوخ. وجدت السيدة شيلبي الأولاد في حالة من البهجة، ورأت على وجه الزوجة المنتظرة المخلصة أمارات الترقب والأمل.
فقالت بنبرة لطيفة للغاية: «أيتها العمة كلوي، لا ترفعي سقف آمالك عاليا. ربما لم يتمكن جورج من العثور على توم في النهاية. أنت تعرفين أننا لم تصلنا أي أخبار.» «سيدتي، توقفوا جميعا عن الشك. أنا متيقنة. أنصتي!»
رفعت المرأة السوداء يديها نحو السماء وقالت: «سيدتي، توقفوا جميعا عن الشك. أنا متيقنة. أنصتي!»
جاء صوت صبياني جميل من بعيد، كان خافتا في البداية لكنه ظل يقترب، وكان الكلام يصل إليهم متقطعا، وتساقطت الدموع على الأوجه البيضاء والسوداء على حد سواء، بينما سمعوا وهم ينتظرون:
ما أجمل العودة إلى الوطن! ما أجمل العودة إلى الوطن!
فليحفظه الرب دوما، فليس هناك ما هو أجمل من الوطن.
كان الصوت يزداد قربا ووضوحا وقوة، فاختلطت البسمات بالدموع، وفي غضون لحظات كانت العربة تندفع عبر الباحة، فتوقفت عند باب كوخ العم توم وعلى متنها راكبان سعيدان.
الفصل الخامس عشر
أزهرت الورود ونباتات البيجونيا خمس مرات عند كوخ العم توم المجاور لمنزل عائلة شيلبي الكبير. وقد أحدث مرور السنوات تغييرات غريبة على مناطق الجنوب الجميلة، فقد سحقت الحقول الجميلة تحت أقدام الجيوش، ونشبت معارك الحرب الأهلية الفظيعة على الأراضي الهادئة المفعمة بالحياة والتابعة للمزارعين الجنوبيين. كان جورج شيلبي قد وفى بوعده وحرر جميع العبيد الموجودين في ممتلكاته حين عاد إلى منزله مع توم. ذهب بعض أولئك العبيد إلى ولايات أخرى، لكن مكث معظمهم معه على أساس أنهم عمال مستأجرون يعملون في المكان، وكانوا في مكانهم بمثابة حراس لشرف «السيد الشاب» وأمه أثناء فترة أهوال التمرد والثورة. والآن خبت نار المعارك ودبت الحياة مرة أخرى في المنزل القديم. كان توم قد أصبح مدير المزرعة، وقد استطاع - بحكمته وحصافته - أن يعوض الخسائر التي تكبدتها العائلة خلال سنوات الحرب الأربع. وفي حين أن المزارع المجاورة له أصبحت خربة ومهجورة، كانت أراضي عائلة شيلبي منتجة كما كانت دائما، وتم استكمال أعمال الزراعة والحصاد من دون انقطاع، بغض النظر عن الظروف التي تمر بها البلاد.
ووقف جورج يهز سوطه.
جلست السيدة شيلبي في الشرفة الخارجية - وقد تغيرت بعض الشيء بفعل مرور السنوات ، لكنها كانت لا تزال جميلة ولطيفة - ممسكة بمجلة وتتحدث إلى جورج الذي نزل عن جواده لتوه، ووقف أمامها يهز سوطه ويضحك من تصرفات مجموعة من الأطفال السود وهم يلهون على العشب. كان جورج قد كبر فأصبح رجلا وسيما ووجهه يوحي بالقوة والعطف.
قالت السيدة شيلبي: «إنني أتطلع ببالغ السرور إلى زيارة السيدة أوفيليا لنا. لقد ازدادت صلتي بها ومعرفتي لها كثيرا من خلال الخطابات التي تبادلناها حول توم. لقد طلبت منها أن تزورنا مدة شهر وقد وافقت. وأتوقع أنها ستحضر معها وصيفتها، تلك الفتاة الصغيرة المرحة التي تحمل اسم توبسي والتي سمعنا عنها كثيرا.» «لقد عادت إلى مكان ما في الشمال بعد وفاة السيد سانت كلير، أليس كذلك؟» «بلى، لقد عادت إلى فيرمونت. أعتقد أن السيدة سانت كلير كانت امرأة تعيسة الحظ بدرجة كبيرة؛ فقد كانت مريضة ولا تستطيع أن تتعاطف مع الآخرين.»
