Knowledge by Uthaymeen
العلم للعثيمين
Penyiasat
صلاح الدين محمود
Penerbit
مكتبة نور الهدى
Genre-genre
الباب الأول: في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه
الفصل الأول: تعريف العلم
لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا.
اصطلاحًا: فقد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف.
والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به: علم ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى، فالعلم الذي فيه الثناء والمدح هو علم الوحي، علم ما أنزل الله فقط.
وقال النبي ﷺ: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين" ١.
وقال النبي ﷺ: "إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" ٢.
ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم شريعة الله ﷿ وليس غيره، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما ورثوا للناس علم الصناعات وما يتعلق بها، بل إن الرسول ﷺ حين قدم المدينة وجد الناس يؤبرون النخل أي يلقحونها قال لهم لما رأى من تعبهم كلامًا يعني أنه لا حاجة إلى هذا ففعلوا، وتركوا التلقيح، ولكن النخل فسد، ثم قال لهم النبي ﷺ: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" ٣.
ولو كان هذا هو العلم الذي عليه الثناء لكان الرسول ﷺ أعلم الناس به؛ لأن أكثر من يُثنى عليه بالعلم والعمل هو النبي ﷺ.
إذن فالعلم الشرعي هو الذي يكون فيه الثناء ويكون الحمد لفاعله، ولكني مع
_________
١ متفق عليه رواه البخاري ٧١، ٣١١٦، ٧٣١٢. ومسلم ١٠٣٧.
٢ رواه الترمذي ٦٢٨٢. وأبو داود ٣٦٤١. وابن ماجة ٢٢٣. وصححه الألباني في صحيح الجامع ٦٢٩٧.
٣ صحيح رواه مسلم ٢٦٣. وأحمد ٣/١٥٢.
1 / 9
ذلك لا أنكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين: إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وانتفع بها عباد الله، فيكون ذلك خيرًا ومصلحة، وقد يكون تعلمها واجبا في بعض الأحيان إذا كان ذلك داخلا في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال:٦٠] .
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية؛ وذلك لأن الناس لا بد لهم من أن يطبخوا بها، ويشربوا بها، وغير ذلك من الأمور التي ينتفعون بها، فإذا لم يوجد من يقوم بهذه المصانع صار تعلمها فرض كفاية. وذا محل جدل بين أهل العلم الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه.
1 / 10
الفصل الثاني: فضائل العلم
لقد مدح الله ﷾ العلم وأهله، وحثَّ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلّ العبادات، عبادات التطوع؛ لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله، فإن دين الله ﷿ إنما قام بأمرين:
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان.
فلا بد من هذين الأمرين، ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعًا، والأول منهما مقدّم على الثاني، ولهذا كان النبي ﷺ لا يُغِير على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله ﷿ فيكون العلم قد سبق القتال قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٩] .
فالاستفهام هنا لا بد فيه من مقابل "أمَّن هو قائم قانت آناء الليل والنهار" أي كمن ليس كذلك، والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به، فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجدًا أو قائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو ومن هو مستكبر عن طاعة الله؟.
الجواب: لا يستوي؛ فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة هل فِعلُه ذلك عن علم أو عن جهل؟
الجواب: عن علم، ولذلك قال: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: ٩] . لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور، العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ
1 / 11
وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] .
ولهذا نجد أن أهل العلم محل الثناء، كلما ذُكروا أُثنِيَ عليهم، وهذا رَفْع لهم في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا.
إن العابد حقًّا هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق، وهذه سبيل النبي ﷺ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨] .
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهرا؟ أيهما أبلغ في تحقيق العبادة؟ رجل يتطهر؛ لأنه علم أن الله أمر بالطهارة، وأنها هي طهارة النبي ﷺ فيتطهر امتثالا لأمر الله واتباعًا لسنة رسول الله ﷺ؟ أم رجل آخر يتطهر؛ لأن هذا هو المعتاد عنده؟
فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحدًا، لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله ﷿ ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول ﷺ.
وأقف عند هذه النقطة وأسأل هل نستشعر عند الوضوء بأننا نمتثل لأمر الله ﷾ في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦] .
هل الإنسان عند وضوئه يستحضر هذه الآية وأنه يتوضأ امتثالا لأمر الله؟.
