القيمة الحقيقية للمفاضلة بين الناس
فقه الصحابة أن القيمة الحقيقية التي تصلح للمفاضلة بين الناس هي العلم، فالتفاضل بين الناس لا يكون بالمال ولا بالسلطان ولا بالجند ولا بالمظهر، وإنما المهم أن تعلم أهمية العلم، لكن قد يأتي سائل فيقول: لكن الله ﷾ يقول: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات:١٣]، يعني: أن الأتقى هو الأفضل، فكيف ذلك؟ أقول له: فمن الذي يتقي الله ﷿؟ أليس العالم به؟ أليس العالم بصفاته ﷾؟ أليس العالم بشرعه؟ أليس العالم بخلقه؟ ألم تسمع إلى كلام الله ﷿ في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:٢٨]؟ وما هي الخشية؟ أليست هي التقوى؟ وعندما تخشى الله ﷿ تكون متقيًا لله ﷿: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:٢٨]، وكلما ازداد العالم علمًا ازداد خشية وتقوى لله ﷿، وليس معنى العالم أني أقصد كبار هيئة العلماء وكبار الفقهاء، فأي شخص عرف معلومة صحيحة أصبح بها عالمًا، وكلما عرف أكثر ارتفعت قيمته، وأعظم العلماء هم أعظم الناس قيمة، وليس فقط في ميزان الناس ولكن أيضًا في ميزان الله ﷿.
فهذه معلومات في غاية الأهمية، ولهذا فالذي يصرف وقته في تعلم العلم أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة، ولم أقل: بأنه أفضل من الذي يصرف وقته في اللعب أو في المعصية أو في المنكر! لا، وإنما أفضل من الذي يصرف وقته في العبادة، واسمع إلى حديث رسول الله ﷺ الذي رواه الترمذي وابن ماجة عن عبد الله بن عباس ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: (فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد) وانظروا إلى قيمة هذا العلم؛ لأن العالم أشد معرفة لمداخل الشيطان، وأكثر قدرة على التصدي له، ولذلك فهذا العالم أشد على الشيطان من ألف عابد، وليس المقصود بالعلم: العلم الشرعي فقط، من تفسير وفقه وحديث وعقيدة، بل علوم الحياة أيضًا، وقد تكلمنا عن ذلك في محاضرة كاملة واسمها: (أمة الإسلام بين علوم الشرع وعلوم الحياة)، وتحدثنا عن علوم الحياة وقيمتها في ترسيخ معنى الإيمان بالله ﷿ في قلب العالم، لذلك فإنه من المؤكد أن العالم الذي يدرس تركيب الخلية مثلًا أعظم تقديرًا لله ﷿ من الذي يعلم وجودها إجمالًا، فهذه الخلية على صغرها إلا أنها دولة كاملة، وعالم ليس له نهاية، ففيها قيادة، وإدارة، ومراكز طاقة، ومراكز تغذية، ومراكز دفاع، ومراكز بناء، ومراكز هدم، فتتحرك وتتكاثر، وتقوم بوظائف لا تحصى ولا تعد، فيكون الذي يعرف تفاصيل هذه الأمور أشد إيمانًا بالله ﷿ من الذي لا يعلم بهذه التفاصيل، وكذلك العالم الذي يدرس تفاصيل حياة النبات ونشأته وتركيبه ليس كالذي يعلم فقط أن النبات شيء معجز، وأيضًا العالم الذي يدرس الأفلاك واتساعها، والنجوم وأعدادها، والمجرات وصفتها ليس كالذي يعلم فقط أن هناك نجومًا في السماء، وقس على هذا بقية العلوم كالكيمياء والفيزياء والجيولوجيا، وعلوم البحار والطب والأحياء، وعلوم أخرى لا تنتهي، وصدق الله ﷿ القائل: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء:٨٥] فكل هذه العلوم، أي: علوم الشرع وعلوم الحياة تقود إلى خشية الله ﷿، ومن ثم تقود إلى تقواه، ومن ثم تقود إلى رضا الله ﷿، وهذا هو الذي نبحث عنه، وهو طريق الصحابة الذي ساروا فيه، وهذه الحقائق كانت واضحة كالشمس في عيون الصحابة، وبعد أن علموا هذه المعلومات رفعوا جدًا من قدر كل عالم، وحرصوا على العلم في كل لحظة من لحظات حياتهم، لذا كان لا بد أن تتعلم شيئًا في كل يوم، لأن الله قد رفع من قيمة العلم من أول يوم خلق فيه آدم ﵇، وذلك عندما أسجد الله ﷾ ملائكته لآدم ﵇؛ لقيمة العلم الذي كان عنده، لا بكثرة التسبيح وطول القيام، أو الطاعة المطلقة، أو القوة الخارقة، أبدًا، فالملائكة تتفوق في كل هذه الأمور، ولكن الله ﷿ من على آدم ﵇ بنعمة رفعت من قدره إلى الدرجة الذي جعل الملائكة يسجدون له تكريمًا له، ألا وهي العلم كما ذكرنا، واقرءوا القرآن وتدبروا في آيات الله ﷿ ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا
5 / 3