رفع جورج بصره وابتسم ابتسامة حنونة وقال: «ليباركك الرب يا أمي. إن أي شخص آخر كان يصف السيدة سانت كلير بكلمات أقسى من مجرد «سيئة الحظ». لكن متى ستأتي السيدة أوفيليا؟» «إلايزا، عزيزتي إلايزا.» «لست متأكدة تماما. لقد أخبرتها أنها ليست في حاجة لأن تخبرنا بموعد قدومها؛ لأننا لا نتحرك من المنزل، كما أن مفاجأة حضورها ستكون سارة للغاية. إن توم يعرف كل قطار يأتي من الشمال، وأثق أنه سيكون مسرورا ليكون أول من يستقبلها. لقد كانت طيبة وعطوفة معه فيما مضى لأجل تلك الطفلة الجميلة التي أحبها كلاهما، إيفا الصغيرة.»
كرر جورج كلمتها الأخيرة بنبرة رقيقة: «إيفا الصغيرة.» «هل رأيت خصلة الشعر الذهبية التي أعطتها لتوم حين كانت في فراش الموت؟ إنها شيء مقدس لدى توم، لا بد وأن تلك الطفلة الصغيرة كانت ملاكا يمشي على الأرض في عيون أولئك العبيد المساكين. هناك عربة تدخل إلى الباحة يا أمي. ترى من يكون القادم فيها؟»
نهضت السيدة شيلبي وسارت حتى حافة الشرفة وقالت: «لا بد وأنها السيدة أوفيليا. أترى البهجة والسعادة على وجه توم؟»
كان توم يقود العربة في شيء من زهو استثنائي ونادر بالنسبة إليه، وكان وجهه مكللا بالابتسامة.
قال جورج: «ماذا؟ لا يا أمي. تلك ليست السيدة سانت كلير. هناك ثلاثة أشخاص في العربة - سيدة ورجل وفتى.»
أوقف توم العربة في تباه، فاندفعت المرأة خارج العربة وهرعت على الدرج واحتضنت السيدة شيلبي بين ذراعيها وقالت وقد اختلط بكاؤها وضحكها: «أوه، سيدتي. سيدتي العزيزة.» فصاحت السيدة شيلبي بنبرة في غاية الابتهاج: «إلايزا، عزيزتي إلايزا.»
كان جورج شيلبي قد نزل من الشرفة ليستقبل جورج هاريس ولكي يحيي هاري ذا العينين البنيتين الذي كان طفلا فيما مضى، ثم استدارت السيدة شيلبي عن إلايزا لكي ترحب بهما أحر ترحيب أيضا.
قالت السيدة شيلبي: «ستحصلين على حجرتك القديمة يا فتاتي العزيزة، وسيكون لهاري الحجرة الملاصقة لها. هل يعلم بأمر تلك الليلة التي هربت فيها وهو على ذراعك قبل زمن مضى؟»
رفع الفتى نظره وقد ظهرت على وجهه آثار الانفعال وقال: «أعرف يا سيدة شيلبي، وأحاول أن أكون جديرا بأمي الشجاعة.»
صعد توم الدرج وتحدث مع هاريس وابنه، بينما اصطحبت السيدة شيلبي إلايزا إلى غرفتها.
وفي أثناء الدقائق القليلة التي قضتها الزائرة في تعديل شعرها وتجديد زينتها، استمعت المرأة التي كانت صديقتها وسيدتها إلى جميع تفاصيل هروبها وفرارها الأخير إلى كندا.
كان جورج قد شغل منصبا مهما ومرموقا في شركة للخدمات المصرفية وتخرج هاري لتوه من مدرسة في مدينة إمرستبيرج مع مرتبة الشرف، وينتظره مستقبل باهر في مهنة تجارية ناجحة.
قالت إلايزا وقد استخدمت أسلوب الخطاب القديم لأجل المحبة التي تكنها للسيدة شيلبي: «لكن قلبي كان يهفو لرؤية وجهك العزيز يا سيدتي، وقد قررنا المجيء بمجرد أن علمنا أن بإمكاننا أن نأتي بأمان، وأن الحرب قد حررت العبيد، وأن الحرية التي دفعنا ثمنها غاليا لا يمكن أن تسلب منا.»