هل يستشعر أن هذا وضوء رسول الله ﷺ وأنه يتوضأ اتباعًا لرسول الله ﷺ؟
الجواب: نعم، الحقيقة أن منا من يستحضر ذلك، ولهذا يجب عند فعل العبادات أن نكون ممتثلين لأمر الله بها حتى يتحقق لنا بذلك الإخلاص وأن نكون متبعين لرسول الله ﷺ. نحن نعلم أن من شروط الوضوء النية، لكن النية
1 / 12
قد يراد بها نية العمل، وهذا نتنبه لهذا الأمر العظيم، وهي أن نستحضر ونحن نقوم بالعبادة أن نمتثل أمر الله بها لتحقيق الإخلاص، وأن نستحضر أن الرسول ﷺ فعلها ونحن له متبعون فيها لتحقيق المتابعة؛ لأن من شروط صحة العمل: الإخلاص. والمتابعة.
اللذين بهما تتحقق شهادة أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
نعود إلى ما ذكرنا أولا من فضائل العلم، إذ بالعلم يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فيتعلق قلبه بالعبادة ويتنور قلبه بها، ويكون فاعلا لها على أنها عبادة لا على أنها عادة، ولهذا إذا صلى الإنسان على هذا النحو فإنه مضمون له ما أخبر الله به من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ومن أهم فضائل العلم ما يلي:
١- أنه إرث الأنبياء: فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثوا العلم، فمَنْ أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر من إرث الأنبياء، فأنت الآن في القرن الخامس عشر إذا كنت من أهل العلم ترث محمدًا ﷺ وهذا من أكثر الفضائل.
٢- أنه يبقى والمال يفنى: فهذا أبو هريرة ﵁ من فقراء الصحابة حتى إنه يسقط من الجوع كالمغمى عليه وأسألكم بالله هل يجري لأبي هريرة ذكر بين الناس في عصرنا أم لا؟.
نعم يجري كثيرا فيكون لأبي هريرة أجر من انتفع بأحاديثه؛ إذ العلم يبقى والمال يفنى، فعليك يا طالب العلم أن تستمسك بالعلم فقد ثبت في الحديث أن النبي ﷺ قال: "إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" ١.
_________
١ صحيح: رواه مسلم ١٣٦١. والبخاري في الأدب المفرد ٣٨. وأبو داود ٢٨٨٠. والنسائي ٦/٢٥١. والترمذي ١٣٧٦.
1 / 13
٣- أنه لا يُتعب صاحبه في الحراسة؛ لأنه إذا رزقك الله علمًا فمحله في القلب لا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح أو غيرها، هو في القلب محروس، وفي النفس محروس، وفي الوقت نفسه هو حارس لك؛ لأنه يحميك من الخطر بإذن الله ﷿ فالعلم يحرسك، ولكن المال أنت تحرسه تجعله في صناديق وراء الأغلاق، ومع ذلك تكون غير مطمئن عليه.
٤- أن الإنسان يتوصل به إلى أن يكون من الشهداء على الحق، والدليل قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] .
فهل قال: أولو المال؟
لا، بل قال: ﴿وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ فيكفيك فخرًا يا طالب العلم أن تكون ممن شهد الله أنه لا إله إلا هو مع الملائكة الذين يشهدون بوحدانية الله ﷿.
٥- أن أهل العلم هو أحد صنفي ولاة الأمر: الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: ٥٩] .
فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام، والعلماء وطلبة العلم؛ فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله ودعوة الناس إليها وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله وإلزام الناس بها.
٦- أن أهل العلم هو القائمون على أمر الله تعالى حتى تقوم الساعة، ويستدل لذلك بحديث معاوية ﵁ يقول: سمعت النبي ﷺ يقول: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " ١ رواه البخاري.
_________
١ متفق عليه: رواه البخاري ٧١، ٣١١٦، ٧٣١٢. ومسلم ١٠٣٧.
1 / 14
وقد قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم.
وقال القاضي عياض ﵀: أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب الحديث.
٧- أن الرسول ﵊ لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شيء من النعم التي أنعم الله بها إلا على نعمتين هما:
* طلب العلم والعمل به.
* التاجر الذي جعل ماله خدمة للإسلام.
فعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويُعلّمها" ١.
٨- ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري ﵁ عن النبي ﷺ قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به" ٢.
٩- أنه طريق الجنة: كما دل على ذلك حديث أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا
_________
١ متفق عليه: رواه البخاري ٧٣، ١٤٠٩، ٧١٤١، ٧٣١٦. ومسلم ٨١٦.
٢ متفق عليه: رواه البخاري ٧٩. ومسلم ٢٢٨٢.
1 / 15
إلى الجنة" ١. رواه مسلم.
