وحدة المصدر
الضابط الأول: وحدة المصدر، أي: أن المصدر الرئيسي والأول لعلم الصحابة كان هو: الكتاب والسنة، وكون هذا هو المصدر الرئيسي لعلم الصحابة فقد أدى ذلك إلى ما يسمى بوضوح الرؤية، فقد أخذوا علمًا نقيًا طاهرًا مضمون الصحة والصواب، لا العلم الدنيوي الذي يرد عليه الصحة والخطأ، والذي يتقرر صحته بعد ذلك بعدة تجارب، فهذا هو المقياس الذي يمكن أن نقيس عليه أي شيء آخر، فليس هناك في كلام الله ﷿ ولا في كلام رسول الله ﷺ -إن صح عن رسول الله ﷺ أيُّ أخطاء، فهو منهج صحيح تمامًا بلا ريب، فإذا اعتمد عليه المسلمون فلن يضلوا أبدًا.
روى الإمام مالك في موطئه عن عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه أن رسول الله ﷺ قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنتي) فهذا أول ضابط في تحصيل العلم، وسواء في العلوم الشرعية أو غير العلوم الشرعية.
وهناك
السؤال
كيف يمكن أن يكون الكتاب والسنة هما الضابط في علوم الدنيا (العلوم غير الشرعية)؟
و
الجواب
أن هناك قواعدًا وأصولًا وضعها القرآن والسنة، وعلماء الطب والهندسة والفلك والجيولوجيا وكل علم لا بد أن يعرف هذه الأصول، ولا يخترعوا شيئًا أو يبدأوا في علم أو يفكروا في نظرية تتعارض مع ما جاء في كتاب الله ﷿، فلا يصح لأحد أن يقول: إن الإنسان أصله قرد! ويقول: إنه عالم من علماء الأحياء، والذي يقول هذا الكلام يعلم أن الله ﷾ بيَّن في كتابه الكريم آن آدم أول الخلق، وأنه خلقه ولم يكن قردًا قبل ذلك، بل ولم يكن حشرة قبل ذلك كما يدّعي علماء التطور، إذًا فهذا علم يتعارض مع القرآن والسنة، وليس له أي قيمة ولا أي وزن، ولا يجب لعالم مسلم أن يسير في طريق هذا العلم؛ لأنه متعارض مع المصدر الرئيسي.
ولذلك عندما خرج الصحابة أحيانًا عن هذا المصدر في الفهم، أو عن هذا الضابط الذي هو وحدة المصدر، كان ﷺ يغضب غضبًا شديدًا؛ وبهذا نستطيع أن نفهم الرواية التي أتت في مسند الإمام أحمد بن حنبل ﵀، وجاءت أيضًا في سنن الدارمي عن جابر بن عبد الله ﵄ أنه قال: (أن رسول الله ﷺ كان يسمع عمر بن الخطاب وهو يقرأ في التوراة، فجعل وجه رسول الله ﷺ يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل - أي: أنه يكلم عمر بن الخطاب - ما ترى ما بوجه رسول الله ﷺ؟ فنظر عمر إلى وجه رسول الله ﷺ فقال: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله ﷺ، رضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد ﷺ نبيًا، فقال رسول الله ﷺ: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟) أي: أترى أن هذا الذي قد أتاك قليل وتريد أن تضيف عليه من مصدر آخر؟!: (والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتحدثوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى ﵇ كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني) إذًا: فالصحابة فهموا من هذا الموقف أنه لا يوجد شيء يتقدم على كتاب الله ﷾، ولا على سنة رسوله ﷺ، وأنه لا يمكن أن يتعلموا قانونًا أو قاعدة أو مفهومًا يتعارض مع هذين المصدرين العظيمين، أعني: الكتاب والسنة.
وعبد الله بن عباس حبر هذه الأمة قد تعلم هذا الدرس جيدًا، فقد جاء في البخاري أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله ﷺ أحدث؟: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ [المائدة:٣] أي: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أُنزل على رسول الله ﷺ والذي تقرءونه لا يزال حدثًا لم يشب، ولم يختلط بغيره، فهو نقي وخالص وطاهر، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدّلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوه بأيديهم وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟! لا والله ما رأينا رجلًا منهم يسألكم عن الذي أُنزل عليكم، أي: ومع أن هذين المصدرين -الكتاب والسنة- هما المصدر الحقيقي الخالص، لا يسألونكم فكيف بكم تسألونهم؟!
5 / 6