وفي الشرفة في الخارج، كان جورج شيلبي يستمع بإنصات إلى القصة التي يرويها هاريس عن قتاله صائدي العبيد على الصخور، وعن المساعدة التي قدمها لهم عدوهم الجريح.
قال هاريس: «بناء على نصيحة توم لوكر - بعد أن اضطررت إلى إطلاق النار عليه وبعد أن أسعفه فينياس فليتشر الرائع وأخت رقيقة من جمعية «الكويكرز» - تنكرت إلايزا في زي رجل، وجعلت هاري يبدو وكأنه فتاة صغيرة. كان الضابط قد تلقى تحذيرا عن هروبنا، وتم تعليق إعلان بذلك على كل عمود وشجرة وتم عرض مكافأة لمن يلقي القبض علينا. كانت مكافأة القبض علي حيا أو ميتا هي خمسمائة دولار. كان الرجل الذي وسم يدي بقطعة حديد ساخنة يريد أن يحرص على ألا أحصل على حريتي أبدا. لكن تنكرنا أنقذنا؛ وقد شعرت بارتياح كبير بالوقوف إلى جوار ماركس وسماعه يقول: «لقد راقبت كل من صعد على السفينة وأنا واثق تماما أنهم ليسوا على متنه. إن المرأة تبدو وكأنها امرأة بيضاء والرجل خلاسي البشرة وموسوم بحرف
H
على يده اليمنى.»
كنت آخذ تذاكري من الموظف في تلك اللحظة ذاتها باليد نفسها التي يتحدث عنها. لكن يدي لم ترتعش، ثم التفت في هدوء، وسرت مبتعدا عنه في طريقي إلى الحجرة حيث إلايزا والصبي. دق الجرس ونزل ماركس وقطيع المحققين معه من السفينة على السلم الخشبي ثم إلى الرصيف. رأيناهم من الحجرة السفلية، لكننا لم نبد أي إشارة على شعورنا الكبير بالارتياح. مرت الساعات وصعدنا إلى سطح السفينة لننظر إلى سواحل كندا المجيدة. ظلت السفينة السريعة تمخر عباب البحر، ووضعت إلايزا يدها على ذراعي فشعرت بها ترتجف بينما كنا نقترب بالسفينة من مدينة إمرستبيرج بكندا، وتشوش تفكيري حينها. رست السفينة ونزلنا عنها إلى الرصيف وكنت أحمل هاري على ذراعي. خشيت أن تقع إلايزا مغشيا عليها بينما كنا ننزل عن ذلك السلم الخشبي من السفينة. كان الأمر أشبه بالسير على الصراط الذي يؤدي إلى الفردوس. لكنها كانت شجاعة حتى اللحظة الأخيرة، وفي غضون لحظات كنا نقف ودموع الامتنان تنهمر من أعيننا، كنا واقفين تحت سماء الرب الحرة، والحياة أمامنا تفتح لنا ذراعيها. وقفنا في مكاننا صامتين لبعض الوقت حتى تحركت السفينة مرة أخرى. ثم وحين غابت عنا عيون الباحثين، ركعنا على الرمال وأذرعنا تلف الصغير وشكرنا الرب.»
كان هاريس يروي القصة أثناء انقطاعات كثيرة قام بها توم، فكان يقول بين الحين والآخر: «الحمد للرب!» «فضل من الرب!» والكثير من التعبيرات التي تعبر عن إيمانه وورعه. وكانت عيون جورج شيلبي تنهمر بالدموع وهو ينصت، لكن حين طلب هاريس أن يستمع إلى قصة عودة توم، لم يستطع أي منهما الحديث. لكن توم وضع يده السوداء في حنو تام على كتف سيده الشاب وقال: «سنخبرك أنا والسيد جورج بتلك القصة في وقت لاحق.»
جاءت كلوي متلهفة من ناحية الشرفة بينما كانت ترتدي عمامة جديدة ومنديلا رائعا تلفه حول فستانها القطني النظيف، وهرعت إلايزا إلى أحضانها ونطق الجميع بكلمات الشكر ومباركة هذا اللقاء. أبدت كلوي إعجابها بهاري، بينما أشادت بحسن مظهر كل من إلايزا وجورج، وفي النهاية طلبت منهم الذهاب إلى الكوخ ليتذوقوا الأطعمة التي اشتهرت بصنعها على العشاء.