١٠- ما جاء في حديث معاوية ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "من يرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين" ٢.
أي: يجعله فقيهًا في دين الله ﷿، والفقه في الدين ليس المقصود به فقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفقه فقط، ولكن المقصود به هو: علم التوحيد، وأصول الدين، وما يتعلق بشريعة الله ﷿. ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملا في الحثّ على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
١١- أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
١٢- أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفى على كثير منّا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل "قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عابد فسأله هل له من توبة؟ فكأن العابد استعظم الأمر فقال: لا. فقتله فأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دلَّه على بلد أهله صالحون ليخرج إليها، فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق". والقصة مشهورة٣. فانظر الفرق بين العالم والجاهل.
١٣- أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله
_________
١ صحيح: رواه مسلم ٢٦٩٩. والترمذي ٢٦٤٦، ٢٩٤٥. وأبو داود ٣٦٤٣. وابن ماجة ٢٢٥. وأحمد ٢/٢٥٢، ٣٢٥.
٢ متفق عليه: رواه البخاري ٧١، ٣١١٦، ٧٣١٢. ومسلم ١٠٣٧.
٣ القصة وردت في حديث متفق عليه: رواه البخاري ٣٤٠٧. ومسلم ٢٧٦٦.
1 / 16
يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله ﷿ والعمل بما علموا، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به. قال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١] .
1 / 17
الفصل الثالث: حكم طلب العلم
طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجبًا على الإنسان عينًا أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجهاد في سبيل الله، ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس.
فهذه ثلاثة أمور كلها تُحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم:
أولا: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثًا: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم.
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع، وعندهم فقه في دين الله، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله؛ لأن كثيرًا من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
1 / 18
الباب الثاني: في آداب طالب العلم والأسباب المعينة على تحصيله
الفصل الأول: آداب طالب العلم
طالب العلم لا بد له من التأدب بآداب، فذكر منها:
الأمر الأول: إخلاص النية لله ﷿:
بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله والدار الآخرة؛ لأن الله حثَّ عليه ورغَّب فيه، فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩] .
والثناء على العلماء في القرآن معروف، وإذا أثنى الله على شيء أو أمر به صار عبادة.
إذن فيجب الإخلاص فيه لله بأن ينوي الإنسان في طلب العلم وجه الله ﷿ وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة أو رتبة، فقد قال رسول الله ﷺ: "من تعلم علمًا يبتغي به وجه الله ﷿ لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعني ريحها١.
وهذا وعيد شديد لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظّ من الدنيا، ولكن لأن النُّظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته.
فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليمًا أو إدارة أو نحوها، فهذه نية سليمة لا تضره شيئًا؛ لأنها نية حق.
وإنما ذكرنا الإخلاص في أول آداب طالب العلم؛ لأن الإخلاص أساس، فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله ﷿ لأن الله ﷿ أمر بالعلم فقال تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩] .
_________
١ صحيح: رواه أبو داود ٣٦٦٤. وابن ماجة ٢٥٢. وأحمد ٢/٣٣٨. وابن ماجة ٢٨٠. وأحمد ٥/٣٤٢، ٣٤٣.
1 / 21
فأمر بالعلم، فإذا تعلمت فإنك ممتثل لأمر الله ﷿.
الأمر الثاني: رفع الجهل عن نفسه وعن غيره:
أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨] .
والواقع يشهد بذلك فتنوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسك وبذلك تنال خشية الله ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: ٢٨] .
فتنوي رفع الجهل عن نفسك؛ لأن الأصل فيك الجهل، فإذا تعلمت وصرت من العلماء انتفى عنك الجهل، وكذلك تنوي رفع الجهل عن الأمة ويكون ذلك بالتعليم بشتى الوسائل لتنفع الناس بعلمك.
وهل من شرط نفع العلم أن تجلس في المسجد في حلقة؟ أو يمكن أن تنفع الناس بعلمك في كل حال؟
الجواب: بالثاني؛ لأن الرسول ﷺ يقول: "بلِّغوا عني ولو آية" ١.
لأنك إذا علَّمت رجلا علمًا وعلَّمه رجلا آخر صار لك أجر رجلين، ولو علَّم ثالثا صار لك أجر ثلاثة وهكذا، ومن ثَمَّ صار من البدع أن الإنسان إذا فعل عبادة قال: اللهم اجعل ثوابها لرسول الله لأن الرسول ﷺ هو الذي علمك بها وهو الذي دلك عليها فله مثل أجرك.