قالت العمة كلوي: «كنت قد فرغت من سلخ الدجاجة من ريشها في اللحظة التي رأيت فيها توم وهو يقود العربة إلى الباحة، والطعام على وشك أن يجهز. سأطعم هاري الصغير الكعك المحلى الذي اعتاد سيده جورج أن يتناوله. يا إلهي! كان ذلك الصغير يراني وأنا أعد الكعك وكان يطل برأسه الصغير ويقول: «إنني أتباهى بك أمام توم لينكولن، أيتها العمة كلوي. إن طباخه لا يقارن بك.» أتذكر ذلك سيدي جورج؟» «أتذكر أيتها العمة كلوي، وما زلت أتباهى بك حتى الآن. سأمر عليكم بعد تناول الطعام. اطلب من الأولاد يا توم أن يأتوا بآلات البانجو الخاصة بهم، واجعلهم يغنون ويرقصون. ينبغي أن نحتفل على شرف إلايزا.» «كنت قد فرغت من سلخ الدجاجة.»
توجه الجميع نحو الكوخ، وكانت العمة كلوي لا تزال تضحك من المديح الذي تلقته، فكانت جوانبها السمينة تهتز من شدة ضحكها، وكان هاري ينظر إلى تفاصيل مشاهد من طفولته التي كانت مألوفة له فيما مضى، أما جورج شيلبي فكان قد صعد درج المنزل قبل أن يستدير فجأة ويصيح: «توم، من الأفضل أن تذهب في موعد قطار المساء. قد تصل السيدة أوفيليا وتوبسي إلى هنا، وينضمان إلينا هذا المساء.»
دخل جورج عبر الباب فوجد والدته جالسة تبتسم في الظلمة، فأحنى رأسه اليافع الأبي وقبلها دون أن ينطق بكلمة.
بعد تناول الطعام أقبل موس بعدد من أوراق الزينة الملونة في يديه وقد أشرق وجهه الأسود مبتسما. «أظن أن سيدتي ستحب أن أعلق هذه هنا في الرواق؛ حيث إننا سينضم إلينا مزيد من الصحبة.»
قالت السيدة شيلبي: «هذه فكرة رائعة يا موس. أعتقد أن السيدة أوفيليا ستسر بذلك.»
قال موس مبتسما: «أجل، وأتوقع أن السيدة توبسي ستسر بذلك أيضا.»
ضحكت السيدة شيلبي وقالت: «آه، فهمت. إن توبسي هي المنشودة إذن.» «أجل، وقد أعددت لها أغنية أيضا.»
شدت المرأتان كلتاهما على يدي الأخرى في صداقة دامت طوال حياتهما.
وعلق الفوانيس الصينية في خط مقوس بين كل عمود وآخر، كما علق بعضها في الأشجار، ثم أضاءها فاكتسى المكان كله بمظاهر الاحتفال.
قالت السيدة شيلبي: «أتمنى ألا يخيب أملنا الآن يا موس. لماذا أنت واثق هكذا من أنهم سيصلون هذا المساء؟»
رفع موس نظره إليها في ثقة.
وأجابها: «شعرت أمي بهم قادمين في قرارة نفسها.» ثم استمر في تعليق المزيد من المصابيح، ولم يتوقف حتى سمع الجميع صوت عجلات العربة تسير على الطريق الطيني الأحمر، ودخلت العربة من البوابة الكبيرة. وقفت السيدة شيلبي في بصيص من الضوء يأتي من الباب المفتوح خلفها، ثم تقدمت لتحيي ضيوفها، وظنت المرأة العانس الطويلة القامة التي أتت من نيو إنجلاند أنها لم تفرح في حياتها بلقاء أحد مثل فرحتها بلقاء السيدة التي تتحدر من الجنوب. شدت المرأتان كلتاهما على يدي الأخرى في صداقة دامت طوال حياتهما، ثم جاء جورج ورحب بضيوفه ترحيبا حارا، بينما تقدم توم نحو السيدة شيلبي ليقول لها: «هذه هي توبسي يا سيدتي. كدت ألا أعرفها؛ فقد كبرت وازدادت جمالا وطولا كزهرة الخطمية، لكنها هي نفسها الفتاة الصغيرة التي أحبتها سيدتي إيفا قبل أن تنتقل إلى الأمجاد.»