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قالوا:كيف ذلك؟ ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره لأن الأصل فيهم الجهل كما هو الأصل فيك، فإذا تعلمت من أجل أن ترفع الجهل عن هذه الأمة كنت من المجاهدين في سبيل الله الذين ينشرون دين الله.
_________
١ صحيح: رواه البخاري ٣٤٦١، والترمذي ٢٦٦٩. وأحمد ٢/١٥٩، ٢٠٢.
1 / 22
الأمر الثالث: الدفاع عن الشريعة:
أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الكتب لا يمكن أن تدافع عن الشريعة، ولا يدافع عن الشريعة إلا حامل الشريعة، فلو أن رجلا من أهل البدع جاء إلى مكتبة حافلة بالكتب الشرعية فيها ما لا يحصى من الكتب، وقام يتكلم ببدعة ويقررها فلا أظن أن كتابًا واحدًا يرد عليه، لكن إذا تكلم عند شخص من أهل العلم ببدعته ليقررها فإن طالب العلم يرد عليه ويدحض كلامه بالقرآن والسنة.
فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الدفاع عن الشريعة لا يكون إلا برجالها كالسلاح تمامًا، لو كان عندنا أسلحة ملأت خزائنها؛ فهل هذه الأسلحة تستطيع أن تقوم من أجل أن تلقي قذائفها على العدو؟ أو لا يكون ذلك إلا بالرجال؟
فالجواب: لا يكون ذلك إلا بالرجال، وكذلك العلم ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمن الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم.
ولهذا أقول: إن ما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة.
إذن فالناس في حاجة ماسة إلى العلماء؛ لأجل أن يردوا على كيد المبتدعين وسائر أعداء الله ﷿ ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي المتلقى من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
الأمر الرابع: رحابة الصدر في مسائل الخلاف.
أن يكون صدره رحبًا في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء، إما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه ويكون الأمر فيها واضحًا فهذه لا يُعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال فهذه يُعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو
1 / 23
قبلنا ذلك لقلنا بالعكس قوله حجة عليك.
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسانَ فيه الخلافُ، أما من خالف طريق السلف كمسائل العقيدة فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي للرأي فيها مجال فلا ينبغي أن يتُخذ من هذا الخلاف مطعن في الآخرين، أو يتُخذ منها سببٌ للعداوة والبغضاء.
فالصحابة ﵃ يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه الأيام ديدنًا للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزبًا بأن يقولوا: أنا مع فلان كأن المسألة مسألة أحزاب فهذا خطأ.
ومن ذلك مثلا كأن يقول أحد إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل فأنت مبتدع كلمة مبتدع ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهية؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد ﵀ على أنه يخيّر بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع، ولكن ما هي السنة عند تحرير هذه المسألة؟
فالجواب: السنة أن تضع يدك اليمنى على اليسرى إذا رفعت من الركوع كما تضعها إذا كنت قائمًا، والدليل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"١.
فلتنظر هل يريد بذلك في حال السجود؟ أو يريد بذلك في حال القعود؟ لا بل يريد بذلك في حالة القيام وذلك يشمل القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع.
_________
١ صحيح: رواه البخاري ٧٤٠. ومالك في الموطأ ٣٧٦. وأحمد ٥/٣٣٦.
1 / 24
فيجب أن لا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سببًا للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق وكلنا فعل ما أدّاه اجتهاده إليه، فما دام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سببًا للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفوا حتى في عهد النبي ﷺ.
إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يدًا واحدة، ولا يجعلوا مثل هذا الخلاف سببًا للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، وخالفكم هو بمقتضى الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما ولهذا فنحن نحب ونهنىء شبابنا الذين عندهم الآن اتجاهًا قويًّا إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل وأن يبنوا علمهم على كتاب الله وسنة رسوله، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببا للتحزب والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد ﷺ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٥٩] فالذين يجعلون أنفسهم أحزابًا يتحزبون إليها لا نوافقهم على ذلك؛ لأن حزب الله واحد، ونرى أن اختلاف الفهم لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع في عرض أخيه.
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يُراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس، حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لا شك يفرح أعداء المسلمين والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: ٤٦] .
وكان الصحابة ﵃ يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة:
1 / 25
إن الرجل إذا خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلًّا منكما طالب للحقيقة وبالتالي فالهدف واحد وهو الوصول إلى الحق عن دليل، فهو إذن لم يخالفك ما دمت تقرّ أنه إنما خالفك بمقتضى الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقى الأمة واحدة وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها، أما مَنْ عاند وكابر بعد ظهور الحق فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.