حيت السيدة شيلبي الفتاة السوداء بطريقة رقيقة ولطيفة، ثم أخبرت توم أن يصحبها إلى الكوخ ليقدمها إلى كلوي. خرج موس من ظل الشرفة بينما مروا أمامه، ودخل ثلاثتهم إلى الكوخ معا.
سمعت السيدة أوفيليا قصة عودة إلايزا وأسرتها السعيدة، وقصة هروبها من المزرعة القديمة، وبعد أن انتهى العشاء الذي كان يحمل طابعا رسميا إلى حد ما، ذهبوا جميعا إلى الكوخ حيث نبهتهم أنغام الموسيقى إلى أن الاحتفال قد بدأ. كانت العمة كلوي تشعر بالإحراج نفسه، حيال توفير المقاعد لضيوفها، الذي كانت قد شعرت به أثناء اجتماع أداء الصلاة في تلك الليلة التي كان جورج هو من يتلو الكتاب المقدس فيها، والتي سار بعدها إلى المنزل وقلبه الصغير يمتلئ بمشاعر الحب تجاه أصدقائه المتواضعين، الليلة التي سبقت اليوم الذي بيع فيه توم. جالت بخاطر جورج ذكرى ما حدث بينما كان يجلس على صندوق صغير بجوار الباب، ونظر فوجد صديقه العجوز ينظر إليه وقد عجز لسانه عن الكلام.
سحبت العمة كلوي كرسيا هزازا وكرسيا ذا ذراعين لسيدتها والسيدة فيلي، واحتل موس المسرح بانحنائه أمام مشاهديه، وبدأ يغني بصحبة ألحان آلة البانجو، وكان يطقطق بكعب حذائه على الأرض وتصطك ركبتاه ويرقص بقدميه على أنغامها. كان أداؤه كله مكرسا لأجل توبسي التي جلست في مكان متقدم في الغرفة كان مخصصا للرقص.
راح موس يسير للأمام والخلف أمامها ويغني، بينما كان يرمقها بالكثير من النظرات:
كانت هناك فتاة صغيرة مميزة تعيش في الجنوب،
تستحي الزهور من جمالها ولا تتفتح في حضورها،
خطفوها في النهر وساروا بها على الجليد والثلج،
حزنت زنبقات لفراقها وتوقفت عن الازدهار.
توبسي تتقافز وتدور، وأقدامها تساير ألحان الأغنية.
استيقظت في وجه توبسي روح الشقاوة التي كانت أقوى صفاتها المميزة، وفي لحظة كانت تقف أمام الجميع وتشارك في الرقصة المرحة بكل حماسة الماضي.
صاحت السيدة أوفيليا وهي مصدومة فقالت: «توبسي!» ثم التفتت نحو السيدة شيلبي لتقول لها: «يا إلهي! إنها لم تتصرف بهذه الطريقة منذ سنوات.»
نظرت السيدة شيلبي إلى الفتاة بعينين مستمتعتين، وكانت الفتاة تتقافز وتدور وقد برقت عيناها وأسنانها، أما أقدامها فكانت تساير الألحان التي تغنيها.
فقالت السيدة شيلبي وهي تضحك: «إنها على سجيتها الآن، وهذه هي توبسي التي كنت آمل أن أراها. اتركيها ترقص.»
أديت كل الأغاني والرقصات في تلك المزرعة بروح احتفالات الزنوج ذات الطبيعة الطيبة والسجية البسيطة، وكانت الساعة متأخرة من الليل حين نهضت السيدات كي يغادرن.
خرجت السيدات في جنح الليل، كانت المصابيح قد انطفأت، لكن القمر كان يشع ضوءا فضيا ويتألق بوهج كامل في السماء، وحين نظرن خلفهن من الشرفة، رأين ضوء القمر يسقط على رأس توم ذي الشعر الرمادي، فكان وكأن هناك هالة من البركة حوله، وكان توم يلوح لهم أن «طاب مساؤكم» بينما يقف في مدخل منزله المزين بالزهور. (النهاية)
Halaman tidak diketahui