الأمر الخامس: العمل بالعلم:
أن يعمل طالب العلم بعلمه عقيدة وعبادة، وأخلاقًا وآدابًا ومعاملةً؛ لأن هذا هو ثمرة العلم وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحامل لسلاحه، إما له وإما عليه، ولهذا ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "القرآن حجة لك أو عليك" ١.
لك إن عملت به، وعليك إن لم تعمل به، وكذلك يكون العمل بما صح عن النبي ﷺ بتصديق الأخبار وامتثال الأحكام، إذا جاء الخبر من الله ورسوله فصدِّقه وخُذه بالقبول والتسليم ولا تقل: لِمَ؟ وكيف؟ فإن هذا طريقة غير المؤمنين فقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦] .
والصحابة كان النبي ﷺ يحدثهم بأشياء قد تكون غريبة وبعيدة عن أفهامهم، ولكنهم يتلقون ذلك بالقبول لا يقولون: لِمَ؟ وكيف؟ بخلاف ما عليه المتأخرون من هذه الأمة، نجد الواحد منهم إذا حُدِّث بحديث عن الرسول ﷺ وحارَ عقله فيه نجده يورد على كلام الرسول ﷺ الإيرادات التي تستشف منها أنه يريد الاعتراض لا الاسترشاد، ولهذا يُحال بينه وبين التوفيق، حتى يردّ هذا الذي جاء عن الرسول ﷺ؛ لأنه لم يتلقه بالقبول والتسليم.
_________
١ صحيح: رواه مسلم ٢٢٣. والترمذي ٣٥١٧. والنسائي ٢٤٣٧. وابن ماجة ٢٨٠. وأحمد ٥/٣٤٢، ٣٤٣.
1 / 26
وأضرب لذلك مثلا ثبت عن النبي ﷺ أنه قال: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" ١.
هذا الحديث حدّث به النبي ﷺ وهو حديث مشهور بل متواتر، ولم يرفع أحد من الصحابة لسانه ليقول: يا رسول الله كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش أم لا؟ وما أشبه ذلك، لكن نجد بعض الناس يتكلم في مثل هذا ويقول كيف يكون على العرش وهو ينزل إلى السماء الدنيا؟ وما أشبه ذلك من الإيرادات التي يوردونها، ولو أنهم تلقوا هذا الحديث بالقبول وقالوا: إن الله ﷿ مستو على عرشه والعلو من لوازم ذاته، وينزل كما يشاء- ﷾ لاندفعت عنهم هذه الشبهة ولم يتحيروا فيما أخبرهم النبي ﷺ عن ربه.
إذن الواجب علينا أن نتلقى ما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب والتسليم، وأن لا نعارضها بما يكون في أذهاننا من المحسوس والمشاهد؛ لأن الغيب أمر فوق ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أحب أن أطيل بذكرها، إنما موقف المؤمن من مثل هذه الأحاديث هو القبول والتسليم بأن يقول: صدَق الله ورسوله كما أخبر الله عن ذلك في قوله: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ﴾ [البقرة: ٢٨٥] .
فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها لا أقول مدخل للعقل فيها، وإنما أقول لا مجال للعقل فيها، إلا لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإن كان العقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفات الكمال.
_________
١ متفق عليه: رواه البخاري ١١٤٥، ٦٣٣١، ٧٤٩٤. ومسلم ٧٥٨.
1 / 27
لا بد أن يعمل بهذا العلم الذي منَّ الله به عليه من ناحية العقيدة، كذلك من ناحية العبادة، التعبد لله ﷿ وكما يعلم كثير منا أن العبادة مبنية على أمرين أساسين:
إحداهما: الإخلاص لله ﷿:
والثاني: المتابعة للرسول، فيبني الإنسان عبادته على ما جاء عن الله ورسوله، لا يبتدع في دين الله ما ليس منه لا في أصل العبادة، ولا في وصفها، ولهذا نقول: لا بد في العبادة أن تكون ثابتة بالشرع في هيئتها، وفي مكانها، وفي زمانها، وفي سببها، لا بد أن تكون ثابتة بالشرع في هذه الأمور كلها.
فلو أن أحدًا أثبت شيئًا من الأسباب لعبادة تعبد الله بها دون دليل رددنا عليه ذلك، وقلنا: إن هذا غير مقبول؛ لأنه لا بد أن يثبت بأن هذا سبب لتلك العبادة وإلا فليس بمقبول منه، ولو أن أحدًا شرع شيئًا من العبادات لم يأت به الشرع أو أتي بشيء ورد به الشرع لكن على هيئة ابتدعها أو في زمان ابتدعه، قلنا إنها مردودة عليك؛ لأنه لا بد أن تكون العبادة مبنية على ما جاء به الشرع؛ لأن هذا هو مقتضى ما علّمك الله تعالى من العلم ألا تتعبد الله تعالى إلا بما شرع.
ولهذا قال العلماء: إن الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على المشروعية، واستدلوا على ذلك بقوله: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: ٢١] . وبقول النبي ﷺ فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة ﵂: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" ١.
حتى لو كنت مخلصا وتريد الوصول إلى الله، وتريد الوصول إلى كرامته، ولكنه على غير الوجه المشروع فإن ذلك مردود عليك.
_________
١ متفق عليه: رواه البخاري ٢٦٩٧. ومسلم ١٧٤٨.
1 / 28
ولو أنك أردت الوصول إلى الله من طريق لم يجعله الله تعالى طريقا للوصول إليه فإن ذلك مردود عليك.
إذن فواجب طالب العلم أن يكون متعبدًا الله تعالى بما علمه من الشرع لا يزيد ولا ينقص، لا يقول: إن هذا الأمر الذي أريد أن أتعبد لله به أمر تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي وينشرح به صدري، لا يقول هكذا حتى لو حصل هذا فليزنها بميزان الشرع فإن شهد الكتاب والسنة لها بالقبول فعلى العين والرأس وإلا فإنه قد يزين له سوء عمله: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر: ٨] .
كذلك لا بد أن يكون عاملا بعمله في الأخلاق والمعاملة، والعلم الشرعي يدعو إلى كل خلق فاضل من الصدق، والوفاء ومحبة الخير للمؤمنين حتى قال النبي ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ١.
وقال ﵊: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه" ٢.
وكثير من الناس عندهم غيرة وحب للخير، ولكن يسعون الناس بأخلاقهم، نجده عنده شدة وعنف حتى في مقام الدعوة إلى الله ﷿، نجده يستعمل العنف والشدة، وهذا خلاف الأخلاق التى أمر بها الله ﷿.
واعلم أن حسن الخلق هو ما يقرب إلى الله ﷿ وأولى الناس برسول الله ﷺ وأدناهم منه منزلة أحاسنهم أخلاقًا كما قال ﷺ: "إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون". قالوا يا رسول الله! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون" ٣.
_________
١ متفق عليه: رواه البخاري ١٣. ومسلم ٤٥.
٢ صحيح: رواه مسلم ١٨٤٤. والنسائي ٤١٩١. ابن ماجة ٣٩٥٦. وأحمد ٢/١٦١، ١٩١، ١٩٢.
٣ حسن: رواه الترمذي ٢٠١٨. وأحمد ٤/١٩، ١٩٤. وحسنه الألباني في صحيح الجامع رقم ٢٢٠١.
1 / 29
الأمر السادس: الدعوة إلى الله:
أن يكون داعيًا بعلمه إلى الله ﷿ يدعو في كل مناسبة في المساجد، وفي المجالس، وفي الأسواق وفي كل مناسبة، هذا النبي ﷺ بعد أن آتاه الله النبوة والرسالة ما جلس في بيته بل كان يدعو الناس ويتحرك، وأنا لا أريد من طلبة العلم أن يكونوا نسخًا من كتب، ولكني أريد منهم أن يكونوا علماء عاملين.
الأمر السابع: الحكمة:
أن يكون متحليًا بالحكمة، حيث يقول الله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] .
والحكمة أن يكون طالب العلم مُربيًا لغيره بما يتخلق به من الأخلاق، وبما يدعو إليه من دين الله ﷿ بحيث يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وإذا سلكنا هذا الطريق حصل لنا خير كثير كما قال ربنا ﷿: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ .
والحكيم هو: الذي ينزل الأشياء منازلها؛ لأن الحكيم مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، وإتقان الشيء أن ينزله منزلته، فينبغي بل يجب على طالب العلم أن يكون حكيمًا في دعوته.
وقد ذكر الله مراتب الدعوة في قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] وذكر الله تعالى مرتبة رابعة في جدال أهل الكتاب فقال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: ٤٦] فيختار طالب العلم من أساليب الدعوة ما يكون أقرب إلى القبول.
ومثال ذلك في دعوة الرسول ﷺ، جاء أعرابي فبال في جهة من المسجد، فقام إليه الصحابة يزجرونه، فنهاهم النبي ﷺ، ولما قضى بوله دعاه النبي وقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي
1 / 30